أدى تفشي وباء كورونا لزيادة معاناة المهاجرين العاملين في الخارج وفاقم أوضاع ذويهم الذين يعيشون على تحويلاتهم المالية، حيث نال الوباء من شريان الحياة المالي لأكثر من مليار فرد حول العالم، بعد أن عصف بالتدفقات النقدية بسبب فقدان عدد كبير من المغتربين لوظائفهم وتباطؤ حركة التحويلات.
القاهرة – تترقب فريدة سعيد التي تقطن في ريف محافظة القليوبية شمال القاهرة غرة كل شهر وتستعد لقطع مسافة تصل لنحو اثني عشر كيلو مترا تستخدم خلالها ثلاث وسائل نقل للذهاب إلى مقر البنك في مدينة بنها، لصرف القيمة المالية المُحولة من زوجها الذي يعمل في مهنة البناء في جدة بالمملكة العربية السعودية.
تعين الحوالة التي تصرفها فريدة أسرتها المكونة من خمسة أطفال ووالدة زوجها المسنة المريضة على تدبير احتياجات الأسرة من طعام وكساء ودواء ودفع قيمة الدروس الخصوصية لأبنائها في مراحل التعليم المختلفة.
وعلى حد قولها لـ”العرب”، تعد هذه الطريقة هي الدخل الوحيد للأسرة، ولا تتجاوز قيمتها 150 دولارا، لكنها كانت تعينها على مواجهة أعباء الحياة وسداد البعض من الديون التي تركها لها زوجها لتدبير تكاليف سفره.
وبعد انتشار كورونا، بدأت أحوال الزوج تتعثر، وتحويلاته تتراجع إلى أن وصلت لنحو 60 دولارا، ثم توقفت بعد أن فقد عمله وبات عالقا يبحث عن قيمة تذكرة العودة للقاهرة.
قصة فريدة، ليست فريدة من نوعها، بل قضية تمس عددا كبيرا من أفراد الدول النامية التي ترتبط حياة شرائح كبيرة منها بالتحويلات المالية من ذويهم في الخارج.
وفي هذا الصدد، حذرت منظمة الأمم المتحدة من تفاقم أوضاع الأسر اقتصاديا واجتماعيا نتيجة تعثر الموارد المالية لهذه الفئات المهمشة، بسبب ركود النشاط الاقتصادي، وفقدان شرائح كبيرة إن لم يكن أغلب المهاجرين لوظائفهم بعد تفشي كورونا.
وقدرت المنظمة في تقرير عاجل لها بشأن هذه القضية، عدد المهاجرين الذين ينفقون على أسرهم بنحو 200 مليون عامل مهاجر، يعملون في 40 دولة غنية، ويعيلون نحو 800 مليون فرد في أكثر من 125 دولة نامية.
وتسهم التحويلات المالية التي يرسلها العمال إلى عائلاتهم بشكل كبير في انتشال عشرات الملايين من الفقر المدقع نتيجة الخلل الهيكلي في بلدانهم، والذي أدى إلى غياب سياسات تضمن عدالة توزيع الدخل وشمول ثمار التنمية جميع فئات الشعوب.
وتوقع البنك الدولي أن يطال الفقر المدقع نحو مئة مليون فرد على مستوى العالم بسبب جائحة كورونا، فيما كان قدرها سابقا بنحو 60 مليونا، الأمر الذي يشير إلى تداعيات وخيمة للأزمة.
ووفقا للصندوق الدولي للتنمية الزراعية “إيفاد”، فإن نصف العائلات التي تستقبل هذه التحويلات المالية تعيش في المناطق الريفية، حيث تعد التحويلات المالية أكثر أهمية في سقوط المناطق الريفية من حسابات معظم البرامج التنموية للدول.
وساهم تركيز غالبية حكومات الدول النامية على تعزيز الإصلاحات وقصرها على المناطق والمدن الحضرية، في تهميش أوضاع الفقراء والمهمشين في المناطق النائية والريفية، ما جعلهم ينشدون البدائل مثل الهجرة إلى الخارج أملا في مقاومة الفقر.
وعلى الرغم من أن تداعيات الوباء طالت الجميع بمستويات مختلفة، إلا أنه نال بشكل كبير من المهاجرين الذين يعتمدون على العمل بعيدا عن أوطانهم لإعالة أنفسهم وأسرهم وذويهم.
تحديات غير مسبوقة
بالنسبة للعمالة المهاجرة في الداخل والخارج، فإن الآثار السلبية لفقدان الوظائف كبيرة للغاية، فهم غالبا ما يعملون في وظائف غير رسمية ولا يجدون شبكات الأمان في حالة فقدان الوظيفة أو المرض، لذلك فإن البقاء في المنزل بهدف تفادي الإصابة بالوباء رفاهية لا يستطيع العديد من المهاجرين تحملها.
رغم أن الحكومات اتخذت إجراءات لحماية أرواح الناس وسبل كسب عيشهم في إطار الجهود الرامية للتصدي للجائحة، لكن إلى الآن لم تتم مواجهة التحديات غير المسبوقة التي تواجه المهاجرين وأسرهم بشكل عام، إلا في حالات قليلة للغاية.
ولعل من ضروب الذكاء الاقتصادي رعاية وحماية المهاجرين من الوباء، لأن هذه الخطوة تعني تقليل خطر انتقال الوباء لجميع السكان، مع المساعدة في الحفاظ على مصدر العمل الذي سيكون غاية في الأهمية للتعافي من الآثار الاقتصادية للجائحة.
ومن جهة أخرى، أرق تعثر حركة التدفقات النقدية المؤسسات الدولية التي طلبت من البنوك المركزية في الدول إعفاء هذه التحويلات من الرسوم أملا في حفز المهاجرين ومساندتهم في مواصلة سيلها الذي توقف بسبب جائحة كوفيد – 19.
ويصل المتوسط العالمي لتكلفة تحويل مبلغ 200 دولار من المهاجر إلى أسرته نحو 13.6 دولار، فيما تزيد هذه التكلفة إلى 13.8 دولار في منطقة الشرق الأوسط، وترتفع إلى 17.8 دولار للوصول إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء.
وتتجاوز أهمية التحويلات المالية مساندة الأسر وانتشالها من براثن الفقر والحماية من الصدمات المالية والصحية، فيما تمتد لتحسين جودة الحياة بما يعزز من زيادة الإنتاج والتنوع الغذائي، وهو المؤشر الذي رصدته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة “فاو”.
وأكدت المنظمة أن تحويلات المهاجرين لأسرهم عززت من وضعهم الصحي (الأسر المعدمة) وباتوا من القادرين على العمل بشكل أفضل في الأنشطة الزراعية، ما زاد إنتاجية الغذاء وعمق التنوع، بوصف أن هذه الفئات الأكثر عملا في الفلاحة، إلى جانب القضاء على الجوع.
وتمتد مظلة عوائد التحويلات المالية للمهاجرين إلى بناء جيل من الأبناء القادرين على الالتحاق بالمدارس، بعد أن كانوا لسنوات يتسربون من التعليم لعدم قدرتهم على تحمل الأعباء.
ويرجع السبب في ذلك لترهل هيكل المنظمة التعليمية وفسادها، الأمر الذي يكبد من يريد تعزيز قدرات أبنائه ومساندتهم على مواصلة مراحلهم التعليمية اللجوء إلى التعليم الموازي، الدروس الخصوصية، وهي تكلفة لا يقوى عليها المهمشون اقتصاديا واجتماعيا.
ونظرا لتشابك هذه الأمور فإن التحويلات المالية تضمن أيضا الحد من العمل بأجور غير رسمية، وهي مرحلة الاستغلال المترتبة على زيادة معدلات الفقر، مقابل زيادة أعداد المهمشين وتفشي البطالة بينهم، ما يفضي إلى عرض أجور زهيدة تقل عن معدلاتها الحقيقية من جانب أرباب الأعمال، ومع ضائقة الحياة يتم قبولها.
وأسهمت التحويلات المالية على مدى عقود في تحسين ورفع معدلات التنمية في الريف، فيما يفضل الأفراد تدشين مشروعات في المناطق الريفية من خلال ودائع التحويلات المالية التي تم تحقيقها خلال سنوات العمل في الخارج.
ويسعى المهمشون من خلال هذه الخطوة إلى إعادة بناء وضعهم الاجتماعي عبر المشروعات الجديدة، وبناء مساكن فارهة لغسل سنوات الشقاء.
موارد للبلاد والعباد
أصبحت التحويلات المالية للمغتربين في الخارج رافدا رئيسيا للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، وسجل حجمها رقما قياسيا العام الماضي وفق تقديرات البنك الدولي بنحو 554 مليار دولار، وهو رقم كبير يمكنه تحريك وإنعاش الاقتصاد العالمي، فيما يؤدي البطء إلى مشكلات تطال مليار مواطن حول العالم.
وهرع البنك الدولي للتحذير من تباطؤ حركة التحويلات المالية، وقال إنها تقوض التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030 عالميا.
في سبيل ذلك شجع الدول على عودة تشغيل الاقتصاد والدعوة للعمل مجددا، فيما يترتب على عدم حدوث انتعاش في عام 2021، استنفاد المدخرات وجعل الظروف المحلية أكثر سوءا، كما أنه من غير المتوقع أن تعود التحويلات المالية إلى مستويات ما قبل الجائحة.
ويرجع هلع البنك الدولي من تلك القضية إلى أن توقعاته كانت تشير إلى ارتفاع تحويلات المغتربين في الخارج إلى ذويهم في بلدانهم لنحو 597 مليار دولار بارتفاع نسبته 8.3 في المئة، وهذه المؤشرات جعلته يبني رؤى وطموحات كبيرة على تحسن جودة الحياة.
وعصف كورونا بهذه الطموحات، وهو ما ينذر بزيادة كبيرة في أعداد المعوزين، وخطط البنك ومشروعاته في الدول ذات الدخل المنخفض.
وقال حسن الخولي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس في القاهرة، إن تراجع التحويلات المالية للمغتربين ضاعف معاناة الأسر الفقيرة التي تعيش عليها بشكل أساسي.
وأضاف أن انخفاض قيمة التحويلات المالية له أبعاد أخرى تتجاوز التداعيات الاقتصادية، حيث تضيف الكثير من الضغوط على المهاجر في الخارج، والذي يشعر بالقهر نتيجة عدم قدرته على تلبية احتياجات أسرته، وتتسبب في معاناة نفسية لمن يعولهم، وتتجاوز هذه التداعيات الأمور لتصل إلى مراحل أكثر خطورة تُدخل بعض الأسر دائرة الاكتئاب.
وقد احتلت الدول الأكبر، من حيث التعداد السكاني، المراكز الأربعة الأولى، إذ يشير البنك الدولي إلى أنه ستصل التحويلات المالية للمهاجرين بنهاية العام إلى الهند بنحو 82.2 مليار دولار والصين نحو 70.3 مليار دولار والمكسيك 38.7 مليار دولار والفلبين 35.1 مليار دولار.
وفي المركز الخامس، حلت مصر بنحو 26.4 مليار دولار، ويبقى متوسط الارتفاع السنوي في دول منطقة الشرق الأوسط ضعيفا، مسجلا 3 في المئة مقارنة بنحو 7.8 في المئة في دول أميركا الجنوبية والكاريبي، و5.3 في المئة في جنوب آسيا، ونحو 5.1 في المئة في دول جنوب الصحراء الأفريقية، إلى جانب 3.8 في المئة في دول شرق آسيا والمحيط الهادئ.
وتعتمد القاهرة مثلا في الحصول على العملات الأجنبية من تحويلات المغتربين في الخارج، ولذلك عليها إعادة ترتيب أوضاعها بعد تساقط هذه الورقة ومواجهة الواقع الجديد، تزامنا مع معدلات العودة غير المسبوقة للعاملين في الخارج بسبب كورونا.
وتعكف الحكومة المصرية حاليا على وضع أطروحات تستهدف استيعاب المغتربين العائدين من الخارج من خلال دراسة أحوالهم الاقتصادية والمعيشية، من حيث مؤهلاتهم ووظائفهم والمجالات التي يتمتعون بخبرات فيها لمساعدتهم على التأقلم مع المتطلبات المعيشية.
ورغم النوايا الحسنة لهذه المبادرات، إلا أنها لا تزال متأخرة وتحتاج إلى سرعة قبل أن تتفاقم الانعكاسات، في ظل بيروقراطية الأداء التي لا تناسب الأوضاع الطارئة حاليا.
تضم اللجنة التي خصصتها الحكومة المصرية حول أوضاع المغتربين الاقتصادية، وزارات الدولة لشؤون الهجرة والمصريين بالخارج، والخارجية، والتخطيط والتنمية الاقتصادية، والتجارة والصناعة، والقوى العاملة، والتضامن، والتنمية المحلية، وممثلين من القطاع الخاص والمجتمع المدني.
وتبحث مساعدة المغتربين العائدين من الخارج من خلال مساندتهم في توظيف مدخراتهم في مشروعات صغيرة أو أوعية ادخارية مناسبة في البنوك المصرية، واستثمار طاقاتهم وخبراتهم في مجالات العمل المختلفة.
إضافة إلى ذلك، هناك دور على الأسر التي تحتاج للتكاتف في محاولة لتقبل الأوضاع الجديدة، وتستعد لذلك نفسيا واجتماعيا، وتعيد ترتيب أولوياتها مع خفض ميزانية الأسرة ومصروفاتها.
وتفتح تلك الإشكالية تعزيز دور التكافل المجتمعي وعليه دور كبير خلال الفترة المقبلة في صياغة أساليب جديدة للتعايش وحب العطاء، لأن معظم العائدين من الخارج أنهكتهم ظروف المعيشة خلال الأشهر الماضية، فضلا عن كونهم من الفارين مبكرا من جحيم البطالة في بلدانهم أملا في أرض واسعة يبحثون فيها عن سعة العيش.
وترجع الحاجة الملحة لاستيعاب طاقات العائدين من الخارج إلى أن عددا من الدول المستوردة للعمالة سرعت وتيرة إحلال العمالة المحلية محل الأجنبية، وبدأت تظهر هذه التحولات في منطقة الخليج، والتي تعد أكبر مستقبل للعمالة الأجنبية من المنطقة العربية وآسيا وأفريقيا.
وأشار حسام الغايش، خبير التنمية البشرية المصري، إلى أن إشكالية التحويلات المالية للمهاجرين باتت تورق الأسر والدول، فالأسر فقدت موردها الرئيسي، والدول أمام شح في العملة الأجنبية التي تشتري بها الاحتياجات الأساسية.
وأوضح أن “حل هذه الأزمة يكمن في حوار موسع مع العائدين من الخارج وتصنيفهم وتسليمهم ورشا صغيرة جاهزة لهم لدمجهم في النشاط الرسمي للبلاد”.
وأكد أن الحالة المصرية في هذا الشأن تحتاج تحركا فوريا بعد تداعي حجم التحويلات المالية، وتوقف عائدات السياحة وهما أكبر مصدرين للعملات الأجنبية للبلاد.
وترتب على هذه التداعيات حدوث تآكل في الاحتياطي العام للبلاد من العملات الأجنبية من مستويات 45 مليار دولار إلى مستويات 37 مليار دولار في نحو ثلاثة أشهر.
وما يمكن استنتاجه، أنه لم يعد أمام الحكومات إلا مواجهة أزماتها عبر حلول تضمن استغلال مواردها بشكل يحافظ على توازن واستغلال مواردها بعيدا عن حمى الاستدانة من الخارج التي باتت الحل الوحيد لمعالجة جراح كوفيد – 19، وعليه، يبقى التحدي كامنا في الحاجة الملحة لتوفير شبكات الأمان الاجتماعي للفقراء والأكثر ضعفا ضمن المرحلة العاجلة للتصدي للجائحة، مع محاولة تعويض خسائر الدخل من أجل تخفيف المعاناة.
العرب