الاقتصاد السياسي اللبناني من الطائف إلى الحراك: تحولات وتحديات

الاقتصاد السياسي اللبناني من الطائف إلى الحراك: تحولات وتحديات

انطلقت في لبنان تحركات شعبية، في 17 أكتوبر/تشرين الأول (2019)، بهدف إسقاط النظام الطائفي وتغيير الطبقة السياسية الحاكمة. وعلى الرغم من تأليف حكومة تكنوقراط “إنقاذية”، في 21 يناير/كانون الثاني (2020)، وإعلان تلك الحكومة، في السابع من مارس/آذار (2020)، قرارًا يتقاطع مع مطالب الحراك، وهو تعليق تسديد سندات الدَّيْن السيادية المعروفة باستحقاق “اليوروبوند”، فلا يبدو أن اللبنانيين متفائلون بتجاوز الأزمة الاقتصادية قريبًا. فالحراك يُشكِّك، منذ تشكيل الحكومة، بقدرتها واستقلاليتها لكونها تشكَّلت من قبل قوى الثامن من آذار المؤيِّدة تقليديًّا لسوريا، أي من نفس طبقة الأحزاب الحاكمة.

إن أهم ما يطرحه الحراك اللبناني في تشخيصه للأزمة الاقتصادية الراهنة، هو ذلك التلازم ما بين اتفاق الطائف (1989) وطبقة الأحزاب الحاكمة، كسبب رئيسي للفساد السياسي والمالي في لبنان. ووفق هذا التوصيف، فإنه من الصعب فهم الأزمة الاقتصادية الراهنة والتنبؤ بمآلاتها من دون فهم الظروف السياسية المنتجة لها، وكذلك فهم منظومة الاقتصاد السياسي القائم في لبنان منذ توقيع اتفاق الطائف، وهي المنظومة التي تواجه اليوم، كما يواجه اتفاق الطائف نفسه، احتمال الانهيار أو الاستمرار ولكن مع تغير شروط استمراره.

بناء على ما سبق، يحاول التقرير مقاربة الأزمة الاقتصادية-السياسية من خلال ثلاثة محاور تتناول كلًّا من: 1) مسار الاقتصاد السياسي اللبناني منذ اتفاق الطائف. 2) ما انتهى إليه ذلك المسار منذ انطلاق الحراك، والديناميات والعوامل المؤثرة فيه. 3) مستقبل النموذج الاقتصادي وتحديات الانتقال إلى نموذج جديد.

1. مسار الاقتصاد السياسي اللبناني
لم يكن اتفاق الطائف (1989) في لبنان حاكمًا على المستوى السياسي فقط من خلال مبدأ تقاسم السلطة بين الطوائف وزعمائها، وإنما كان حاكمًا أيضًا على المستوى الاقتصادي، منذ مرحلة الوجود السوري وإعادة الإعمار.

فاتفاق الطائف الذي وضع حدًّا للحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) أعطى سوريا حق الوصاية على لبنان، وجعلها صاحبة النفوذ الأول والمباشر فيه لفترة طويلة، كما جعلها أيضًا المشرف والحامي لعملية إعادة الإعمار المدرَّة “للأموال”(1)، والتي كان للمملكة العربية السعودية دور بارز فيها عن طريق الدعم الاقتصادي والاستثمارات الطائلة التي قامت بها، من خلال الثقة التي أولتها لرئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري(2)؛ حيث كانت أولويات دمشق المتعلقة بتوازناتها الداخلية، وموقعها الإقليمي وعلاقاتها الدولية، هي المحدد لكيفية إدارتها الملف اللبناني عبر ورقتي “المقاومة”، التي لعب فيها حزب الله دورًا أساسيًّا، وورقة “إعادة الإعمار” والبناء الاقتصادي والمالي، التي قادها الحريري(3).

لكن، وبشكل عام، فإن براعة سوريا في عملية توزيع الأدوار بين ملفي المقاومة وإعادة الإعمار، أكسبت دمشق نفوذًا ومكانة دولية في المفاوضات بخصوص عملية السلام مع إسرائيل، وجعلتها هي من تمنح المملكة العربية السعودية وبعض الدول الخليجية مصلحة تحقيق الاستقرار في لبنان. وفي نفس الوقت، مكَّنتها من أن تنزع لنخبتها الخاصة أرباحًا مالية ضخمة عبر آلية الحماية تلك(4) عبر خلق شبكات فساد واحتكارات تشترك فيها مع تجار ورجال أعمال وسياسيين لبنانيين(5).

