خلال تفشي الوباء العالمي، أثبتت الإصابات الأولى التي أعلنت عنها إيران في 19 شباط/فبراير في محافظة قم – التي باتت في النهاية بؤرة الوباء –أن الجمهورية الإسلامية ليست معزولة بقدر ما يُعتقد غالبًا. وقد أعلن وزير الصحة الإيراني أن الفيروس المستجد دخل إلى البلاد عبر تاجر إيراني كان سافر مؤخرًا إلى ووهان. ورغم أن الفيروس وصل إلى إيران في المراحل الأولى لظهوره، إلا أن الدولة تحتل الآن المرتبة الثانية بعد تركيا في المنطقة من حيث العدد الإجمالي للإصابات – علمًا بأن عدد الوفيات المعلن عنها في البلاد لا يزال الأعلى في المنطقة. هذا وكشف الفيروس أيضًا – فضلًا عن استجابة إيران والقادة الآخرين في المنطقة له – بعض السمات الجديرة بالملاحظة لمكانة إيران المتزعزعة إنما المهمة في السياسة الدولية. وفي وقت سلّط فيه تفشي الفيروس الضوء على مدى ترابط العالم اليوم، تحمل الطرق التي تعاملت بها الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية مع أزمة إيران إشارات كثيرة عن موقع إيران من وجهة نظر المجتمع الدولي.
وبرز أثر الفيروس بشكل ملحوظ في أوساط القيادات العليا في إيران، ما يشير إلى حسابات خاطئة رهيبة قام بها صناع القرار في طهران؛ فعلى ما يبدو لا تزال البلاد تخفي المعلومات بشأن الأزمة عن عامة الشعب – وكذلك عن المجتمع الدولي. وفي جميع الأحوال، من الواضح أن الفيروس تفشى بين القيادات العليا الإيرانية بشكل كبير؛ فقد جاءت نتائج الفحوصات إيجابية لنسبة 8 في المائة من أعضاء البرلمان الإيراني، بمن فيهم نائب وزير الصحة د. إيراج حريرجي. كما أن حوالى عشرة من كبار المسؤولين والوزراء في البلاد أصيبوا بالمرض – بمن فيهم السيد محمد مير محمدي مستشار المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.
ويعكس رفض إيران الاعتراف بوجود الفيروس في أيام انتشاره الأولى جزئيًا أهمية علاقتها مع الصين. ونظرًا إلى قلة الشراكات التجارية والاقتصادية الحالية التي أبرمتها إيران، تولي الدولة الإيرانية أهمية خاصة للعلاقات مع الصين. فقد طبعت الشراكة الاستراتيجية المستمرة واجتماعات سرية عالية المستوى مع الصين، إلى جانب استمرار الرحلات الجوية إلى الصين رغم التحذيرات، استجابات المسؤولين الإيرانيين الأولى للفيروس. فعلى سبيل المثال، واصلت “ماهان إير”، الناقلة الإيرانية المثيرة للجدل، تسيير رحلاتها إلى الصين حتى مطلع آذار/مارس. علاوةً على ذلك، ساهم غياب الشفافية والقدرة المحدودة على إجراء الفحوصات ورفض عزل المدن والأضرحة قبل عيد النوروز أواخر آذار/مارس والحملة الدعائية التي ألقت باللوم على الدول العربية المجاورة لتسببها بحالة هلع، في انتشار الفيروس في إيران.
كما حدّد موقع إيران الإقليمي كيفية انتشار الفيروس؛ فقد أدّت طموحات الدولة في المنطقة إلى جانب موقعها كمركز ديني إقليمي إلى جعلها “مسببًا رئيسيًا لانتشار المرض”. هذا وساهم السفر من إيران في انتشار حالات في أوساط العديد من الدول الصديقة في المشرق – ولا سيما سوريا ولبنان والعراق وتركيا واليمن وقطر – بسبب تواصل السفر إلى هذه الدول. كما أن مصدر الفيروس الذي انتشر في كل من السعودية والكويت ومصر والإمارات كان إيران.
لا مبالاة عالمية باستجابة إيران للأزمة
رغم الوضع السيئ لإيران، إنما تماشيًا مع التحديات الدبلوماسية القائمة، كانت هناك استجابة محدودة نسبيًا من جانب المجتمع الدولي لطلب إيران الحصول على مساعدة. فقد أرسلت بريطانيا وفرنسا وألمانيا بعض المساعدات المتواضعة إلى الجمهورية الإسلامية. وعلى نحو مماثل، قدمت لها روسيا والصين واليابان وأوزبكستان وأذربيجان المساعدة. في المقابل، استمرت العقوبات الأمريكية عليها ورغم أن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أعلن في آذار/مارس أن الإدارة تفكر في التخفيف من بعض العقوبات في ضوء أزمة كورونا، لم نشهد أي خطوات ملموسة على هذا الصعيد.
