بينما كانت الولايات المتحدة تسحب جنودها من عدة قواعد عسكرية عراقية بالتزامن مع تصعيد بين واشنطن والميليشيات المدعومة من إيران، أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن فتح حوار استراتيجي بين واشنطن وبغداد في منتصف حزيران/ يونيو القادم. وأوضح بومبيو حينها أنه سيتعين على الولايات المتحدة إعادة تقييم استراتيجيتها في العراق من حيث ضغط الميليشيات العراقية الموالية لإيران المتزايد على وجود القوات الأميركية في العراق، ومن حيث تأثير فايروس كورونا المستجد على اقتصاد البلاد الذي لا تبرز فيه أي وحدة سياسية واضحة. وذكر أن الولايات المتحدة ستدعم أي نظام عراقي يتحرك بعيدا عن النموذج الطائفي القديم الذي أوصل البلاد إلى آفتي الإرهاب والفساد.
حوار هو الأول من نوعه بين بغداد والولايات المتحدة، منذ انسحاب الأخيرة من العراق بشكل نهائي عام 2011. هذا الحوار الذي وصف ب ” الشامل”، جاء بعرض أميركي، اعتبر مشروعًا لوضع خريطة طريق للعلاقة بين البلدين، يتم التوصل على ضوئها إلى سياسة ثابتة ومحكومة باتفاقيات عدة، من بينها ما يتعلّق بالوجود العسكري الأميركي، والدعم المقدم للعراق أمنيًا واقتصاديًا، وضمانات الانتقال الديمقراطي للسلطة في العراق، مرجحين كذلك أن يكون ملف إيران على رأس ما ستتم مناقشته.
يرى المتابعون للشأن العراقي، إنّ الولايات المتحدة تخطّط لحوارات حقيقية وجدية مع حكومة عراقية كاملة الصلاحيات تكون بعدها الأمور واضحة بين الجانبين سياسياً وأمنياً على وجه التحديد”. وأوضح أنّ “الحوار يعتبر مهماً جداً لبغداد، فواشنطن تريد من خلاله رسم سياسة جديدة لها في العراق والمنطقة وفق المتغيرات الحاصلة، خصوصاً بعد اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، فهذه التطورات بحاجة إلى إعادة ترتيب الأوراق العسكرية والسياسية، وحتى الاقتصادية.
لذا تسعى الحكومة العراقية الجديدة، التي يرأسها مصطفى الكاظمي، من خلال هذا الحوار لإظهار صورة العراق الحقيقية أمام العراقيون والجماعة الدولية عبر بوابة الولايات المتحدة الأمريكية. وأعلن مصطفى الكاظمي، عن تشكيل خلية أزمة من المختصين في الشؤون الخارجية والعلاقات الدولية لإجراء المباحثات مع الجانب الأمريكي الخاصة بمراجعة الاتفاق الاستراتيجي بين البلدين بما “يحمي وحدة وسيادة العراق”، وبحث امورا استراتيجية عدة على مختلف المستويات.
ينظر كثيرون في العاصمة الأميركية إلى إعادة تقييم العلاقات الأميركية – العراقية باعتبارها تأخرت كثيراً. فقد مضى أكثر من عقد منذ أن وافق البلدان على الاتفاقية الخاصة بوضعية القوات الأميركية والاتفاقية الإستراتيجية الإطارية. غير أن زخم الحوار الإستراتيجي الجديد ينبع، على ما يبدو، من إحساس متنام في واشنطن بنفاد الصبر. فقد تضررت العلاقات كثيراً خلال الأشهر الماضية، وشعرت الإدارة الأميركية بأن الحكومات السابقة غير قادرة على تحقيق مطالبها بالحفاظ على سيادة العراق الوطنية من النفوذ الإيراني المتنامي. ما شكل خطراً على القوات الأميركية في الأراضي العراقية.
غير أن الحكومة الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي، أعطت الإدارة الأميركية بعض الأمل في تغيير مسار العلاقات بين بغداد وواشنطن. إذ إن رئيس الحكومة السادس للعراق منذ 2004 ظل الخيار الوطني المفضل يمكن لواشنطن أن تتفاهم معه، لكونه ليبراليَّ التوجه وعمل كاتبًا وناشطًا حقوقيًا قبل انخراطه في السياسة وتعيينه رئيسًا لجهاز الاستخبارات العراقي والتزامه خلال عمله بالطابع المهني واحترام سيادة القانون.