وقد كان الفساد والسياسات الاقتصادية والمالية غير الملائمة، طوال عقود ثلاثة من الزمن، هي العمود الفقري لمنظومة الاقتصاد السياسي اللبناني التي تم تقاسم السلطة ومقدَّرات الدولة على أساسها منذ ما بعد الطائف.

وقد اعتمد لبنان خلال تلك الفترة على رؤوس الأموال المتدفقة إلى مصارفه عبر القنوات الخارجية، كتحويلات المغتربين، والاستثمار الأجنبي المباشر، والاقتراض من الخارج، وبقي الأمر كذلك حتى عام “2011”؛ حيث بدأت القنوات الخارجية بالجفاف واحدة تلو الأخرى حتى وصل العجز في ميزان المدفوعات مستويات لم يبلغها حتى في سنوات الحرب الأهلية، وذلك بسبب تقلُّص مصادر تدفق الأموال الخارجية، نتيجة الانخفاض الهائل في صادرات السلع والخدمات، وتقلص الاستثمار الأجنبي وخصوصًا الخليجي منه، وتوقف القروض الدولية التي كان لبنان يتلقاها في السابق(6). واشتُهر لبنان بنظام تحاصصي-ريعي، ضخَّم الثروات الريعية والعمل غير المنتج، وعطَّل النمو الاقتصادي، كما عقَّد، في نفس الوقت، إمكانية تنفيذ سياسات اقتصادية جديدة من شأنها إخراج الاقتصاد من مأزقه الذي يراوح فيه لعقود(7)؛ حيث تسبَّب الهدر في قطاع الكهرباء وحده، على سبيل المثال، بخسائر تعادل 40% من إجمالي الدَّيْن العام(8)، أي ما يقارب الـ37 مليار دولار أميركي.
أما على مستوى الفساد، فقد تراجع لبنان من المرتبة 63 (من أصل 175) عام (2006) إلى المرتبة 143 في عام (2017) وفقًا لمؤشر مدركات الفساد(9).كما اعتَبر مؤشر التنافسية العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي البيئة الاقتصادية الماكروية للبنان كثاني أسوأ بيئة في العالم من أصل 144 دولة في عام (2015)، وذلك بسبب مستوى الدين العام المرتفع (الأعلى بالنسبة لإجمالي الدين العام في العالم سنة 2006)، وبسبب العجزين الكبيرين في الحسابات المالية والجارية، بالإضافة إلى نظام مصرفي كبير واقتصاد مربوط بالدولار الأميركي(10).

وفيما يتعلق بإعادة الإعمار، والتي برَّر رئيس الحكومة الراحل، رفيق الحريري، نتائجها السلبية على لبنان بعبارته الشهيرة: “اضطررنا لشراء السلم الأهلي بالمال”(11)، فلم تنفق الحكومات اللبنانية المتعاقبة في مشاريع الإعمار منذ الطائف إلا نسبة تقل عن 7% (15.12 مليار) من إجمالي إنفاقها، الذي بلغ نحو 216 مليار دولار خلال الفترة ما بين (1993-2017)، في الوقت الذي كانت فيه “خدمة” الدين العام (الفوائد) تستنزف أكثر من ثلث الإنفاق، مقابل ربع الإنفاق الذي استحوذ عليه الدعم النقدي والتحويلات (الإنفاق الحكومي)(12)، علمًا بأن حجم المداخيل التي حصل عليها لبنان، منذ 1992 وحتى الأشهر الأخيرة من العام الماضي (2019)، بلغ ما يقرب الـ1192 مليار دولار أميركي، بحسب الخبير المالي اللبناني جاسم عجاقة، تتوزع ما بين 801 مليار للناتج المحلي الإجمالي، و305 مليارات للاقتصاد غير الرسمي (رقم مقدَّر)، و86 مليار للدين العام(13).

والمفارقة هنا، أن لبنان الذي خرج من الحرب الأهلية بدين عام بلغ 1.7 مليار دولا(14)، يعاني اليوم من تضخم في ديونه التي بلغت حتى نهاية العام الماضي (2019) ما قيمته 92 مليار دولار أميركي (أكثر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي)(15). وهو ما دفع الحراك للمطالبة باستعادة ما عُرف “بالأموال المنهوبة” من اللبنانيين، وهي الأموال العامة التي تعرَّضت، حسب الحراك، للسرقة والاختلاس من قبل الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ الطائف، حيث قدَّرتها وزارة الخزانة الأميركية بـ800 مليار دولار، حسب صحيفة “واشنطن بوست”(16).