علاوةً على ذلك، أنكرت الحكومة الأمريكية مزاعم إيران بأنها لا تتمتع بنفاذ إلى السوق الدولي للحصول على المستلزمات الطبية أو الإنسانية بسبب العقوبات، بحسب ما ورد في رسالة وجهها في منتصف آذار/مارس الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى قادة العالم. وردت الولايات المتحدة بأن العقوبات لا تشمل واردات الأدوية والتسهيلات الطبية إلى إيران – وبدلًا من ذلك اقترحت واشنطن على إيران استخدام “المليارات الموجودة في صناديق التحوط” لمحاربة الفيروس. وبعد فترة قصيرة، في 6 نيسان/أبريل، أعلنت إيران أنها ستستخدم في الواقع مليار يورو من صندوق الثروة السيادية الخاص بها للتصدي للوباء. ومنذ ذلك الحين، تمّ تخصيص المال لمواجهة التحديات الاقتصادية التي تعانيها البلاد أيضًا.
وبدورها، استجابت الوكالات الدولية بشكل خجول لمحنة إيران، لكنها أحجمت في الوقت نفسه عن استهداف التدخل العسكري المستمر الذي تقوم به إيران. ولم تأت دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريز إلى “وقف إطلاق نار عالمي” في 23 آذار/مارس على ذكر إيران بشكل خاص، رغم انخراطها العسكري في المنطقة. وفي حين دعا المسؤولون العامون الدوليون الأدنى مستوى إلى تعليق العقوبات للمساعدة على مكافحة الوباء، بقيت هذه الاستجابات إلى حدّ كبير مجرد خطابات.
الحاجة هي نافذة لبروز فرصة دبلوماسية
إن التناقض بين الاستجابة الدولية الشاملة واستجابة باقي دول الخليج لأزمة إيران جدير بالملاحظة. فمن جهة، لم تقدّم السعودية أي مساعدة رغم أن استعدادها للتفاوض بشأن الحرب في اليمن دلّ على أن اهتمامها في النزاع الإقليمي قد تقلّص، ولا سيما خلال انتشار الوباء. وبشكل مباشر على نحو أكبر، أرسلت العديد من الدول العربية على غرار الكويت وقطر والإمارات رزم مساعدات إلى إيران. وفي لفتة ودّية بشكل خاص، سيّرت الإمارات رحلات على متنها خبراء من “منظمة الصحة العالمية” إلى تلك الدولة الفارسية. أما المساعدات المقدمة من قطر والكويت، فهي غير مفاجئة – حيث تربط الدولتان علاقات وطيدة مع جارتهما، وهي سمة معيارية في سياستهما الخارجية، وبخاصةٍ نظرًا إلى قربهما الجغرافي من إيران. غير أن المساعدة الإماراتية تمثل تحولًا على ما يبدو. وقد أدركت إيران قيمة تلك اللفتات – فخلال الأسابيع التي تلت المساعدة الإماراتية الأولى في آذار/مارس، أشار متحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إلى أن الوباء أضفى “المزيد من المنطق والعقل” على العلاقات الثنائية.
ويبدو أن الأسباب وراء هذا التواصل ثلاثية الأبعاد. ويتمثل الشرح البسيط في أنه تواصل إنساني؛ لكن المساعدة المقدمة إلى إيران قد تساعد تلك الدول الخليجية – التي غالبًا ما تكون في حالة هدنة مضطربة مع إيران بشأن مضيق هرمز المشترك بينها – على تليين أي خصومة إيرانية مخطط لها تجاه الدول المجاورة لها، وضمان حصولها على بعض الفضل بسبب “أعمالها المحبة” في المحافل العالمية. ويمكن أن تكون المساعدة أيضًا، وهذا احتمال أضعف، مجرد حيلة من أجل إحراج النظام في طهران. يُذكر أن الإيرانيين نزلوا إلى الشوارع مرارًا وتكرارًا للاحتجاج ضدّ هذا النظام المتشدد، ومن خلال تقديم المساعدة الطبية الآن، ربما يحاول العرب كشف عدم قدرة النظام على الاهتمام بشعبه.
