“كورونا العراقي” وقواعد اللعبة: هكذا يسخر الفيروس من البنية الطبية وخلافات الحكومة والطائفية

“كورونا العراقي” وقواعد اللعبة: هكذا يسخر الفيروس من البنية الطبية وخلافات الحكومة والطائفية

“كورونا” في العراق يعيش حياة جيدة؛ مستشفيات لا تتحمل ضغط المرضى (العاديين أصلاً) وغير قادرة على مواجهة تفشي مرض جلب إليهم آلاف المرضى أو من هم مشكوك بإصابتهم. في العراق 0.8 طبيب لكل ألف شخص، وعدد الأسرة 1.4 لكل ألف.وتتحدث التقارير الرسمية عن نحو 1500 مريض، وهو رقم وهمي، حيث عدد الفحوصات صفري، وقدرة العثور على المصابين تقريباً غير موجودة. في الدولة يعيش أكثر من 1.5 مليون مهاجر، بدون تسجيل أو إشراف وبدون قدرة على الوصول إلى المراكز الطبية.

في السنوات الأخيرة لم تخلق أي بنية تحتية طبية، بل باتت مدمرة، وتعود مصادرها إلى حربي الخليج الأولى والثانية وإلى العقوبات التي فرضت على العراق بين 1990 – 2003، وإلى الاحتلال عن طريق قوى التحالف الذي هربت أو أقيلت خلاله طواقم طبية في إطار عملية التطهير من المخلصين لصدام حسين. بعد ذلك، عندما احتل داعش العراق جزئياً، انتقلت إليه السيطرة على المستشفيات في جنوب الدولة وغربها. وهذا الأمر أدى إلى هرب آلاف الأطباء والممرضين وتدمير آخر لبنى المؤسسات الطبية المادية. وحتى الآن لم تنجح حكومة العراق في إصلاح أجزاء كبيرة من جهاز الصحة، حيث خصصت ميزانية الدولة للعام 2019 نحو 18 في المئة للأمن و3 في المئة فقط للصحة.

إلى جانب البنية التحتية الطبية المتهالكة لا يوجد اليوم في العراق حكومة تستطيع اتخاذ قرارات وتحديد سلم أولويات ومعالجة الأزمة الاقتصادية التي تطورت حتى قبل كورونا. منذ كانون الأول 2019 تدير الدولة حكومة انتقالية، بعد استقالة رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي في أعقاب موجة احتجاج كبيرة عمت الدولة خلال أسابيع. أما اللذان جاءا بعده وعينهما الرئيس برهم صالح من أجل تشكيل حكومة جديدة فقد فشلا في المهمة بسبب خلافات على الكراسي والميزانيات. في هذه الأثناء يحاول مرشح جديد هو مصطفى كاظمي، الذي كان رئيس المخابرات، تشكيل حكومة متفق عليها تستطيع مواجهة الوباء ومواجهة الطلبات المالية الضخمة المقترنة بها.

احتمالات نجاحه ليست بأفضل من احتمالات أسلافه. الخلافات الطائفية والسياسية ما زالت على حالها، وأضيف إليها انخفاض سعر النفط الذي يقلص مصدر الدخل الرئيسي للدولة وقاعدة ضماناتها مقابل القروض من المؤسسات الدولية. صحيح أن إغلاق الحدود مع إيران بسبب تفشي فيروس كورونا غير شامل وأن التهرب ما زال مستمراً، إلا أن التجارة الرسمية بمبلغ 12 مليار دولار في السنة، تعرضت إلى ضربة شديدة.

وقد أضيف إلى العقبات المشهورة عقبة أخرى هي الانسقام في صفوف المليشيات الشيعية. هذا الأمر يمكن أن يحدث مواجهة عنيفة بين القوات التي تؤيد النظام والقوات الموالية لإيران. في الفترة الأخيرة انفصلت أربع وحدات تعد نحو 30 – 40 ألف مقاتل عن المليشيات الشيعية التي تشغلها وتمولها إيران، وبدأت في إجراء مفاوضات مع وزير الدفاع العراقي حول إمكانية انضمامها إلى الجيش النظامي.

هذه المليشيات مخلصة للقيادة الشيعية الدينية، التي على رأسها آية الله علي السيستاني. وخلفية الانفصال تكمن كما يبدو في الخلاف على تعيين قائم مقام لأبو مهدي المهندس الذي تمت تصفيته في كانون الثاني في الهجوم الأمريكي مع الجنرال قاسم سليماني، قائد قوة القدس الإيرانية. قررت إيران تعيين عبد العزيز المحمداوي المعروف بلقب أبو فدك، الذي كان مقرباً جداً من سليماني. في حين أن المليشيات المنشقة تعارض التعيين ليس فقط على خلفية شخصية، بل أيضاً بسبب الرغبة في التحرر من الارتباط بإيران.

ليس هذا هو الانشقاق الوحيد في المليشيات، فهناك مليشيات موالية لإيران فيها خلافات حول توزيع المناصب وحجم الميزانيات، خاصة بعد أن قلصت إيران حجم المساعدات المالية التي كانت تحولها لها. في أعقاب الانشقاقات تضعف التراتبية والانضباط للقيادة المركزية للمليشيات التي يقف على رأسها العراقي فالح الفياض، الرجل الذي أعلن بأن المليشيات الشيعية هي الضمانة الوحيدة لتحقيق “مشروع الخميني”: إقامة دولة شريعة في العراق تشبه الموجودة في إيران.

هذا التطور يؤدي إلى وضع بدأ فيه عدد من المليشيات في العمل بمبادرتها الذاتية ضد أهداف أمريكية، في الوقت الذي يعتقد فيه قادة آخرون أنه يجب الامتناع عن ذلك من أجل عدم إعطاء الولايات المتحدة ذريعة لمهاجمة قواعدهم. كما يبدو هذه بشرى جيدة سواء للنظام في العراق الذي يحاول تشكيل حكومة متفق عليها، أو الولايات المتحدة التي تدير حرباً ضد المليشيات الشيعية في إطار محاربتها لنفوذ إيران في الشرق الأوسط. ولكن هذه المحاولة تعلم أن انشقاقات كهذه من شأنها أن تحدث صراعات قوى عنيفة بين مجموعات المليشيات نفسها، أو إشعال موجة من الأعمال الإرهابية ضد المدنيين والمس بالمؤسسات الحكومية.

إن طلب الولايات المتحدة من كل رئيس حكومة قادم بحل المليشيات الشيعية، يعزز معارضتها ومعارضة الأحزاب الشيعية المؤيدة لها لمن يخضع لهذا الضغط. يبدو أن المصير السياسي لكاظمي الذي رفضت الأحزاب الشيعية قائمة وزرائه المرشحين عدة مرات، لن يكون مختلفاً عن مصير أسلافه. وعندما تكون هذه هي قواعد اللعبة السياسية في العراق فثمة شك بإيجاد قيادة تستطيع مواجهة وباء كورونا ومواجهة تداعياته الاقتصادية قريباً.

القدس العربي