ويضاف إلى ما سبق كله، عمليات تهريب الودائع الكبيرة من المصارف اللبنانية التي تملك الطبقة السياسية ما لا يقل عن 40% من أصولها(17) إلى خارج لبنان، كوجه من أوجه الفساد أيضًا، والتي بدأت عمليًّا منذ إعلان استقالة الرئيس، سعد الحريري، من السعودية، في نوفمبر/تشرين الثاني (2017)، حيث قُدِّرت قيمة الودائع المسحوبة ما بين عامي (2017-2018) بحوالي 10 مليارات دولار(18). كما أفادت الإحصاءات التي صدرت عن مصرف لبنان مؤخرًا، بعد الضغط الإعلامي الذي تعرض له هو وجمعية المصارف بفعل ما أثير حول الموضوع، بأن رصيد “ودائع الزبائن” انخفض من 170.3 مليار دولار إلى 154.6 مليار دولار خلال عام 2019، أي إن صافي الودائع التي خرجت من المصارف العام الماضي هو 15.6 مليار دولار؛ 15.3 مليار منها خرجت من الحسابات التي تفوق المليون دولار (حسابات كبار المودعين)، في حين أن 355 مليون، خرجت من حسابات ما دون المليون دولار، ما يعني، حسب الصحفي الاقتصادي اللبناني محمد زبيب، أن 98% من الودائع المسحوبة تخص 1% من المودعين فقط لا غير، وبأن طبقة الـ1% تلك، هي من صادرت بشكل أو بآخر أجور ومدخرات اللبنانيين(19).

2. ما انتهى إليه الاقتصاد السياسي منذ انطلاق الحراك
تُجمع الطبقة السياسية التي تسببت، حسب الحراك، بالأزمات الاقتصادية المزمنة، على “عناوين” تغيير النموذج الاقتصادي السائد. وتتفق أيضًا على ضرورة إجراء إصلاحات جذرية من أجل معالجة الأزمات، حتى إن السلطة السياسية كانت اعترفت، في ورقة بعبدا الاقتصادية(20)، (سبتمبر/أيلول، 2019)، ولأول مرة، بفشل النموذج الريعي القائم(21). كما أجمعت كل الأوراق الاقتصادية الإصلاحية، بما فيها ورقة بعبدا وبرنامج عمل البيان الوزاري(22) لحكومة الرئيس، حسان دياب، (فبراير/شباط، 2020)، على أولوية معالجة الفساد وضرورة الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد منتج(23).

وإذا أضفنا لما سبق مطالب الحراك “بإسقاط” هذا النموذج الذي بات كما يبدو “منبوذًا” من جميع الأطراف، مع الأخذ بعين الاعتبار ما وصلت إليه المؤشرات المالية والاقتصادية، وسمعة لبنان ومصارفه، وتدهور التصنيف الائتماني للديون السيادية، والإعلان مؤخرًا عن تعليق سداد سندات اليوروبوند لأول مرة في تاريخ لبنان، من الممكن القول بأن ذلك النموذج قد وصل، نظريًّا، حدَّ الاختناق، ولم يعد قادرًا على إعادة إنتاج نفسه مجددًا بهذه السهولة، هذا فضلًا عن وجود إشارات على تعطُّل بعض خصائصه أو جمودها.

ومن هنا، فإن ما قد ينتهي إليه مسار الاقتصاد السياسي اللبناني، متوقف بشكل أساسي على قدرة المصارف على فك ارتباطها بالنموذج القديم ولعب دور إيجابي في عملية التحول إلى النموذج الجديد، وبدء الحكومة تنفيذها الإصلاحات المناسبة لا من أجل الحصول على الدعم والتمكن من الاستدانة، وإنما من أجل معالجة الأزمة والنهوض بالاقتصاد.

المصارف وحماية “مكاسب” النموذج
منذ إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية في سبتمبر/أيلول العام (2019)، وانطلاق الحراك الشعبي، واستشعار السلطتين، السياسية والمالية، “الخطر الفعلي” والمتعاظم على المنظومة الطائفية برمتها، بما في ذلك نموذج الاقتصاد السياسي الذي أنتجته، اتجه النموذج لمسار خطير تصدَّرت المصارف والسلطة النقدية والمالية فيه، المشهد من الأمام، وتولَّت مهمة حماية مكاسب النموذج، وذلك من خلال سياسات وإجراءات، أبرزها:

ممارسة المصرف المركزي صلاحيات استثنائية حظرت على صغار المودعين وأصحاب الحسابات الجارية سحب أموالهم، ولم تستطع في المقابل أن تحظر على كبار المودعين سحب أموالهم وتهريبها إلى الخارج، لاسيما في الفترة الممتدة بين 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 وحتى 31 ديسمبر/كانون الأول 2019.