أن الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن، سيكون إيجابيًا، في ظل حكومة مصطفى الكاظمي، ويجب استغلال هذا الحوار، من أجل إرجاع صورة العراق الحقيقية، بأنه غير تابع لأي جهة وليس مع أي محور، والولايات المتحدة أفضل بوابة لبغداد للعودة إلى المجتمع الدولي، حتى يقف معه، كما وقف معه في حربه ضد تنظيم “داعش” الإرهابي. وأن هناك جهات سياسية عراقية، موالية لطهران، تعمل على إفشال هذا الحوار، بل وتحاول الضغط على الحكومة العراقية، من أجل عدم إقامته، فهذه الجهات، تريد بقاء النفوذ الإيراني متحكم في العراق والعراقيين، وتريد أن يبقى سلاح المليشيات هو المتحكم. وأن على رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الإصرار على إجراء هذا الحوار، لإعادة العلاقات والثقة بين بغداد وواشنطن، بما يخدم البلاد.
إن حكومة الكاظمي تمثل فريقًا أشبه بفريق الأحلام. فقد كان وزير الدفاع الجديد قائداً سابقاً للقوات البرية. ووزير الداخلية كان رئيساً لأركان الجيش. بينما يتمتع رئيس الجمهوريّة برهم صالح، الذي عاش سابقاً في واشنطن، بنظرة ليبرالية.ولهذا، لم يستغرب كثيرون الترحيب الذي حظيت به الحكومة العراقية الجديدة، والاتصال الذي أجراه أخيراً الرئيس ترمب بالكاظمي، معربًا عن رغبته في تقديم مساعدات اقتصادية للعراق قبل أيام من انطلاق الحوار الإستراتيجي وفي وقت يُعاني العراق أزمة اقتصادية جراء انهيار أسعار النفط الذي يشكل 90 في المئة من العائدات الاقتصادية للبلاد.ولم يكن ذاك هو المؤشر الأول إلى رغبة الولايات المتحدة في تغيير المسار المضطرب في العلاقات مع بغداد.
فقد سبق وأعلنت الخارجية الأميركية بعد ساعات من تنصيب الكاظمي عن منح العراق إعفاءات تسمح باستمرار استيراد الغاز والكهرباء من إيران مدة 120 يوماً، بعدما كانت الإعفاءات السابقة لا تزيد عن 30 يوماً. أضف إلى ذلك ترحيب أعضاء مجلس الأمن بتشكيل حكومةٍ عراقيةٍ جديدةٍ برئاسة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
فهو يعتبر “شخصية لا تعادي أحدا، صاحب عقلية وطنية واقعية”، فضلًا عن أنه يحظى الكاظمي في تحركه بدعم أطراف وازنة مثل مرجعية النجف والتيارات والقوى العلمانية والكردية. لذا سيعمل الكاظمي لتسخير شبكة علاقاته الواسعة في واشنطن، كما في طهران، لإنقاذ العراق من كارثة اقتصادية وسياسية. ويقول عنه مدير الدراسات في معهد الشرق الأوسط بكلية لندن للاقتصاد توبي دودج في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية: “إنه مفاوض بارز ولاعب ماكر”.
لذلك يعد مصطفى الكاظمي الرجل المثالي لرئاسة الحكومة العراقية وقت انخفضت ثقة العراقيين في النخبة السياسية، فهو قادر على إحداث الفارق في العملية السياسية والحدّ من مسار الانحدار بالعراق نحو مزيد من الفساد، وكبح جماح أطماع القوى السياسية في تقاسم السلطة وتحويلها إلى حصص ومحاصصات من دون الأخذ بعين الاعتبار مستوى التردي الذي وصلت إليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية في العراق. والقادر أيضًا أن على تقديم نموذجًا مختلفًا عن أسلافه في إدارة الأزمة العراقية وإعادة بناء الثقة الشعبية بمؤسسات الدولة من خلال الحدّ من “ثقافة الفساد” وفتح باب المحاسبة بقدر ما يسمح به ما تبقى من مؤسسات الدولة الرقابية التي نخرتها الاستقطابات والمحاصصات الفئوية والحزبية والعصبية.
بناءً على كل ما تقدم فإن حكومة مصطفى الكاظمي هي الحكومية المثالية لإجراء الحوار الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية في الشهر القادم ، بما يمتلكه من حس وطني سليم، ورؤية عميقة لحاضر العراق ومستقبله.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية