ربما نجا الاتحاد الأوروبي من أزمات متلاحقة بداية من الأزمة المالية 2008 مروراً بأزمة اللاجئين وخروج بريطانيا (بريكست)، لكن تواجه الكتلة الأوروبية حالياً أسوأ أزمة منذ نشأتها حيث يعمق فيروس كورونا المستجد كوفيد-19 توترات طويلة الأمد بين جنوب الكتلة، الأكثر تضرراً بالوباء وتداعياته الاقتصادية، والشمال الأقوى مالياً. إذ تشهد القارة العجوز موجة غير مسبوقة من الغضب تجاه الاتحاد الأوروبي، هذا الصراع من شأنه أن يحدد قابلية المشروع الأوروبي بأكمله للبقاء على المدى الطويل، بما في ذلك مستقبل العملة المشتركة.
بدأت القصة مع شكوى الإيطاليين من المعاملة الباردة التي لقيتها إيطاليا من شركائها في الكتلة عندما ضرب الفيروس التاجي الجديد البلاد بقوة أواخر مارس (آذار) الماضي، فبدلاً من الدعم والمساعدة التي كان يتوقعها مواطنو إيطاليا، فإن ألمانيا وفرنسا، قامتا بتخزين معدات الحماية لأنفسهما، وتجاهلت كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، معاناتهم المالية. منذ ذلك الحين، تحدثت شخصيات بارزة من جميع أنحاء الحكومة الإيطالية، بداية من البنك المركزي، وحتى في مكتب رئيس الوزراء جوزيبي كونتي، عن موجة غير مسبوقة من الغضب تجاه الاتحاد الأوروبي التي تتصاعد في بلد شهِد الآلاف يموتون أسبوعياً وينهار اقتصادهم.
وفي أحد استطلاعات الرأي التي أجريت في إبريل (نيسان) الماضي، وصف معظم الإيطاليين الصين بأنها صديقة، وقال نصفهم تقريباً، إن ألمانيا هي العدو، وفي استطلاع آخر نشرت شبكة بلومبرج نتائجه، قال 59 في المئة، إن الاتحاد الأوروبي لم يعد له معنى. فكلٌ من إيطاليا وإسبانيا استقبلتا العديد من المساعدات اللازمة لمكافحة الفيروس التاجي الجديد من دول أخرى خارج الاتحاد الأوروبي، ما خلق الفجوة الموجودة الآن داخل دول الاتحاد. وقدمت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، اعتذاراً لروما لفشل دول الاتحاد في مساعدتها في وقف مبكر من الجائحة، وقالت “أجل، لهذه الأسباب فإن أوروبا قاطبة تلتمس الاعتذار الصادق من إيطاليا”.
أوروبا فشلت في مواجهة الجائحة
لكن إيطاليا، صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في الكتلة، والبلد الذي شهد قبل ستة عقود وضع أسس الاتحاد الأوروبي، ليست وحدها التي تشهد تشككاً وغضباً حيال الكتلة الأوروبية. ففي مقابلة صحافية في إبريل الماضي، قال رئيس التشيك ميلوش زيمان، إنه يعتقد أن الاتحاد الأوروبي، وبخاصة المفوضية الأوروبية، فشلت في مواجهة تفشي فيروس كورونا، ولم يتردد في أن يعرب عن اعتقاده بأن الأزمة ستضعف الاتحاد. ويعتقد ريمان، أن الوباء أثبت عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على التنسيق الفعال وأشار، على سبيل المثال، إلى أن الكتلة ليس لديها خطة لمواجهة الوباء تمكن أن تساعد في التعامل مع الأزمة بشكل أفضل. ودعا إلى تغيير القواعد التي يعمل بموجبها الاتحاد الأوروبي وكبار السياسيين فيه.
في قمة عبر الفيديو عقدت في أواخر إبريل الماضي، اشتبك زعماء الاتحاد الأوروبي حول كيفية إنقاذ اقتصاداتهم من الركود الاقتصادي الناجم عن الجائحة، التي يتوقع أن تكون الأقسى منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي. وقال رئيس الوزراء الإيطالي أمام نظرائه الأوروبيين إن الطوارئ الصحية أصبحت حالة طوارئ اقتصادية واجتماعية، “لكننا نواجه الآن حالة طوارئ سياسية أيضاً”. ودعت روما ومدريد وباريس إلى تمويل على شكل ديون مشتركة بأشكال عدة، يشار إليه غالباً باسم “كورونا بوندز” أو “سندات كورونا”.
تيقن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من خطورة هذه الأزمة على مستقبل الاتحاد الأوروبي، لاسيما في ظل خروج بريطانيا (على الرغم من أن التجربة أثبتت أن الانفصال مؤلم ومكلف) وزيادة السخط لدى المواطنين الأوروبيين الذين لم يجدوا ما توقعوه من تضامن أوروبي خلال الجائحة، وعلق ماكرون في دعمه فكرة إنشاء صندوق إنعاش “أوروبا ليس لها مستقبل إذا لم نتمكن من العثور على رد على هذه الصدمة الاستثنائية”. وأشار إلى أن حجم الأزمة يتطلب تحويلات مالية إلى الدول الأكثر تضرراً، وليس فقط القروض.
وبعد شهر من الجدل والمفاوضات، تم التوصل أواخر مايو (أيار) إلى اتفاق بشأن خطط فرنسا وألمانيا (على الرغم من تشدد برلين مسبقاً) لإقامة صندوق إنعاش اقتصادي يبلغ حجمه 540 مليار دولار، للتصدي لتداعيات كورونا والخروج بالاتحاد من هذا المأزق الذي عصف باقتصادات العديد من دول الكتلة، وهو ما اعتبره ماريو سينتينو، رئيس مجموعة اليورو، خطوة نحو اتحاد مالي ووحدة نقدية سليمة. غير أن دول الشمال الأقل تضرراً ممثلة في السويد والدنمارك وهولندا والنمسا أعربت مراراً عن رفضها تبادل الدين وزيادة ميزانية الاتحاد الأوروبي، إذ تؤيد الدول الأربع تأسيس صندوق طوارئ فريد لتعزيز اقتصاد الاتحاد الأوروبي، وقدمت مجتمعة اقتراحاً بأن تكون المفوضية الأوروبية معنية بجمع الأموال كقروض في سوق رأس المال، ويتم توزيعها كمنح من خلال ميزانية الاتحاد الأوروبي.
الجائحة تحولت إلى أزمة سياسية
ويتفق مراقبون على أن جائحة كورونا ليست مجرد أزمة اقتصادية، كما هو الحال في أي مكان آخر في العالم، ولكنها تتحول بسرعة إلى أزمة سياسية ودستورية أيضاً، في حين لا يمكن أعضاء الاتحاد الأوروبي الاتفاق على ما هو مطلوب لجعل اتحادهم أكثر مرونة، ولا على كيفية تحقيق الإصلاح. وتقول مجلة إيكونومسيت البريطانية إن الوباء جاء ليمثل اختبار سندات العضوية، ومثال على ذلك العملة الموحدة.
وبينما تخفف البلدان آثار عمليات الإغلاق، فإن ديونها ترتفع بشكل حاد. لأن الحكومات في منطقة اليورو تقترض بعملة مشتركة، ولكن يجب أن تمول نفسها. هذه الديون قد ترتفع إلى مستويات غير مستدامة. المشكلة شديدة في إيطاليا، التي كانت في وضع صعب حتى قبل أن يضربها الوباء ولديها ديون عامة إجمالية تبلغ 2.4 تريليون يورو، أو 135 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ويقول ويليام دوزدياك، في كتابه “القارة الممزقة: أزمات أوروبا ومصير الغرب” الصادر في ديسمبر (كانون الأول) 2017، إن جين مونت، أحد الآباء المؤسسين للاندماج الأوروبي، يعتقد بأن قسوة التحديات الصعبة المتراكمة تشل قدرة القادة الأوروبيين على الرد الفعال. ففي الوقت الذي كانوا يتعاملون مع الأزمة المالية، ظهرت أزمة تدفق اللاجئين، وبعدها توجهات أكثر عدائية من روسيا، ومعها الإرهاب والجهاديون الأوروبيون. نتيجة ذلك، تحرك عديد من الحكومات بعيداً من الوحدة الأوروبية باتجاه القومية، كما رأينا في تصويت البريطانيين على مغادرة الاتحاد الأوروبي.
النزعة القومية تهدد الكتلة
ويخشى مونتي من أن التوجه القومي من شأنه أن يسرّع من زخم التطرف الشعبوي وربما يقود إلى تفكك كامل للاتحاد الأوروبي. ويقول دوزدياك إن التشكك في أوروبا منتشر على نطاق واسع في إيطاليا، أحد الأعضاء المؤسسين للاتحاد. فمنذ توقيع معاهدة روما في مارس 1957، لترسيخ المؤسسات الرئيسة للكتلة، حصلت إيطاليا على عديد من المنافع، وطالما رأت بروكسل رمزاً لفرصة اقتصادية وحارس السلام القاري، ومفوضاً خارجياً يحمي بلدهم من الفساد والانقسام الاقتصادي بين مدن الشمال الغني والجنوب الفقير. لكن اليوم، فقد الإيطاليون من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية ثقتهم في الاتحاد الأوروبي. هذا الشعور الذي تعزز بفعل الأزمة الاقتصادية عام 2008، ولكن ترتكز انتقاداتهم على اليورو، العملة الموحدة التي ضاعفت سعر مشروبهم المفضل “الإسبرسو” بين عشية وضحاها.
على الرغم من سعي الآباء المؤسيين للاتحاد نحو الاندماج الأوروبي الكامل، وطموح البعض نحو تشكيل الولايات المتحدة الأوروبية، لكن الأثر الجانبي لأزمة 2008 أكد مدى بعد أوروبا عن كونها بلداً واحداً، كما لفت الانتباه إلى حقيقة أن ألمانيا هي التي تتخذ القرار الرئيس في أوروبا. فبحسب جورج فريدمان في كتابه “الإمبراطورية والجمهورية في عالم متغير”، “إذا كانت ألمانيا تريد إنقاذاً، فسوف يكون لدى أوروبا إنقاذ”. ويشير إلى أن اليورو يخدم مجموعة من البلدان في مراحل مختلفة من التنمية، وفي أجزاء مختلفة من دائرة الأعمال، والعملة التي تساعد بلداً ولا تساعد آخر بالضرورة.
ومنذ تأسيس الاتحاد الأوروبي عام 1993، يقول فريدمان إن الكتلة تمتعت بفترة غير مسبوقة من الرخاء، وغطى ذلك الرخاء لبعض الوقت على كل القضايا، التي لم تحل حلاً كاملاً، بينما مقياس أي كيان سياسي هو كيف يعالج الشدائد. ومع أزمة 2008، ظهرت كل المشكلات التي لم تحل، وظهرت معها النزعة القومية التي كان الاتحاد الفيدرالي يعتزم دفنها. وفي بعض الأحيان، أصبحت تلك النزعة القومية قوية إلى حد كبير من الناحية السياسية، إذ عارض أغلبية الألمان تقديم العون لليونان، وفضل أغلبية اليونانيين الإفلاس على الخضوع لشروط الاتحاد الأوروبي، التي كانوا يرونها شروطاً ألمانية.
النزعة القومية التي هدأت بعد أن انزاحت مغبة الأزمة الاقتصادية قبل أكثر من 10 سنوات، تعود بقوة مع تجدد الأزمة المالية للقارة في ظل جائحة كورونا. وفي إبريل الماضي، قالت كريستين لاجارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، إن البنك يتأهب “لانكماش كبير” في اقتصاد منطقة اليورو. وينتقد ماثيو سالفيني (السياسي الإيطالي المتشكك في البقاء في الاتحاد)، الاتحاد الأوروبي لفعله القليل للمساعدة. وربما يستغل حزبه هذه الأزمة للوصول إلى السلطة، حيث سيعمل على خلق الغضب واستغلال الانقسامات مع بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي).
