تحديات التغيير في العراق

تحديات التغيير في العراق

لم تنشأ التظاهرات الشعبية العراقية الحاشدة التي تفجرت في العاصمة بغداد وعدد كبير من المدن العراقية خاصة البصرة والناصرية الأسبوع الماضي من فراغ، ولم تكن وليدة سوء الخدمات الأساسية وبالذات في قطاعي الكهرباء والماء فحسب، ولكنها وليدة تراكمات أخطاء فادحة قامت وتقوم بها أطراف خارجية لها علاقة مباشرة بإدارة السياسة والحكم في العراق خاصة أمريكا وإيران، وأخطاء أكثر سوءاً قامت بها الطبقة الحاكمة التي جاءت برضى الاحتلال ودعم إيران على أسس من المحاصصة الطائفية والعرقية، لذلك فإن موافقة رئيس الحكومة حيدر العبادي على حزمة إصلاحات أولية وموافقة مجلس الوزراء بالإجماع وكذلك موافقة مجلس النواب بإجماع الحاضرين أيضاً يومي الأحد والثلاثاء 9 و11 أغسطس/آب الجاري يمكن أن تكون مجرد مسكنات أو محاولة لاحتواء الغضبة الشعبية التي خرجت تطالب بالتغيير وليس فقط بمحاسبة ومحاكمة الفاسدين والمسؤولين عن الفساد من رأس السلطة في العراق إلى أدنى مستوياتها، ويمكن أن تكون خطوة على الطريق الصحيح للتغيير داخل العراق، وهذا ما سوف تؤكده أو تنفيه تطورات وأحداث الأيام القادمة.

كان أهم الشعارات التي رفعت خلال تلك التظاهرات ذلك الشعار عميق الدلالة الذي يقول: «لا سنية ولا شيعية.. تسقط دولة الحرامية»، الأمر الذي حفز البعض للتفاؤل بأن هذه الحركة الشعبية يمكن أن تؤسس ل «تيار وطني ثالث» يتجاوز الطائفية والمذهبية والتقسيمات العرقية بقدر ما يتجاوز التبعية سواء لمرجعية دينية داخلية أو لسطوة دولة إقليمية مجاورة تملي شروطها على الطبقة الحاكمة في العراق. فقد تركزت مطالب المتظاهرين وبالذات التظاهرات الحاشدة يوم الجمعة 7 أغسطس/آب الجاري في الدعوة إلى تفعيل جهاز الادعاء بوصفه ممثلاً لحقوق الشعب العراقي، إضافة إلى تشكيل مظلة لحماية الجهاز القضائي من ضغوط الساسة الفاسدين، وإنشاء هيئة لتجميع ملفات الفساد وتقديمها للقضاء بشكل مباشر، وإعطاء الأولوية لمطلب إبعاد القضاء وهيئة النزاهة عن المحاصصة الطائفية.
هذه المطالب فرضت نفسها على الطبقة الحاكمة في العراق خاصة الكتل السياسية وبالذات المشاركة منها في الحكم وفي مقدمتها «التحالف الوطني» والحكومة والبرلمان، أن تتعامل بحذر مع هذه المطالب الشعبية خاصة أنها أخذت تتعمق في التعرض للأسباب الحقيقية وراء فشل الدولة والحكم في العراق منذ الغزو والاحتلال الأمريكي عام 2003، وبالتحديد أسباب ثلاثة تهدد مصالح وتحالفات هذه الكتل السياسية والقوى المشاركة في الحكومة على أساس «المحاصصة السياسية» والممثلة في البرلمان هي: نظام المحاصصة في السلطة السياسية على أسس طائفية وعرقية فرقت وحدة الوطن العراقي، وتغول الدين في السياسة، وأخيراً رسوخ مبدأ حماية اللصوص والمتنفذين الفاسدين الذي بات قاعدة حاكمة لإدارة الدولة.
لذلك فإن السؤال المهم: هل العبادي هو المؤهل لقيادة العراق نحو التغيير الذي يريده الشعب؟
السؤال يقودنا إلى حزمة لا تقل أهمية من التساؤلات أبرزها: هل ستسمح الطبقة الحاكمة بالاستجابة للمطالب الشعبية الحقيقية بعد حزمة العبادي الإصلاحية التي جرى دعمها اختياراً أو إجباراً من القوى والكتل السياسية المتنفذة في السلطة والبرلمان خشية الضغط الشعبي، وما هي آليات التغيير التي يمكن أن يكون في مقدورها فرض التغييرات المأمولة: هل انتخابات جديدة، أم يقوم البرلمان بإصدار حزمة أخرى من القوانين ذات السمة الأكثر جذرية، أم بتعديل الدستور أو حتى تغييره؟
من في مقدوره أن يفعل ذلك، وهل التظاهرات الشعبية قادرة على مواصلة مشوار التغيير بتطور التظاهرات إلى اعتصامات وخوض تجربة موجة ثورية على غرار التجربتين التونسية والمصرية، ومن يضمن ألا يكون المآل هو المصير السوري أو حتى اليمني؟

شملت حزمة إصلاحات العبادي التي أقرها البرلمان بأغلبية 297 هم كل الحضور، إلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الوزراء أي مجموعة «الصقور» في السلطة السياسية: نوري المالكي (كتلة دولة القانون) وأسامة النجيفي (كتلة متحدون- رئيس البرلمان السابق) وإياد علاوي (رئيس كتلة الوطنية ورئيس الوزراء الأسبق)، وكذلك كل من نواب رئيس الحكومة الثلاثة: بهاء الأعرجي (كتلة التيار الصدري) وصالح المطلق (رئيس الكتلة العربية) وروش نوري ساويش (القيادي في التحالف الكردستاني). وتضمنت تلك الحزمة الإصلاحية إبعاد جميع المناصب العليا عن المحاصصة الحزبية والطائفية.

عندما أعلن العبادي عن الإصلاحات كان حريصاً على توضيح أمرين؛ أولهما تأكيده أن حزمة الإصلاحات المقترحة جاءت استجابة لدعوة المرجع الشيعي الأعلى السيد السيستاني له بأن يكون «أكثر جرأة وشجاعة» ضد الفساد، وذلك عبر اتخاذ «قرارات مهمة وإجراءات صارمة في مجالي مكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية». ثانيهما اتهامه «أطرافاً سياسية»، لم يُسمها، بالوقوف ضد الإجراءات الإصلاحية. وقال خلال كلمة في المؤتمر الأول ل «التعايش بين الشباب» إن «أي خطوة نخطوها للإصلاح تقابل بالرفض ومنها ما يتعلق بتخفيض رواتب المسؤولين، وكذلك شمول المسؤولين عن القطع المبرمج للكهرباء»، كما أنه جدد تأكيده للمظاهرات الجماهيرية أنه «بات من الأهمية تفعيل مبدأ من أين لك هذا وأن تقوم لجنة النزاهة بتشكيل فرق خاصة للتحقق من الأموال».
هذه التوضيحات تكشف انحياز العبادي للدعوة الإصلاحية وحرصه على أن يحتمي بالمرجع الشيعي من الرافضين لهذه الدعوة، لكن هذه التوضيحات تكشف أيضاً أن العبادي ليس هو الرجل الذي يمكن أن يقود «ثورة تغيير» ضد نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وأن يؤسس لدولة مدنية لا دينية، وهو المطلب الشعبي الذي لخصه شعار المتظاهرين: «باسم الدين سرقونا الحرامية» وإصرارهم على عدم التنازل عن مثل هذه المطالب حتى «لو شاركتنا كل التيارات الدينية»، وهذا ما دفع تيارات دينية إلى التوجس من هذه المظاهرات ومطالبها حيث رأت فيها دعوة لتغيير الحكم وسعياً لإسقاط «التجربة الإسلامية الإصلاحية في العراق».
لذلك فإن موافقة الكتل السياسية ومنها التيار الصدري ودولة القانون على حزمة إصلاحات العبادي يمكن توصيفها على أنها محاولة للحفاظ على النظام القائم لكن هناك من يتخوف باسم الديمقراطية والتعددية على مستقبل النظام مثل إياد علاوي الذي حذر من «نشوء ديكتاتورية جديدة تحصر الإصلاحات بيد شخص واحد» (يقصد رئيس الحكومة). كما أن موقف هذه الكتل من إصلاحات العبادي تتوقف على اختياراته للمسار الذي، من خلاله، سيسعى إلى تحقيقها: هل سيستبدل نظام المحاصصة بنظام الكفاءات والتكنوقراط، أم سيلجأ إلى فرض نظام حكم الأغلبية، أي حكم «التحالف الوطني» وبالذات حزبه «حزب الدعوة»، كما تتوقف أيضاً على مدى تجاوب الحشد الشعبي المدعوم من إيران مع هذه الإجراءات أو التطوير في خصوصية النظام وعلاقته بإيران، خصوصاً في ظل دعوة رئيس الأركان الإيرانية اللواء حسن فيروز أبادي الشعب العراقي «سنته وشيعته» إلى «الحذر من مكائد الأعداء في الداخل والخارج» وقوله: «إن بعض الأزمات في العراق مصطنع، والدعوة للتظاهرات تتم بتحريض من مجموعات معروفة، ومن غير المسلمين أحياناً».

د. محمد السعيد إدريس

الخليج