هل يفقد الدولار مزاياه الاقتصادية وسط الإقبال على إطلاق العملات الرقمية؟

هل يفقد الدولار مزاياه الاقتصادية وسط الإقبال على إطلاق العملات الرقمية؟

ذكر تقرير حديث أن الولايات المتحدة مهددة بفقدان جانب رئيس من قوتها الجيوسياسية مع الحماس المتزايد لفكرة العملات الرقمية للبنوك المركزية.

وأشار التقرير الصادر عن بنك “جي بي مورغان”، إلى أنه لا توجد دولة قد تخسر بسبب احتمالات إنشاء العملة الرقمية أكثر من الولايات المتحدة. وأضاف، “يدور هذا في المقام الأول حول هيمنة الدولار، حيث إن إصدار العملة الاحتياطية العالمية ووسيلة التبادل للتجارة الدولية في السلع والخدمات يمثل مزايا هائلة”.

ويناقش العديد من البنوك المركزية حول العالم إنشاء عملات رقمية خاصة بها تخضع لتنظيم رسمي، وهو ما يختلف عن العملات المشفرة التي لا تتبع أي جهة مركزية.

ولا يتوقع “جي بي مورغان” سقوط الدولار من مكانته كعملة احتياط دولية في وقت قريب، ولكن المتخصصين يرون أن الجوانب الأكثر هشاشة من هيمنة الدولار، بما في ذلك التسوية التجارية ونظام “سويفت” يمكن أن تكون في خطر. وأشاروا إلى أنه حتى الدول الحليفة مثل الاتحاد الأوروبي قد ترغب في الحد من نفوذ الولايات المتحدة على أنظمة الدفع العالمية.

وأوضح التقرير إنه إذا تمكنت دول أخرى من التحايل على نظام سويفت وهيمنة الدولار، فسيكون من الصعب على الولايات المتحدة تنفيذ أهدافها في العقوبات ومنع تمويل الإرهاب. وكان رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول، أعلن في فبراير (شباط) الماضي أن البنك يقوم بعمل واسع النطاق للنظر في القضايا المتعلقة بالعملة الرقمية.

ارتفاع طفيف للورقة الأميركية مع أزمة الصين

في سوق العملات، ارتفع الدولار الأميركي مقابل سلة من العملات الرئيسة، حيث دعمت المخاوف بشأن تجدد التوترات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين الطلب على الدولار كملاذ آمن. واستفادت الورقة الخضراء من توتر العلاقات الأميركية الصينية مرة أخرى بسبب مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك معاملة الصين لهونغ كونغ، إضافة إلى إلقاء اللوم على بكين، فيما يتعلق بانتشار الوباء عالمياً.

وتعتزم الصين فرض تشريع جديد للأمن القومي على هونغ كونغ بعد الاضطرابات المؤيدة للديمقراطية العام الماضي، وهو ما رد عليه الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأن واشنطن سترد “بشدة” على هذا التشريع. كما أن واشنطن وبكين على خلاف آخر بشأن وصول الشركات الصينية إلى التكنولوجيا الأميركية المتقدمة، بالإضافة إلى الخلافات التجارية التي عادت مجدداً.

وفي وقت متأخر أمس، ارتفع الدولار مقابل اليورو بنسبة 0.4 في المئة إلى مستوى 1.0907 دولار، بينما هبط أمام العملة اليابانية بنسبة 0.1 في المئة ليسجل 107.50 ين. وصعدت الورقة الخضراء أمام الجنيه الإسترليني بنحو 0.4 في المئة ليسجل 1.2178 دولار، في حين شهدت زيادة أمام العملة السويسرية بنسبة 0.1 في المئة لتصل إلى مستوى 0.9718 فرنك.

وخلال التوقيت نفسه، ارتفع المؤشر الرئيس للدولار، الذي يتبع أداء العملة الخضراء أمام 6 عملات رئيسة بنحو 0.4 في المئة إلى مستوى 99.746 نقطة.

كيف أساء ترمب استغلال الدولار؟

في ما ذكر تحليل حديث، أنه وبعد ثلاث سنوات من إساءة استخدام الرئيس دونالد ترمب لوضع الولايات المتحدة المهيمن في النظام النقدي والمالي العالمي، فإن استجابة إدارته الكارثية لوباء كورونا قد تُضعف الثقة بالدولار. وذكر التحليل الذي أعده موقع “بروجيكت سينديكيت”، أنه إذا انتهت أيام “الامتياز الباهظ” الذي يعود على الولايات المتحدة باعتبار الدولار العملة الاحتياطية الدولية، فسينتهي الكثير من الأمور الأخرى.
ومع بداية أزمة “كوفيد-19″، يبدو أن الولايات المتحدة طورت حالة شديدة مما يطلق عليه علماء النفس “اضطراب الهوية الانفصالي”؛ فهي تظهر في وقت واحد شخصيتين مختلفتين. فمن ناحية، اتخذ الاحتياطي الفيدرالي من واقع مسؤوليته دوراً قيادياً في التمويل الدولي، كما فعل خلال الأزمة المالية العالمية لعام 2008. وفي مارس (آذار) الماضي، أحيا خطوط مبادلة العملات الثنائية مع نحو 14 مصرفاً مركزياً أجنبياً، وأدخل تسهيلات إعادة شراء جديدة (الريبو) لمجموعة أكبر من السلطات النقدية. وبالتالي ضمن إمداد وفير بالدولار مع مواجهة العالم احتياجات السيولة. وبهذا أصبح مرة أخرى مُقرِض الملاذ الأخير في العالم.

