يتصاعد الحديث وتُطرح الآراء وتدبج المقالات حول نظام عالمي جديد؛ يلي ما بعد جائحة فيروس كورونا المستجد؛ ومنها مقال وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق؛ هنري كيسنجر، حول النظام المحتمل، وركز فيه على ثلاثة مجالات رئيسية هي: 1) تعزيز قدرة العالم على مقاومة الأمراض المعدية بالاهتمام وتطوير البحث العلمي، و2) السعي لمعالجة الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي جراء تفشي الجائحة، التي لم يسبق لها مثيل؛ من حيث السرعة وسعة النطاق، و3) حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي(!!).
وختم المقال بالقول: «إن التحدي التاريخي الذي يواجه قادة العالم في الوقت الراهن هو إدارة الأزمة وبناء المستقبل في آن واحد، وإن الفشل في هذا التحدي قد يؤدي إلى إشعال العالم» وفي الإشارة إلى المجال الثالث عن «حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي» بدا كيسنجر من أنصار استمرار النظام الحالي، ومتجاهلا تحول «الليبرالية الجديدة».
لسياسة مهيمنة وعمل ممنهج؛ أشعل النيران وأعمل معول التدمير في العالم من أقصاه إلى أقصاه، وكان رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير قد أخذ بها من عام 1997، وألبسها لبوس الدين والعقيدة والتقديس، وابتعد عن الاعتدال، وزايد بها على ليبرالية المرأة الحديدية مارغريت تاتشر.
وفور استقالته من رئاسة الوزارة في 2007 عُين مبعوثا للجنة الرباعية الدولية؛ بدعوى «حل المشاكل العالقة بين السلطة الفلسطينية والدولة الصهيونية»، وتعددت دعوات مقاطعته، ومَنْع التعامل معه، واتهامه بعدم المصداقية، وتم النظر إليه كموظف صغير يعمل لحساب حكومة تل ابيب، ولذا فشل فشلا ذريعا.
وعلى صعيد القضية محل البحث، فهناك ما يشبه الإجماع على خضوع الاقتصاد العالمي الراهن لسيطرة ثلاث كتل اقتصادية رئيسية؛ تتبادل 75٪ من السلع فيما بينها، وهي: كتلة أوروبية؛ مكونة من المنطقة الاقتصادية الأوروبية، ومن دول الاتحاد الأوروبي، والدول الأعضاء في رابطة منطقة التجارة الحرة الأوروبية. وكتلة امريكية؛ شمالية وجنوبية، ودولها منخرطة في تكتلات اقليمية، ومناطق تجارة حرة، مثل منظمة التجارة الحرة لامريكا الشمالية؛ نافتا، والسوق المشتركة لأمريكا اللاتينية (الجنوبية) ميركوسور، وكتلة آسيوية؛ من رابطة دول جنوب شرق آسيا ، ثم من منطقة التجارة الحرة الآسيوية، التي حملت اسم أفتا بعد ذلك،
والنزوع نحو التكتل لم يغب يوما عن السياسات الرسمية لأصحاب الأوزان الاقتصادية والمالية المؤثرة، ولم تتسبب الحرب العالمية الثانية بضحاياها وخسائرها الفادحة، والأثمان التي دُفعت، والخرائط التي تغيرت، والدول التي نشأت؛ لم تتسبب في محو ذلك النزوع من عقول صناع تلك السياسات. وعاد المسعي الأوروبي للتكتل؛ بعد أقل من ست سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وظهر أول تكتل في 1951؛ باتفاق؛ فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبرج وهولندا وإيطاليا، وتأسيس تكتل للفحم والصلب، وتطور منذ «اتفاقية روما» عام 1957، فاتسعت آفاق التعاون بين دوله، وتغير اسمه إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية، التي ضمت المملكة المتحدة والدانمارك عام 1973، ثم اليونان عام 1981، فاسبانيا والبرتغال في 1986، وآيرلندا في 1993، وانتهاء بالسويد وفنلندا والنمسا عام 1995.
وفور توقيع معاهدة «ماسترخت» بهولندا في 1992؛ انخرطت مختلف الهيئات والمنظمات الأوروبية في الاتحاد الأوروبي، وقد أخذ في التوسع بين دول أوروبا الشرقية؛ مع تداعيات وتوابع انهيار الاتحاد السوفييتي، ودخلته أستونيا، وبولندا، وجمهوريات التشيك وسلوفاكيا وسلوفينيا ولاتفيا وليتوانيا والمجر، ثم قبرص ومالطا. وانضمت رومانيا وبلغاريا في 2007، ووصل عدد أعضاء الاتحاد الأوروبي إلى 28 دولة بحلول عام 2014- وبقيت البوسنة وكوسوفو مرشحتين للانضمام. بجانب من هم على قائمة الانتظار؛ كتركيا وألبانيا وأيسلندا ومقدونيا والجبل الأسود (مونتنيغرو) وصربيا.
السعي لمعالجة الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي جراء تفشي الجائحة، التي لم يسبق لها مثيل؛ من حيث السرعة وسعة النطاق
ورغم ذلك النزوع نحو الوحدة والتكتل، أجرت بريطانيا استفتاء في حزيران/يونيو 2016 للانفصال، وهي خطوة أثارت قلق الدول الأعضاء، وتحدد الموعد النهائي لانفصال بريطانيا في 31/ 12/ 2020، وما زال الأمر معلقا بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، وهل ستؤدي لتعطيل الانفصال؟، وأثار انتشار الفيروس في أنحاء أوروبا جدلا واسعا حول قدرة الاتحاد الأوروبي في التصدي، وتحمل آثار الانفصال البريطاني، ومعالجة آثار الإصابات والضحايا في إيطاليا وأسبانيا وفرنسا وألمانيا، وباقي دول أوروبا، وأثارها السلبية على بنية الاتحاد الأوروبي.
