تكبد العراق خسائر مالية فادحة جراء تدهور أسعار النفط الناجم عن وباء كورونا. ستقود هذه الخسائر إلى أزمة اقتصادية حادة تؤثر بشدة على معيشة المواطنين. بات من اللازم إذن توظيف الدروس للخروج من هذه الأزمة الخطيرة.
تم تحضير مشروع ميزانية العراق لعام 2020 بعجز قدره 50 ترليون دينار أي ما يعادل 42 مليار دولار. واعتمد هذا الحساب على سعر قدره 54 دولاراً لبرميل النفط.
لكن وباء كورونا والخلافات بين أعضاء أوبك+ أدت إلى هبوط حاد لسعر الخام الذي وصل في نهاية مارس إلى 23 دولاراً. ثم سجل تحسناً طفيفاً. لكنه عاد إلى الهبوط على إثر انتشار الوباء وتردي أسعار عقود الخام الأميركي لشهر مايو/ أيار 2020.
فرق شاسع إذن بين السعر الحالي والسعر المعتمد في الميزانية قدره 34 دولاراً. ولما كانت صادرات العراق 3.8 ملايين ب/ي فإن الخسارة اليومية تصل إلى 129 مليون دولار.
أنها خسارة فادحة لأن العوائد النفطية تمثل 89% من إيرادات الميزانية العامة و99% من حصيلة الصادرات الكلية.
جرى في الآونة الأخيرة تعديل مشروع الميزانية فأصبح السعر المعتمد 30 دولاراً للبرميل. لكن هذا الإجراء لن يعالج التداعيات الخطيرة للأزمة المالية.
تداعيات مالية خطيرة
1-ارتفاع المديونية العامة
صرح مسؤولون بأن العراق سيواجه الأزمة المالية الناجمة عن كورونا عن طريق الاقتراض الخارجي. الأمر الذي سيفضي إلى تفاقم الديون العامة التي تصل إلى 125 مليار دولار أي ما يعادل 56% من الناتج المحلي الإجمالي.
وسيجد العراق صعوبات في الحصول على القروض الخارجية بالمبالغ المطلوبة والشروط المناسبة نتيجة ثلاثة عوامل:
العامل الأول يتمثل بارتفاع الطلب العالمي على التمويل الخارجي بسبب كورونا. إذ تفضل دول عديدة اللجوء إلى هذا التمويل بدلاً من السحب من احتياطها النقدي.
والعامل الثاني يخص التصنيف الائتماني للعراق الضعيف جداً. فقد حصل على درجة “بي سلبية” من قبل وكالة فيتش ووكالة ستاندرد أند بورز.
والعامل الثالث يتعلق بفقدان الثقة بالسياسة الاقتصادية. فقد دلت التجربة على أن الأموال الممنوحة بعد القضاء على تنظيم داعش لم تستخدم بصورة مقبولة في إعادة البناء. يتمخض عن تضافر هذه العوامل ارتفاع كلفة الاقتراض الخارجي وعدم كفاية هذا المصدر لتمويل العجز المالي المتفاقم بسبب كورونا.
2-تأجيل التنمية
أدى وباء كورونا إلى التأكيد على الاتجاه السائد منذ منتصف العام المنصرم الرامي إلى تأجيل مشروعات التنمية بسبب ضخامة العجز المالي. التنمية الزراعية والصناعات التحويلية متوقفة حتى قبل تفشي هذا الوباء. باتت مالية العراق الحالية تشغيلية فقط.
ويشمل تأجيل التنمية الاتفاق مع الشركات الأجنبية بشأن إلغاء برامج تطوير الحقول النفطية. وقد أبلغت الحكومة شركات اكسون موبيل الأميركية ولوك اويل الروسية وبي بي البريطانية وبترول الصينية بضرورة القيام بهذا الإلغاء.
سيؤثر هذا الإجراء سلبياً على القطاع النفطي الذي يعتمد عليه اقتصاد البلد اعتماداً شبه كلي. لكنه سيقود (وفق التقدير الحكومي) إلى توفير ثلاثة مليارات دولار، أي ما يعادل ثلث الأموال المدفوعة لهذه الشركات.
3-تخفيض المرتبات
الجزء الأكبر من الإنفاق العام عبارة عن مرتبات مدنية وعسكرية. ستقوم الحكومة (كما فعلت خلال فترة القضاء على داعش) بتقليص مرتبات الموظفين لمواجهة الأزمة المالية. الأمر الذي سيفضي إلى التأثير على مستوى معيشة الملايين.
في مارس/آذار أنفقت الدولة 3.6 مليارات دولار لدفع رواتب الموظفين العاملين والمتقاعدين. في حين لم تستلم من مبيعات النفط سوى 2.9 مليار دولار. ستضطر الحكومة إلى تقليص هذه الرواتب رغم التصريحات الرسمية التي تصب في طمأنة الرأي العام.