من ناحية أخرى، رفض الرئيس ترمب فكرة أن التعاون الدولي ضروري لمكافحة تأثير كورونا في الصحة العامة والنشاط الاقتصادي. ويبقى ترمب متمسكاً بمبدأ “أميركا أولاً”، مما يعني أن الحكومات الأخرى يجب أن تبحث في مكان آخر عن أي مظهر من مظاهر القيادة.

نظرة ضيقة وهويات متضاربة تزيد الأزمة

وعندما أتيحت لها الفرصة، أوضحت إدارة ترمب أنها ستعمل بمفردها. فقط من أجل “المصلحة الوطنية” على النحو المحدد في نظرة الرئيس الأميركي الضيقة للمعاملات على الصعيد العالمي. ويمثل عرض الهويات المتضاربة إشارة على عدم الكفاءة الأميركية، كما أنه لا يبشر بالخير بالنسبة للدولار، العملة المهيمنة في العالم منذ فترة طويلة.

وكلما أطلّت الولايات المتحدة في التعامل بوجهين مختلفين، كلما كان من المرجح أن تسقط من موقعها الطويل على قمة النظام النقدي والمالي الدولي. وفي النهاية، إلى متى سيثق المستثمرون الدوليون والحكومات الأجنبية في عملةِ شَريك غير موثوق به بشكل متزايد؟

وحتى الآن، لا يوجد خطر كبير من حدوث هجرة جماعية للهروب من حيازة الدولار حالياً. حيث تعتبر أحدث الإجراءات التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي استجابة لارتفاع الطلب على الدولار (بدلاً من حماية ضد مبيعات الذعر)، وهذا يشير إلى أن أزمة كورونا قد أعادت التأكيد على الدور الحاسم للدولار باعتباره الملاذ الآمن الأخير، ومع ذلك، قبل اندلاع الوباء كان من الواضح بشكل متزايد أن المستثمرين والبنوك المركزية يبحثون عن بدائل “لمعيار الدولار غير المحبب”، بسبب سلوك إدارة ترمب الذي لا يمكن التنبؤ به، بالإضافة إلى كراهية الأجانب. إذ في جميع أنحاء العالم، هناك استياء واضح من استخدام ترمب للعقوبات المالية العشوائية لمعاقبة دول مثل إيران، وكذلك أي دولة تتعامل معها، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة.

ومن خلال استخدام الدولار كسلاح مركزي في التسويات الدولية، دأب ترمب منذ فترة طويلة على دعوة الآخرين إلى الرد على ما يفعله. وكانت الصين على وجه الخصوص سباقة بشكل متزايد في تعزيز الرنمينبي كبديل للدولار، على الأقل من خلال فتح سوق سنداتها المحلية التي تبلغ قيمتها 13 تريليون دولار (ثاني أكبر سوق في العالم) للمستثمرين من المؤسسات الأجنبية. وبالمثل، أطلقت الدول الأوروبية آلية جديدة مصممة خصيصاً لتجاوز العقوبات الأميركية على صادرات النفط الإيرانية.

ومع نزيف العملة الأميركية ببطء شديد، فإن الوباء سيفتح الجرح حتماً. وهذا بدوره سيكون له آثار بعيدة المدى في نفوذ الولايات المتحدة بالعالم، وفي النهاية على قيادتها للنظام الدولي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لكن بالطبع فإن مساهمة الدولار في قوة الولايات المتحدة أمر مفهوم، وباعتبارها مصدر العملة المهيمنة في العالم، استمتعت واشنطن منذ فترة طويلة بما وصفه وزير المالية الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان بـ”الامتياز الباهظ”.

لماذا لا تجعل أميركا الدولار متاحاً للأصدقاء؟

وأشار التحليل إلى أنه طالما أن الأجانب يحتاجون إلى الدولار، يمكن للولايات المتحدة أن تنفق ما تحتاجه لإبراز القوة في جميع أنحاء العالم. ببساطة عن طريق تسريع طباعة العملة. كما يمكن أن تمارس التأثير بشكل أكثر مباشرة، مثل جعل الدولار متاحاً للأصدقاء مع حرمان الأعداء منه.

لكن في الوقت الحالي، يهدد سلوك ترمب المتقلب، والسعي إلى الانعزالية بتقويض القوة الجيوسياسية للولايات المتحدة بشكل كبير. وبمجرد أن يُنظر إلى القوة الأميركية على نطاق واسع على أنها تتلاشى، ستبدأ العملة الأميركية في فقدان بعض جاذبيتها، وتحريك دائرة مفرغة مفادها؛ الدولار الأضعف يولد الولايات المتحدة الأضعف، والتي بدورها تولد الدولار الأضعف.

والواقع أن الجنيه الإسترليني اتبع نمطاً مماثلاً في القرن العشرين. وكان فقدان العملة البريطانية للمكانة الدولية سبباً مؤثراً في انخفاض سلطة بريطانيا من قوة إمبراطورية إلى جزيرة متوسطة قبالة ساحل أوروبا؛ لذلك، فإن الدولار ليس محصناً من نفس النوع من التراجع التدريجي، إذ سيؤدي تراجع الولايات المتحدة ومكانة الدولار إلى إزالة إحدى الركائز الأساسية للنظام الليبرالي بعد الحرب.

وبالنسبة للكثيرين، كان هذا النظام مرادفاً للهيمنة الجيوسياسية للولايات المتحدة، ولكن في غياب القيادة الأميركية، تظهر النماذج السياسية المتنافسة في المقدمة، وتعزز القومية والشعبوية ومختلف خطوط “الديمقراطية غير الليبرالية”. وسوف تؤثر شخصية الولايات المتحدة المنقسمة في أكثر من مجرد الأميركيين، باستثناء عودة التكوين في واشنطن العاصمة. فيما يبدو أن التكهن بنظام ما بعد الحرب المتمركز حول الدولار يظل قاتماً.

خالد المنشاوي

اندبندت عربي