الوباء فرصة للتخلّص من منظمات إقليمية جامدة

الوباء فرصة للتخلّص من منظمات إقليمية جامدة

عرّت أزمة “كوفيد-19” تقاعس منظمات دولية في مهامها لعجزها عن إيجاد حلول خلّاقة لمواجهة هذا الوباء أو حتى تهدئة الصراع العالمي للحصول على الكمامات والمعدّات الطبية، ما يضع مستقبلها على المحك أمام خفوت دورها في ظل الأزمة الصحية الطارئة، كما في الملفات الإقليمية الساخنة، ويضع الوباء هذه المنظمات أمام اختبار حقيقي، وقد تخط كورنا نهاية تكتلات مثل الجامعة العربية التي تلزم مع كل أزمة الصمت، وقد تضخ الحياة لدى المنظمات التي استوعبت دروس كورونا، وستشكّل الأزمة الصحية فرصة لإنعاش دورها.

تخرج المنظمات الإقليمية من رحم الحروب والتحديات التي تواجهها منطقة معيّنة أو دول عدة، وتلتفّ حول مجموعة من الأهداف الإستراتيجية، وتأتي التحالفات عندما تتوافر رغبات وقواسم مشتركة، وصعدت غالبية الاتحادات الراهنة مع انتهاء حقب فاصلة في التفاعلات الإقليمية والدولية أوجبت البحث عن صيغة تلبّي طموحات عدد من الدول، فكانت منظمة الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، ناهيك عن حزمة كبيرة من الاندماجات في مناطق مختلفة، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

أصبح الاتجاه نحو التعاون سمة بارزة في النظام الدولي، وزاد التعويل عليه خلال العقدين الماضيين، ولم تعُد هناك دولة أو منطقة من غير غطاء إقليمي تلتحف به. وعندما قررت بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي بدا الموقف مغايرا للتصوّرات العامة التي تفضلها التكتلات، ولحسابات داخلية معقدة قررت المملكة المتحدة المضيّ في طريق “بريكست”، الأمر الذي أحدث هزة اقتصادية وسياسية في العلاقات بين لندن والمجموعة الأوروبية.

ومثّل الاجتماع الذي عقدته مجموعة العشرين عبر الفيديو كونفراس في 26 مارس الماضي، بارقة أمل في مجال تعاون الدول الكبرى، لكن نتائجه بدت دبلوماسية أكثر من اللازم، وتواجه تعهداته بضخ 5 تريليونات دولار عقبات بسبب حساسية المشكلات التي أحدثها تفشّي كورونا على نطاق واسع، وحتى الإجراءات الاستثنائية التي اتخذت لدعم بنوك وهيئات مركزية لمواجهة المرض مشكوك في تنفيذها، مع انغماس كل دولة في همومها.

جرت حوارات ومناقشات داخل بعض المنظمات، وجميعها لم تتبنّ تحركات عملية تتفق مع تعاظم الأزمة، ولم تقدّم الحلول الخلّاقة التي تخفض مستوى التهديدات المستجدة، وانكفت كل دولة على نفسها، فلأول مرة ينبثق خطر بصورة تعجز الأمم في التلاحم لوقف تمدّده.

كل دولة اختارت الصيغة التي تتواءم مع ظروفها المحلية في طرق العلاج والصورة التي تريد تصديرها للآخرين

كشفت أزمة كورونا الغطاء عن قتامة المصير الذي تنتظره الكثير من المنظمات الإقليمية في شكلها الحالي كأنه أسقط في أياديها، ولم يتبين الدور الفاعل لأيّ منها في مكافحة الوباء وتوفير مستلزماته الطبية، ورأينا صراعا لاغتصاب معدّات صحية بلا وجه حق، ونزاعا بشأن استقطاب علماء وصل لدرجة عدم التردد في سرقة أبحاثهم ومبتكراتهم، واختفى التفاهم حيال تقديم تصوّرات لعلاج الآثار الاقتصادية للأزمة، بخلاف أزمات أخرى مرّ بها العالم من قبل.

مع أن الجائحة واحدة، إلا أن القلوب والعقول شتّى، فالمرض لم يقتصر على دولة تستحق المساعدة، كما حدث مع اليونان عندما أعلنت إفلاسها وتكاتف معها الاتحاد الأوروبي لإنقاذها، وفي هذه المرة لم تتفق دولة على الحدّ الأدنى للتفاهم الجماعي حول آليات التعامل مع الأزمة، التي حوّلت غالبية الاتحادات الإقليمية إلى أشباح كيانات فاقدة الصلاحية، إما تختفي من هذا العالم، وإما تدبّ فيها الدماء لإنعاشها وفقا لما تفرزه كورونا من نتائج، لا تزال معالمها ملتبسة.

أوجدت الدول الكبرى والصغرى منهجها الطبي والاقتصادي والاجتماعي في التعامل مع الأزمة، ولا يخلو من مضامين سياسية، وطغت الإجراءات الفردية على غيرها، وكل دولة اختارت الصيغة التي تتواءم مع ظروفها المحلية في طرق العلاج، والصورة التي تريد تصديرها للآخرين، وتولّى كبار المسؤولين مهمة التعبير عن تطوّرات الوباء في غياب شبه تام لفكرة التعاون الإقليمي، والاحتفاظ بالحدّ الأدنى من العلاقات الثنائية، في شكل مساعدات طبية، ومشاورات علمية، وأحيانا تراشقات سياسية.