4-التمويل النقدي
لن تكفي الإجراءات السابقة للتصدي للأزمة المالية وبخاصة لأن المؤشرات تدل على عدم عودة أسعار النفط إلى ما كانت عليه في بداية السنة الجارية. عندئذ ستضطر الحكومة إلى تمويل العجز المالي بالنقود. تحاول السياسة النقدية الحالية الابتعاد عن هذا المصدر. لكن خطورة الأزمة المالية الناجمة عن كورونا ستقود إلى طبع نقود إضافية فتنتفخ الكتلة النقدية.
وهكذا سيرتفع معدل التضخم وسينخفض سعر صرف الدينار. وسيؤدي تفاعل هاتين النتيجتين إلى هبوط شديد لمستوى المعيشة فيزداد الفقر.
دروس كورونا
يمكن استخلاص العبر التالية من تدهور أسعار النفط ووباء كورونا:
1-خطورة الفساد المالي
ظاهرة برزت منذ بداية الثمانينيات من القرن المنصرم واشتدت بعد الاحتلال الأميركي للبلاد.
أصبح النظام قائماً على المحاصصة الطائفية وتسلط المليشيات وغياب دولة القانون. لذلك حصل العراق على المرتبة العالمية رقم 162 في قائمة منظمة الشفافية العالمية الخاصة بالفساد المالي التي تضم 180 دولة.
ويعلم العراقيون جيداً مدى تفشي هذه الظاهرة التي أدت إلى هبوط الإيرادات العامة، وما يترتب عليه من إضعاف قدرة الدولة على توفير الخدمات الصحية والتعليمية والأمنية والطاقية. لذلك لا جدوى من الحلول السياسية والاقتصادية دون التصدي للفساد المالي.
2- أهمية الإنتاج المحلي
أثبتت جائحة كورونا بما لا يقبل الشك أن الدول التي تعتمد على استيراد المواد الغذائية والأدوية والمعدات الصحية تعاني من أزمة خطيرة خاصة إذا كانت قابليتها المالية محدودة. وترتفع الخطورة كلما زاد هذا الاعتماد.
كما تزداد الأمور سوءاً عندما ترتكز الصادرات التي تمول الواردات على مادة واحدة كالنفط الذي تدهور سعره بصورة سريعة. العراق في مقدمة الدول التي تنطبق عليها هذه المواصفات.
يتعين إذن الاهتمام إلى أقصى حد بالإنتاج المحلي الزراعي والصناعي. لابد من تقديم مختلف أشكال الدعم لهذا الإنتاج عن طريق المزيد من الإنفاق العام على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي.
3-سياسة إنفاقية سليمة
يعتمد العراق على سياسة إنفاقية مضرة بالأنشطة الاقتصادية. تحول هذه السياسة دون التصدي للأزمات الصحية ودون معالجة المشاكل المالية الطارئة ودون الاهتمام بالمشاكل الرئيسة لا سيما البطالة والفقر.
بات من اللازم إجراء تعديلات جوهرية عليها بتقليص الإنفاق العسكري والأمني. وإلغاء الحشد الشعبي والاكتفاء بالجيش النظامي. والاستغناء كلياً عن هيئات الأوقاف لجميع الأديان والمذاهب وحصر مهامها بيد الدولة في أضيق الحدود.
4-الاهتمام بالقطاع الصحي
يعاني العراق من نقص في جميع الميادين الخدمية بخاصة في القطاع الصحي. هنالك ثمانية أطباء فقط لكل عشرة آلاف نسمة من السكان. وهذا العدد ضئيل مقارنة بالمعدلات العالمية.
كما بلغت النفقات الصحية في ميزانية الدولة 2.6 مليار دولار أي 2.4% من الإنفاق العام.
وعند تقسيم هذا المبلغ على عدد السكان نستنتج أن حصة المواطن من الخدمات الصحية لا تتجاوز 66 دولاراً في السنة. مقابل 1315 دولاراً في السعودية و2179 دولاراً في قطر.
المشكلة الصحية في العراق لا ترتبط بالمقدرة المالية بقدر ما ترتبط بالسياسة المالية المتبعة التي يتعين إصلاحها.
5-ضرورة التوقف عن تهريب النفط
يتخذ تهريب النفط من العراق ثلاثة أنماط. تهريب من المنطقة الشمالية. يقضي الاتفاق الرسمي أن تسلم حكومة إقليم كردستان 250 ألف ب/ي إلى الحكومة المركزية مقابل دفع بغداد نسبة من الإنفاق العام إلى اربيل.
على الصعيد العملي لم يطبق هذا الاتفاق وبات الإقليم ينتج ويصدر الخام وفق ما يراه مناسباً وكأنه كيان مستقل تماماً. وتهريب آخر من الجنوب من قبل مليشيات إلى الدول المجاورة.
ومنذ العقوبات الأميركية المفروضة على النفط الإيراني يجري تهريب هذا النفط وتصديره من الأراضي العراقية باعتباره نفطاً عراقياً. الأمر الذي يؤثر على حصة العراق في التصدير في إطار أوبك. ولا توجد تقديرات دقيقة لهذه الأشكال. لكنها لا تقل عن مليون ب/ي أي ما يعادل ثلث صادرات العراق.