التأخر غير المبرر للمصرف المركزي في محاولة تثبيت سعر صرف العملة الموازي والإبطاء في تعميم قرار يُلزم مؤسسات الصرافة بربط سعر صرف العملات الأجنبية بسعر الصرف الرسمي وإن بنسب زيادة محددة، بحيث تكون المخالفة تحت طائلة عقوبات قانونية وإدارية. وهذا ما فعله المصرف المركزي مؤخرًا وبعد مرور ستة أشهر على الأزمة، حيث أصدر المصرف قرارًا استثنائيًّا، يلزم الصرافين بحد أقصى لسعر شراء العملات الأجنبية مقابل الليرة اللبنانية، وبحيث لا يتعدى نسبة 30% من السعر الذي يحدده مصرف لبنان في تعامله مع المصارف(24).

السماح للمصارف، بعد تعرُّض المؤشرات النقدية للاختلالات، بإرجاء الإفصاحات المالية إلى مواعيد لاحقة، لاسيما الإفصاحات المالية الفصلية للمصارف المدرجة في بورصة بيروت؛ حيث أصدر حاكم مصرف لبنان تعميمًا جاء فيه أنه: “على المصارف المرخص لها بطرح أسهمها للاكتتاب العام أو التداول في الأسواق المالية المنظمة، أن تقوم استثنائيًّا، بنشر البيانين المشار إليهما في الفقرة الثانية أعلاه (بيان الميزانية وبيان الدخل) اعتبارًا من الفصل الثالث من العام 2019 وما يليه، بالتزامن مع نشر البيانات المالية للعام 2019 المدققة من قبل مفوضي المراقبة”، ما يعني تأجيل نشرها إلى موعد لاحق غير محدد(25).
ومن الجهة الأخرى، تراجع السياسيون التقليديون عن المشهد السياسي خطوة إلى الوراء، من خلال الترويج لمبادرات ومقترحات قوانين مكافحة الفساد واستعادة ما عُرف بالأموال “المنهوبة” و”المهرَّبة”، ودفع حكومة “التكنوقراط” الجديدة، والتي تصف نفسها بالمستقلة، لمحاولة معالجة ما تستطيع معالجته من أزمات وطلب المساعدة المالية والتقنية من الخارج. لكنه، وعلى الرغم من تفاؤل الحكومة وقوى الثامن من آذار من قدرة الأولى على كسب ثقة المجتمع الدولي ووقف التدهور، إلا أن ثمة من لا يرجِّح ذلك، لأنها، وفقًا للتعبير، هي “حكومة مدينة لحزب الله”، ودعمها يعني إضفاء الشرعية على سيطرة الأخير على المشهد السياسي اللبناني(26).

تدويل أزمة الديون والإصلاح من أجل الدعم والاستدانة
أعلنت الحكومة، في السابع من مارس/آذار (2020)، على لسان رئيس الحكومة، حسان دياب، تعليق لبنان سداد قيمة سندات اليوروبوند المستحقة، وأن الحكومة ستسعى للتفاوض مع الدائنين من أجل تأجيل السداد وإعادة جدولة الديون. وقد شكَّكت جمعية مصارف لبنان بقدرة الحكومة على التفاوض مستقبلًا، وخصوصًا أن ديون اليوروبوند تتم من خلال أسواق المال، وليس عبر آليات الاتفاقيات الثنائية مع الحكومات أو المؤسسات المالية الدولية(27).

لكن، وبشكل عام، فإن قرار الحكومة تعليق سداد اليوروبوند، لا يعني بالضرورة خضوعها لمطالب الحراك وأن الحكومة ستضع “دولارات” اليوروبوند، بيد المودعين الصغار، أو أنها ستنفق تلك الأموال لتحسين أوضاع اللبنانيين. ولا يشير القرار أيضًا، كما يصوِّر بعض خبراء الاقتصاد، إلى أنها نهاية نموذج لبنان الاقتصادي وانهياره، وأنها نهاية حقبة “التحايل على اللبنانيين” وانتهاء العلاقة بين الطبقة الحاكمة وبعض كبار المصرفيين، وخصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التلاعب الحاصل في ملكية تلك السندات وعمليات بيع معظم الداخلي منها لمؤسسات أجنبية (أبرزها صندوق Ashmore)، منذ 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، حيث زادت حصة الأجانب من استحقاقات العام الحالي من 730 مليون دولار من أصل 2,5 مليار، إلى 1,9 مليار (أي من 29% إلى 76%)(28). وبالتالي، فما حصل هو ليس سوى ضربة غير مؤكدة لكبار المودعين وبداية اهتزاز النموذج القائم ليس أكثر.