والإجراء الأبرز الذي اتخذه الاتحاد الأوروبي أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقضى بحظر دخول مواطني الدول غير الأعضاء إلى منطقة شنغن، وطُبّق ذلك من منتصف الشهر الماضي ولمدة 30 يوما. وعن حال الاتحاد الأوروبي الراهن؛ كتبت صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية مقالا عن «ملامح انقسام في الاتحاد الأوروبي»، وأشارت إلى وصف المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إلى جائحة كوفيد ـ 19 كأكبر تحد للاتحاد، فضلا عما أثاره تمسك حكومتها بوحدة أوروبا وحماية أمنها من تساؤلات عن إمكانية صمود المبادئ الأساسية التي قام عليها الاتحاد أمام الظروف الراهنة. وطفت التحديات الاقتصادية على السطح، فإيطاليا ودول جنوب أوروبا تطالب بآلية جديدة للإقراض، وشروط ملائمة للسداد. وإصدار سندات حكومية باسم «كورونا بوند»؛ بضمان اقتصادات البلدان الأوروبية القادرة. وتعارض ألمانيا ودول شمال أوروبا هذه المبادرة، فديونهم الخارجية آمنة، واقتصادهم مستقر.
ولم تكن مشاكل الاتحاد الأوروبي وحدها هي التحدي الذي يواجه العمل على قيام نظام عالمي جديد، فهناك منظمة بريكس ، التي تأسست في 2006؛ من البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا، واسمها مكون من الحروف الأولى لأسماء الدول المؤسِّسة، وتستهدف تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي بينها، وتحقيق مصالحها، وتطلعاتها، وأهمها وأكثرها مدعاة للقلق من أنصار استمرار النظام العالمي الحالي؛ هو تطلعها لإقامة نظام دولي؛ قوي ومتعدد الأقطاب، ولديه قدرة على مواجهة الصدمات الاقتصادية العالمية، وخاصة أن بريكس جسد عمليا القدرة على مواجهة الأزمة المالية العالمية في 2008، وعصفها باقتصاديات متقدمة، وأثرها السلبي على الاقتصاد العالمي؛ وخضوعه لهيمنة الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة.
وكان بريكس قد تعزز في قمة عام 2009؛ حضرها رؤساء الدول الأربعة المؤسسة له؛ اتفقت على إقامة نظام دولي متوازن؛ يعزز التعاون والتنسيق بينها في المجالات كافة، وفي مقدمتها المجال الاقتصادي. ويستمد بريكس قوته من معدلات نموه السريع، وعدم تأثره بأزمة 2008، إضافة إلى رصيده البشري بنحو 3 مليار نسمة؛ يمثلون 42.1٪ من إجمالي سكان المعمورة، ويشغلون مساحة تقدر بحوالي 40 مليون كم²؛ ونحو 30٪ من مساحة اليابسة، ومن الناحية الاقتصادية فاستثمارات دول بريكس بمليارات الدولارات في مشروعات مشتركة؛ بلغ ناتجها الإجمالي في 2016 نحو 16.4 تريليون دولار؛ بنسبة 22.3٪ من الناتج العالمي. وتحتل اقتصاديات دول بريكس مراتب متقدمة عالميا؛ فاقتصاد الصين في المركز الثاني عالمياً، وعلى بعد قدم من المركز الأول، والهند في المركز الرابع عالمياً، وروسيا تحتل المركز السادس عالمياً، والبرازيل التاسع عالمياً، وتحتل جنوب إفريقيا المركز الخامس والعشرين عالمياً.
ولا يجب إغفال الأهمية الجيوسياسة لدول بريكس، ومواقعها الاستراتيجية، ومواردها المتعددة، وموادها الأولية والطاقة، ويبلغ حجم إنتاجها من الطاقة أكثر من 40٪ من الانتاج العالمي. وحجم الإنفاق العسكري حسب تقرير وكالة سبوتنيك الروسية يمثل 10.8٪ من حجم الإنفاق العسكري العالمي، وتجدر الإشارة إلى ثلاث دول من بريكس؛ روسيا والصين والهند تملك مجتمعةً نحو 3060 رأس نووي؛ لروسيا وحدها 2800 رأس تقدر بنحو 52٪ من المخزون العالمي.. وتسعى دول بريكس بجدية لخفض التعاملات بالدولار بينها، وبدأت في إنشاء نظام مالي واقتصادي خاص بها.
وقوة بريكس فتية وصاعدة عالميا، وتملك قدرات اقتصادية هائلة، ولديها موارد وطاقات متنوعة ومتعددة؛ من مصادر طاقة وتصنيع وتقانة؛ تعزز المنافع المتبادلة، والمصالح المشتركة لتلك الدول، ووحدة تطلعاتها من أجل نظام دولي جديد؛ متعدد الأقطاب، ويعود السؤال مجددا هل هذا ممكن؟! ونرد بأن الأمر ليس سهلا في ظل الانفلات والبلطجة، التي تقودها واشنطن وأتباعها، الذين سيعملون على منع قيامه!
محمد عبدالحكم دياب
القدس العربي