قاد هذا الوضع إلى إضعاف القدرة المالية للدولة وبالتالي إلى تردي الوضع الخدمي والإنتاجي. وبات من اللازم معالجته للتصدي للأزمة المالية الناجمة عن كورونا.
6-التضامن الاجتماعي
دل الوباء على أهمية تعاون المواطنين في مواجهة الضائقة المالية الشديدة التي يعيشها الفقراء. فقد تم تنظيم حملات شعبية لجمع التبرعات وتقديم المواد الغذائية للعائلات الفقيرة. كما تسهم شخصيات سياسية ومؤسسات دينية في التبرعات وبخاصة عند حضور وسائل الإعلام.
واستجابة لنداء البنك المركزي شاركت المصارف الأهلية بتبرعات قدرها 44 مليار دينار. ووجهت الأوساط السياسية انتقادات شديدة لهذه المؤسسات المصرفية لأن هذا المبلغ لا يساوي (بتقديرها) إلا القليل من الأرباح التي تحققها جراء عمولات بيع النقد الأجنبي المتأتي من البنك المركزي.
أما في دول الخليج فقد حدث العكس تماماً. حيت يقدم البنك المركزي مساعدات مالية للمصارف الأهلية لمواجهة تبعات الوباء. لأن هذه الدول قررت منح المدينين فترة سماح.
وحتى لا تتعرض المصارف للإفلاس بسبب هذا الإجراء مُنحت لها مساعدات حكومية. في حين لا وجود لمثل هذا التنظيم في العراق. ناهيك عن ضعف أهمية الأنشطة المصرفية في الحياة اليومية للعراقيين.
هنالك في العراق الملايين من الأفراد لا مصدر معاشياً لهم سوى أجورهم اليومية. لذلك قررت الحكومة منح مساعدات مالية للمحتاجين. إنه إجراء حسن يتعين الإشادة به.
7-مساعدات حكومية للفقراء
في 8 إبريل/نيسان اتخذت الحكومة قراراً بصرف 600 مليار دينار لعشرة ملايين عراقي. وحسب التقارير يمثل هذا العدد حوالى مليوني عائلة. ولكن لابد من الملاحظات التالية:
الأولى: في العراق لا يكفي اتخاذ القرار بل ينبغي أن يجد تنفيذاً له بصورة مقبولة بعيدة عن الفساد المالي. وهذا أمر يستبعده العراقيون.
والثانية: يُنفق المبلغ المذكور لمدة شهرين على عشرة ملايين شخص. وبالتالي فإن حصة الفرد الواحد لا تتعدى ثلاثين ألف دينار في الشهر.
وهذا المبلغ هو ثمن كيلو غرام من الحلوى في أسواق بغداد. المبلغ ضئيل ولكنه أفضل من لا شئ. وقد لا يحصل الفرد حتى على هذا المبلغ لأن عدد المتقدمين لنيل هذه المنحة ارتفع إلى 13 مليون شخص خلال أيام معدودات.
الملاحظة الثالثة: يستخدم هذا الإجراء كورقة بيد الحكومة للحصول على مساعدات مالية وقروض خارجية. فقد قدم العراق طلباً لصندوق النقد والبنك الدوليين للحصول على ملياري دولار لمواجهة كورونا. علماً بأن كلفة هذا الإجراء لا تتجاوز 500 مليون دولار.
8-الإعفاء الضريبي الموقت
بسبب الحجر الصحي وقرار منع التجول توقف القسط الأكبر من الأنشطة الاقتصادية في جميع الميادين الإنتاجية والخدمية.
الأمر الذي أدى إلى هبوط الأرباح والدخول والتبادل والاستهلاك. لذلك بات من الضروري مساندة المواطنين بتأجيل دفع الضرائب المستحقة على الأقل خلال فترة توقف هذه الأنشطة.
لا شك أن هذا الإجراء سوف يزيد من عجز الميزانية العامة. لكن السياسة المالية الرشيدة تتطلب التخفيف من حدة الأزمة على المواطنين. العراق البلد الوحيد في منطقة الخليج الذي لم يقم بمثل هذا الإجراء. علماً بأن الحكومة قررت إعفاء المواطنين من دفع فاتورة الماء والكهرباء.
الدرس الأساس الذي قدمته جائحة كورونا يتلخص في ضرورة إصلاح السياسة المالية بحيث تعطي أهمية خاصة للقطاعات الصحية والتعليمية والاجتماعية وسائر الخدمات الأخرى، وكذلك للأنشطة الإنتاجية المحلية الصناعية والزراعية.
كما يتعين معالجة حالة الفقر التي أصبحت خطيرة لأنها تخص ثلث سكان العراق. ولا يمكن الاستفادة من هذا الدرس إلا بعد القضاء على جميع صور سوء إدارة الشأن العام.
صباح نعوش
العربي الجديد