بل ثمة من يقرأ قرار تعليق تسديد السندات وبيعها لجهات أجنبية على أنها، خطوة لتدويل القضية من أجل الوصول إلى ضمانة دولية لإعادة ترميم المنظومة المالية-السياسية، بعد سير الحكومة عمليًّا وبهدوء نحو محاولة استكمال الشروط التي يطلبها عادة صندوق النقد الدولي من أجل تقديم دعمه، والتي تهدف لتخفيض العجز في الموازنة العامة، ما يسهِّل بالتالي الحصول لاحقًا على دعم من الصندوق، كما يُمكِّن أيضًا من تعويم المصارف ودفع ديون تلك السندات المستحقة وفق جدول جديد وعلى حساب فقر اللبنانيين(29).

وثمة ما يدعم الفرضية السابقة في الشقِّ المتعلِّق باشتغال لبنان مسبقًا على استكمال شروط صندوق النقد. فمنذ استشعار الحكومة، خلال الفترة الماضية، إصرار الداعمين “المحتملين” على تنفيذ لبنان إصلاحات نوعية ومستدامة، حاولت الحكومة، في ظل استمرار تأزم الأوضاع والعجز حتى اللحظة عن تقديم خطة إنقاذ اقتصادية ومالية مفصَّلة ومستقلة، الاقتراب تدريجيًّا من صندوق النقد الدولي، وإشراكه مسبقًا في إعداد تلك الخطة الإصلاحية بتفاصيلها، من خلال طلب مساعدة تقنية ومشورة فنية موسَّعة منه أثناء زيارة فريقه للبنان في فبراير/شباط (2020)(30).

كما أعلنت الحكومة مؤخرًا عن أن خطتها لمعالجة الأزمة المالية، والتي ستلبي توصيات صندوق النقد والخطة التي بدأتها مع البنك الدولي، والتي لن تتسبب، حسب وزير المال اللبناني غازي وزني، في أية معاناة اجتماعية ومعيشية للبنانيين، قد باتت قاب قوسين أو أدنى، وسيتم الإعلان عنها خلال الأسابيع القادمة، وستكون أيضًا محل توافق سياسي(31). وهو ما يؤكد التزام الحكومة بمسار “الاستدانة” الواضح، والذي عبَّرت عنه منذ البداية من خلال بيانها الوزاري وتصريحاتها حول الحرص على تكثيف التواصل مع الدول الشقيقة والصديقة ومع أعضاء مجموعة الدعم الدولي، والمنظمات والهيئات الدولية والإقليمية المعنية(32) من أجل استعادة ثقة المجتمع الدولي من خلال الإصلاحات، وذلك لإفساح المجال أمام الدعم والتمويل وتخفيف أزمة السيولة في البلد، وهو ما دفع البعض لتسميتها منذ تشكيلها بـ”حكومة الاستدانة”(33)، وخصوصًا مع تصريحات وزير المالية التي قال فيها صراحة بأن “لبنان يرحب بجميع المساعدات المالية الدولية بدون استثناء”، وذلك لحاجة لبنان إلى مساعدات تتراوح ما بين 25 و30 مليار دولار على مدار السنوات الخمس المقبلة من أجل الخروج من أزمته(34).

وبالنسبة للحراك ومجموعات الناشطين، فكان لهم موقف مغاير تمامًا لتوجهات الحكومة في هذا الشأن؛ حيث عبَّروا عن ذلك من خلال اللقاءات المستمرة والوقفات الاحتجاجية التي دعوا إليها تحت عدَّة شعارات، مثل: مسيرة “لن ندفع الثمن” في ساحة الشهداء، واعتصام “تسقط الصناديق الدولية” من أمام مكتب البنك الدولي في وسط بيروت، رافضين الاستمرار في سياسة الاستدانة التي ينتهجها لبنان منذ عقود، ورافضين التوجُّه للاقتراض من أي صندوق دولي بما في ذلك صندوق النقد والبنك الدولي(35)، لاسيما أن ذلك يعني العودة مجددًا إلى منطق استدامة الدين، ولتخوف الشارع أيضًا، مما يفرضه الصندوق عادة من إجراءات تقشُّفية لها تبعات اجتماعية سلبية.