ورغم أن إيران قد تختار في نهاية المطاف تجاهل فرصة متاحة أمامها من أجل التخفيف من حدة التوترات الخليجية، قد تجعل الأزمة الداخلية إيران أكثر انفتاحًا على طريقة يمكنها من خلالها الحدّ من التوترات بغية إدارة تحدياتها المحلية الخاصة. وتكتسي التداعيات الدولية الأشمل لمثل هذه الحلحلة في العلاقات أهمية خاصة من وجهة نظر دولة قد تسعى للاستفادة من ترتيب مماثل. وبالنسبة للهند، من شأن وضع ذاب فيه الجليد عن العلاقات بين الدول الخليجية، رغم عدم اليقين التي قد تنطوي عليه، أن يكون سبيلًا مرحبًا به إلى حدّ كبير من أجل تحسين علاقاتها الثنائية المهمة في الوقت نفسه مع الفرس والعرب.
ورغم أن الهند لا تعتبر غالبًا جزءًا من ديناميكيات الشرق الأوسط، تربطها والخليج اعتبارات دبلوماسية وثقافية على السواء. فمن وجهة نظر إيران، ورغم أن الشريحة السكانية المسلمة الكبيرة في الهند هي بمعظمها من السنّة، إلا أنها تضمّ نحو 45 مليون شيعي، ما يجعلها ثاني أكبر شريحة سكانية شيعية في العالم بعد إيران. فضلًا عن ذلك، تعتمد نيودلهي سياسة عدم تدخل وعدم إلزام تجاه دول الشرق الأوسط المجاورة لها وتختار عدم تحريض واحدة على الأخرى. ومن شأن تليين العلاقات بين هذه الدول المجاورة أن يراعي بلا شك مصالح الهند الرامية إلى دعم بحثها عن الأمن في مجال الطاقة.
وبتاريخ 16 نيسان/أبريل، أصيب حوالى 308 هنديًا كانوا لا يزالون في إيران بالفيروس المستجد، معظمهم من المقيمين في مدينتيْ قم، بؤرة الوباء، والعاصمة طهران. وفي الشهر نفسه، شدّد سفير إيران لدى الهند على شجني على أن الهند وإيران تتشاركان علاقة وطيدة وأن الجمهورية الإسلامية تتوقع أن يساعدها المجتمع الدولي، بما في ذلك الهند، على التصدي للعقوبات الأمريكية “غير العادلة”. علاوةً على ذلك، أكّد أنه يمكن للبلدين “التعاون على صعيد تطوير أدوية ولقاحات إذ نتشارك قدرات علمية وتكنولوجية كبيرة معًا”.
غير أن الهند رسمت حدودًا لهذه العلاقة خلال وقت تشهد فيه معظم الدول أزمات كبيرة. فمن الجدير ذكره أنه في الوقت الذي أرسلت فيه الهند طائرتها العسكرية سي-17 غلوب ماستر من أجل إجلاء 890 شخصًا من مواطنيها العالقين في إيران في العاشر من آذار/مارس، لم ترسل أي مساعدة رغم طلب روحاني المباشر المساعدة من الهند في 15 آذار/مارس.
كما يمكن إرجاع سبب هذا القرار إلى مخاوف السياسة المحلية والخارجية. فنظرًا إلى كثافة وحجم السكان فيها، إلى جانب العديد من تعقيدات الصحة العامة في الهند، تُعتبر الاستجابة المحلية لفيروس كورونا الأولوية القصوى، كما يجب أن تكون عليه الحال على الأرجح. إن الوضع مذرٍ لدرجة أن نيودلهي نفسها طلبت مساعدة خارجية وصرّحت أنها مستعدة لـ”قبول” هذه المساعدة – في تحول مفاجئ وحازم عن موقفها العام بعدم قبول أي مساعدة خارجية خلال المصائب. وعلى المستوى الدولي، تتنبه نيودلهي من عدم خرق العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران أو تعريض علاقات الهند المهمة اقتصاديًا مع دول الخليج العربي للخطر.
وعليه، من شأن التقارب بين العرب والفرس أن يساعد الهند على تلطيف روابطها مع الجانبين بعدة طرق. وبالتالي، ستحث صداقة بين الشعبين في المنطقة على إنشاء توازن أفضل على الصعيد المحلي أيضًا، وربما تليين الناحية الطائفية حتى في أماكن على غرار الأقاليم الاتحادية الهندية الشمالية جامو وكشمير ولداخ.
ففي هذه الحالات، يمكن أن يكون للتحولات الدبلوماسية تأثيرات متتالية. وإذا ما تراجعت حدة التوترات في الخليج نتيجة أثر فيروس كورونا على المنطقة – وكذلك حاجة إيران الملحة إلى التركيز على تحدياتها المحلية، من المستبعد اللجوء إلى القادة العرب الخليجيين من أجل ممارسة الضغوط على إيران. وفي هذه الحالة، قد يفسح تحول في الخليج المجال أمام إعادة التفاوض مع إيران.
مانياري سينغ
معهد واشنطن