ويلفت داليبور روهك، الباحث لدى معهد أنتربرايز أميركان في واشنطن، إلى أن حكومة إيطاليا كانت، حتى وقت قريب، يقودها ائتلاف شعبوي بني على رفض إجراءات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي. وفي استطلاعات الرأي الخاصة بانتخابات الرئاسة 2022 في فرنسا، هناك منافسة قوية بين الرئيس ماكرون والزعيمة اليمينية المتشددة مارين لوبان. حتى في إسبانيا، حقق اليمين المتشدد مكاسب كبيرة في الانتخابات البرلمانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019. كما أن الحكومات في وارسو وبودابست وبراغ ليس لديها سوى القليل من المودة تجاه الاتحاد الأوروبي. وإذا استنتجت هذه القوى أن هناك مكاسب سياسية يمكن تحقيقها من خلال انتزاع الأشياء بأيديها، فستفعل.
تفكك الاتحاد الأوروبي
ويضيف أنه إذا كان هناك درس واحد من الكساد الكبير، فهو أنه عندما تفشل القيادة الدولية، يتم استبدالها بالسلوك المدمر غير التعاوني للحكومات القومية. ويرى روهك أنه في ظل التكلفة البشرية الحقيقية للوباء والمخاوف الشعبية والشعور – المبرر أو غير المبرر – بأن المؤسسات الأوروبية لا تساعد، يمكن أن يضيف بسهولة إلى قوة الطرد المركزي القوية. وعلى سبيل المثال، سيكون هذا صحيحاً بشكل خاص إذا توصل الإيطاليون إلى استنتاج مفاده أن تخفيض قيمة عملتهم هو مصدرهم الوحيد الممكن للإغاثة الاقتصادية.
ويتفق المراقبون على أن الاتحاد الأوروبي إذا كان يسعى للنهوض والازدهار، فيجب أن يكون أكثر طموحاً مما يعترف به الشماليون. ومن ثم يجب على قادة الاتحاد الأوروبي ورئيس البنك المركزي الأوروبي، إما أن يتحركوا بجرأة لمساعدة المحيط، أو أن المحيط سيساعد نفسه بأي طريقة ممكنة – حتى لو كان ذلك يعني تفكك منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي.
وتقول الإيكونومست إنه طالما بقي الاتحاد الأوروبي ممراً لنشر الأزمات، فإن خطر الانهيار سيكون مرتفعاً. ويمكن قادته أن ينظروا إلى مثال بعيد. ففي يونيو (حزيران) الجاري، ستمر ذكرى 230 عاماً على تسوية عام 1790، عندما أقنع ألكسندر هاميلتون، الأب المؤسس للولايات المتحدة، كلاً من توماس جيفرسون، وجيمس ماديسون بالسماح لحكومة الولايات المتحدة الجديدة بتحمل دين 13 ولاية فردية. ولا تحتاج أوروبا إلى الذهاب بعيداً، كما لا توجد لديها جزرة تقدمها للدول الغنية (في عام 1790 وضعت الاتفاقية عاصمة أميركا الجديدة في الجنوب). ولكن هناك عصا: إذا لم يحصل الأعضاء المتذبذبون في أوروبا على المساعدة، فقد ينهار اليورو والسوق الموحدة في نهاية المطاف. لذا يجب أن يكون القادة الأوروبيون الذين يتفاوضون حالياً أكثر جرأة. فإذا كان من الصعب إجراء تحويلات أكبر وتبادلية كبيرة للديون، كدفعة مبدئية لتجنب الكارثة، ووضع الاتحاد الأوروبي على طريق الاستقرار، سيكون الأمر يستحق ذلك.
إنجي مجدي
اندبندت عربي