3. تحديات التحول إلى نموذج جديد
ثمة اتفاق واسع في لبنان، على مستوى السلطة السياسية والحراك المدني أيضًا، على ضرورة التغيير الجذري في أسس الاقتصاد، وتحويله من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج ومستدام. إلا أن هناك العديد من التحديات التي تواجه عملية التحول، أبرزها:

البدء عمليًّا بإجراء الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية والقضائية التي تتطلبها عملية التحول تلك.

المباشرة بوضع آليات تفكيك شبكات الفساد والكتل الاحتكارية في أسواق الأولويات، والتمكُّن من تغيير الثقافة الزبائنية المترسِّخة في مؤسسات الدولة.

استعادة سمعة وسلامة المصارف اللبنانية المتهاوية، والتي كانت تشكِّل إلى جانب قطاع الخدمات حوالي 70% من الدخل القومي للبلاد(36) وإعادة توجيهها نحو دور إيجابي في الاقتصاد.

إمكانية تأمين الموارد المالية اللازمة للانتقال من الريع إلى الإنتاج من غير اللجوء إلى الاستدانة وفق النموذج السابق، ومن غير فرض مزيد من الضرائب على الشرائح الفقيرة أو إلغاء الإعفاءات الضريبية على القيمة المضافة للسلع الأساسية والغذائية أو حتى إلغاء الدعم على الكهرباء والوقود، وخصوصًا في ظلِّ الظروف المعيشية السائدة وتحذيرات البنك الدولي من احتمال أن يرتفع معدل الفقر في لبنان إلى 50% هذا العام (2020)(37).

التمكن، في ظل الظروف السياسية غير المستقرة، من تهيئة المناخ الاستثماري وبيئة الأعمال الصحية لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي ستحتاجها القطاعات الإنتاجية الجديدة، من أجل تخفيف اللجوء للاستدانة والاقتراض مجددًا من أجل عملية “نهوض” جديدة.

كيفية إصلاح الجهاز القضائي وتقوية ديوان المحاسبة من أجل استعادة الأموال المنهوبة والمهربة التي من الممكن أن تساعد كثيرًا في تمويل عملية التحول والنهوض.
لكن يظل التحدي الجوهري، حسب الحراك، هو تحرير الدولة من قبضة الطبقة السياسية-الطائفية التي عطَّلت، باعتقاده، فعالية الدولة وكانت السبب الرئيسي للفساد السياسي والمالي المنتج للأزمات والمعيق لمبادرات الإصلاح منذ اتفاق الطائف. هذا فضلًا عن تشكيك الحراك أصلًا بقدرة واستقلالية حكومة التكنوقراط، التي تقود المرحلة الحالية، لكونها تشكَّلت من قبل قوى الثامن من آذار، أي من نفس طبقة الأحزاب الحاكمة.

ولا ننسى العامل الجديد الذي دخل على خط الأزمة الاقتصادية من بوابة القطاع الصحي، وهو “فيروس كورونا”، والقدرة على السيطرة عليه في ظل النقص في تجهيزات الطوارئ الصحية، بالإضافة للنقص الحاد في السيولة لشراء المواد والمستلزمات والمعدات الطبية لمكافحة الفيروس، وخصوصًا مع مزاحمة الأولويات الأخرى على تلك السيولة القليلة. ولذلك، فمن المرجح أن يكون لهذا العامل تداعيات اقتصادية تزيد من حدَّة الأزمة المالية والاقتصادية الحرجة التي تمر بها البلاد، ما يزيد بالتالي من تحديات الحكومة.

خطَّة الحكومة للتعامل مع التحديات
لم تقدِّم الحكومة الحالية في شأن الإصلاحات وعملية التحول من الريع إلى الإنتاج، حتى اللحظة، سوى برنامج عمل، غير مشفوع بخطط عملية. وقد تضمن البرنامج عدة محاور، من بينها(38):

اقتراحات لمكافحة الفساد، تشمل إقرار الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وإصدار المراسيم التطبيقية لقانون حق الوصول إلى المعلومات وقانون حماية كاشفي الفساد، وإنجاز أو تعديل مشاريع القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد بالتعاون مع “المجلس النيابي”، ومتابعة التحقيقات واتخاذ الإجراءات اللازمة بخصوص الأموال التي حُوِّلت إلى الخارج قبل وبعد 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.