اختفت الجامعة العربية أكثر ممّا يجب، وعلى وشك أن تفقد دورها الرمزي في عقد اجتماعات استثنائية توحي بالزخم المعنوي في مواجهة الأزمات الطارئة، وربما هذه المرة الأولى التي تعرف فيها الجامعة قدرها العملي في قضية يعجز المجتمع الدولي عن حل ألغازها الدقيقة، وتضن على الشعوب العربية ببيان يشجّب ويدين كالعادة، وأدركت من تلقاء نفسها أن اليوم يوم حرب على الإنسانية لا يفلح معها استدعاء خطابات جوفاء إنشائية.

فضح كورونا عورة الجامعة العربية التي فقدت بريقها منذ سنوات، كما رسبت من قبل في حلّ أيّ أزمة إقليمية أو تسوية مشكلة ثنائية أو إحداث تقارب حول قضية مركزية، وتخلّت عن موقفها الذي يوحي أنها موجودة على قيد الحياة، وهو التنديد بالصراخ والضجيج.

تجاهلت أن الصمت التام ليس فضيلة ويمكن أن يفقدها رمزيتها، ويعجّل بإنهاء وظيفتها الباقية، فالعالم مُقبل على تحوّلات تقتضي كيانات تستطيع التعامل مع المفاجآت، فما بالنا والجامعة ماتت إكلينيكيا منذ أدمنت الدوران في حلقة مفرغة مكرّرة في أزماتها وإخفاقاتها؟

تجسّد الجامعة العربية نموذجا صارخا للفشل في مواجهة القضايا المصيرية، لذلك جرى اختيارها كمثال، وما ينطبق عليها ينسحب بدرجة أقلّ على الاتحاد الأفريقي وكثير من الكيانات الإقليمية الهشة، فإذا كانت المنظمات الأكبر والأقوى لم تنجح في الاختبار فمن الطبيعي أن تفشل من هي أقلّ، ما يفرض إعادة النظر في الجدوى والقيمة والمعنى الذي يقدّمه استمرار الاتحادات الإقليمية جامدة.

تشير المعطيات التي سلكتها نتائج انتشار “كوفيد-19” إلى أنّ هناك جدرانا تسقط وأخرى تنهض، وعوالم سياسية واقتصادية تتشكّل، وفرضيات عدّة تطال توصيف الدور الذي تلعبه هياكل مختلفة، ما يستوجب وضع كلها أو بعضها في مواجهة العواصف التي فجّرها بركان كورونا، فالمهام التي تقوم بها ونشأت من أجلها تتحلل أو تتراجع أمام المتغيّرات التي تظهر كل يوم، ويصعب تحديد وجهتها النهائية حتى الآن.

تتطلّب مقدمات المشهد البازغ في عالم كورونا قياس المشهد بعد خفوته ومعرفة حجم التغيّر الذي سوف يلحق بالدور الذي تقوم به الكثير من المنظمات الإقليمية. لا أحد يستطيع القطع بإلغاء هذا الدور تماما، سواء كان كبيرا أم صغيرا، معنويا أم ماديا، لكن المؤكد أن هناك إعادة تفكير في المهام الحيوية التي تقوم بها بعض الاندماجات، ومحاولات لترتيب سُلّم الأولويات.

حملت الكثير من الاتحادات الإقليمية جملة من الأهداف التي فرضت تكوينها أصلا، ومعظمها يتعلّق بتحسين مستوى التعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني والتفاهم السياسي، لإحراز مكاسب أو درء خسائر جماعية، وقد تحقق ذلك بنسب متفاوتة، في أعلاها أو أدناها لم تكن قادرة على التعاطي مع الانعكاسات السلبية التي حملتها الرياح التي هبّت مع كورونا.

ربما تتمكّن بعض المنظمات الإقليمية من التكيّف مع الواقع الجديد ومتطلّباته المتنوعة، ويعيد ربانيو السفن توجيهها إلى الناحية الصحيحة، ورسم خارطة من الأهداف المبتكرة تستطيع عبور التأثيرات الغامضة التي ستترتب عن الأزمة. وهنا جوهر المشكلة التي من الضروري التغلّب عليها، وهي إجراء تعديلات في البروتوكولات الأساسية التي ظهرت مع التكوين.

تتراوح أشكال المنظمات الإقليمية بين الاقتصادية والسياسية والدفاعية والأمنية، فضلا عن الصحية والاجتماعية والإنسانية الموزعة حسب المناطق وتتبع غالبيتها الأمم المتحدة، وهناك قائمة طويلة منها تقف شاهدة على مستوى النجاح والفشل، وكلها سوف يلحقها التغيير لتتوافق مع التطورات المتسارعة وما ينجم عنها من تغيّرات في الرؤى والتقديرات.

قد يكون النجاح حليفا للاتحادات والاندماجات التي تستوعب دروس كورونا، والعكس صحيح، لذلك سوف تتطور منظمات وتختفي أخرى من الخارطة الإقليمية، وربما يصبح الوباء فرصة للتخلّص نهائيا من منظمات متقاعسة، أو يضعها أمام المسؤولية لإعادة اكتشاف دورها، فقد تقضي الجائحة على كيانات بقيت لأجل البقاء، دون أن تظهر بصمات ملموسة.

العرب