تصحيح المالية العامة وحسن إدارة الإيرادات والنفقات، عبر تحسين الجباية ومكافحة التهريب والهدر والتهرُّب الضريبي، وإصلاح النظام الضريبي، وزيادة الضريبة التصاعدية، وإصلاح أو دمج أو إلغاء عدد من المؤسسات والهيئات العامة والوزارات غير الضرورية. هذا فضلًا عن ضبط الدين العام والعمل على خفضه، ووضع خطة لخفض خدمة الدين العام.

معالجة الأزمة النقدية والمصرفية من خلال وضع الآليات المناسبة لحماية أموال المودعين والمحافظة على سلامة النقد، بالإضافة لاستعادة استقرار النظام المصرفي من خلال اتخاذ تدابير من بينها تعزيز رسملة المصارف وإعادة هيكلة القطاع المصرفي برمته. ويضاف إلى ذلك معالجة الخلل في ميزان المدفوعات، عبر حث المجتمع الدولي للقيام بواجباته في تحمل عبء “النزوح” السوري، والتواصل مع المؤسسات والجهات الدولية المانحة من أجل تأمين الحاجات الملحَّة والقروض الميسَّرة.

اتخاذ إجراءات اقتصادية من أجل تحفيز الانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج، من خلال العمل على توسيع التسهيلات من مصرف لبنان، وتخفيض أو إلغاء الرسوم الجمركية على المواد الأولية والمعدات اللازمة لقطاع الصناعات المحلية، وإصدار مراسيم لتخفيف الإجراءات المعيقة لزيادة الصادرات، ودعم قطاع الصناعات والمنتجات اللبنانية والأدوية، والسعي لتأمين التمويل لاستيراد السلع الأساسية.
إلا أن الحكومة أعلنت مؤخرًا، في 12 مارس/آذار الجاري (2020)، على لسان وزير المالية اللبناني، أن خطتها لمعالجة الأزمة المالية والاقتصادية ستكون جاهزة خلال أسابيع، وأنها ستشكِّل حجر الزاوية لانتشال لبنان من أزمته المالية الأصعب منذ استقلاله؛ حيث ستشمل إصلاحات مصرفية ومالية واقتصادية(39).

ولم تكن الحكومة سبَّاقة في تقديم تلك الأطروحات النظرية من أجل الخروج من الأزمة المالية والاقتصادية وإجراء الإصلاحات الهيكلية، فقد سبقها في ذلك، منذ الأيام الأولى لاندلاع الأزمة، خبراء اقتصاد وقانون وسياسة لبنانيون من المجتمع المدني، عبر إصدار بيانات صحفية وبرامج إنقاذ تم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، تتقاطع في بعض بنودها مع خطة الحكومة، لكنها تركِّز في نفس الوقت على نقاط أساسية جديدة، أبرزها:

الإدارة الدقيقة للاحتياطيات الأجنبية المتناقصة بوتيرة سريعة من أجل حماية الليرة اللبنانية، من خلال تدابير أهمها اتخاذ الإجراءات الصارمة لضبط تهريب الأموال إلى الخارج، وتثبيت سعر الصرف الموازي، وتعزيز مصداقية البلد من خلال إطلاق الإصلاحات اللازمة، وبشكل عاجل(40).

تقسيم أعباء الدين العام بين فئات المجتمع بشكل عادل، وتفعيل النظام الصحي الموحَّد، وكذلك تصميم سياسات اجتماعية جديدة من أجل حماية الشرائح الأكثر تضررًا من الأزمة، ورفع الأجور ومعاشات التقاعد عند ارتفاع أسعار الاستهلاك إلى نسبة تزيد عن 10%(41).

وضع آلية مراقبة تتيح للمواطن ممارسة الضغوط من أجل تطبيق الإصلاحات في ظل تعزيز آليات الرقابة الرسمية. هذا فضلًا عن وضع آليات موثوقة للرقابة الحكومية بحيث تتضمن أيضًا مصرف لبنان، ودعم صلاحيات إدارة المناقصات(42).

بالإضافة إلى التفكيك التدريجي للكتل الاحتكارية المتحكمة بأسواق الأولويات، لاسيما سوق الغذاء والطحين والدواء والمحروقات والإسمنت(43).

مستقبل النموذج الاقتصادي
في ضوء تلك العوامل والديناميات المعقدة، والتي تعكس ما انتهى إليه حال الاقتصاد السياسي اللبناني حتى اللحظة، من الصعب التنبؤ بمستقبل مساره، لاسيما أن تغيُّر النموذج الاقتصادي مرتبط بشكل أو بآخر بالمتغيِّر السياسي كما أثبتت تجربة العقود الثلاثة الماضية، وهو اليوم مرتبط أيضًا، بمآلات اتفاق الطائف والنظام السياسي الذي أنتجه هذا الاتفاق، والذي يواجه منذ بدء الحراك احتمال الانهيار، أو الاستمرار، أو تحسين الشروط. كما أن العكس صحيح أيضًا، فقد تكون مآلات النظام السياسي الطائفي مرتبطة بمستقبل منظومة الاقتصاد السياسي القائم، وخصوصًا أن السلطة السياسية والمالية نجحت إلى حد كبير في اللعب على نقطة ضعف الحراك، والتي خرج لأجلها، وهي الظروف الاقتصادية والمعيشية، والتي استثمرتها السلطات وضغطت بها بشكل غير مباشر على اللبنانيين، وعلى البلد برمَّته، من خلال الإبطاء في اتخاذ الخطوات الجدية اللازمة لفرملة التدهور المالي والاقتصادي في البلد؛ حيث وُضِع الحراك بشكل أو بآخر أمام مفاضلة صعبة للغاية:

إما رفع سقف المطالب السياسية واستمرار المشاركة الشعبية الكثيفة في الحراك يقابلها مزيد من التدهور النقدي والاقتصادي نتيجة ارتفاع حدَّة المخاطر السياسية والتلكؤ في إدارة الأزمة النقدية.

وإما تراجع الحراك خطوة للخلف مقابل “محاولة” معالجة الأزمة النقدية وتحسين الأوضاع الاقتصادية والتغيير في ذلك النموذج، عبر حكومة “التكنوقراط” “العاجزة” حتى اللحظة، والتي تعوِّل بشكل أساسي على دعم صندوق النقد الدولي.
لكن وبشكل عام، فإن استمرار النموذج الاقتصادي كما هو حاليًّا، يعني:

أولًا: التوجه تدريجيًّا نحو انهياره الفعلي، علمًا بأن هذا المسار، سيرافقه كما هو واضح، أزمات وكوراث مالية واقتصادية واجتماعية، قد تُنتج مستقبلًا فوضى وظروفًا لا تقل خطورة عن الظروف الاقتصادية والمعيشية التي تنتجها الحروب الأهلية، وخصوصًا إذا لم يرافق “سقوط” النموذج تغيير جوهري على مستوى النظام السياسي وإصلاحات بنيوية فعلية في النظام النقدي والاقتصادي.

ثانيًا: ارتفاع تكلفة تغيير النموذج مستقبلًا، والتي ستكون على حساب الشرائح الاجتماعية غير المستفيدة والأكثر تضررًا منه، ومن جيوب اللبنانيين عمومًا، ولمدة جيل أو أكثر ربما.

خاتمة
لم يكن اتفاق الطائف في لبنان حاكمًا على المستوى السياسي فقط، وإنما كان حاكمًا على المستوى الاقتصادي أيضًا منذ مرحلة الوصاية السورية وإعادة الإعمار. وقد كان ثنائي الفساد والسياسات الاقتصادية والمالية السيئة هما العمود الفقري الذي قامت عليه منظومة الاقتصاد السياسي اللبناني منذ ما بعد الطائف، وهي منظومة تواجه اليوم تحدي الاستمرار.
لكن ثمة تحدِّيات تحول دون تجاوز تلك المنظومة، أبرزها استمرار وجود الطبقة السياسية في السلطة، والخلاف بين الحكومة والحراك حول مصدر تمويل عملية الإصلاح والإعداد للتحوُّل، والتي ستعيد لبنان مجددًا لمنطق الاستدانة الذي لا مفر منه على ما يبدو. هذا فضلًا عن تشكيك الحراك في الأصل بنزاهة الحكومة وقدرتها على قيادة المرحلة الحالية لكونها محسوبة على الطبقة السياسية.

فليس من المتوقع أن تنجح الحكومة الحالية في معالجة الأزمة المالية والاقتصادية في ظل التحديات الكثيرة القائمة، والتي أضيف إليها مؤخرًا عامل “فيروس كورونا”، فهذا الأخير دخل على خطِّ الأزمات وأخذ يزاحم أولويات الحكومة و”اقتصادياتها”. يبدو أن لبنان بات أمام مسار معقَّد ومفصلي في تاريخه، يواجه فيه تحولات غير مكتملة وتحديات غير مضمونة النتائج، وأحلاها مُرٌّ.

سليمان كريمة

الجزيرة للدراسات