بالنسبة إلى المجتمع الدولي، بدا سقوط الموصل في 9 حزيران/ يونيو 2014، وما تلا ذلك من وقائع ترتبت على سيطرة داعش على أجزاء كبيرة من الجغرافيا السنية، نتيجة مباشرة للسياسات الطائفية التي اعتمدتها الدولة/ السلطة التي يحتكر الفاعل السياسي الشيعي قرارها السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني، فقد أنتج هذا الاحتكار، بيئة مواتية لتحول داعش من تنظيم سلفي جهادي إلى ظاهرة، حين استطاع السيطرة على أكثر من ثلث مساحة العراق. ولعل هذا ما يفسر بطء استجابة المجتمع الدولي، إلى أن جاء قرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما، بعد شهرين كاملين، تحديدا في 9 آب/ أغسطس، يعلن فيه تدخل القوات الجوية الأمريكية بعمليات مباشرة لوقف هجوم داعش على مخمور، وأصبح يهدد إقليم كردستان وتحديدا أربيل. ثم مر شهران آخران قبل إعلان الاستراتيجية الأمريكية في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر ضد داعش، والتي اعتمدت على ركيزتين أساسيتين: ضربات جوية منهجية، ودعم قوات محلية «سنية».
في المقابل لم يعترف الفاعل السياسي الشيعي، بأن ما حصل كان نتيجة لسياساته الطائفية والتمييزية، ومحاولة لفرض «هوية» أحادية على الدولة/ السلطة. وظل يسوق فكرة أن داعش هي نتيجة لمؤامرة دولية تقودها الولايات المتحدة الامريكية تحديدا! ولكن اضطر للتظاهر بقبول الفكرة الأمريكية المتعلقة بتشكيل «حرس وطني» يقوم على أساس تجنيد قوى «محلية» لمواجهة داعش، وهو ما وجدناه في البرنامج الحكومي الذي قدمه رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي لنيل الثقة في أيلول/ سبتمبر 2014، ولكن هذه الفكرة تم تقويضها لاحقا، من خلال تحويل الحشد الشعبي إلى أمر واقع في البداية، ثم شرعنة هذا الأمر الواقع في نهاية العام 2016 مع تشريع قانون هيئة الحشد الشعبي.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 كان لنا اجتماع مع مبعوث الرئيس الأمريكي بريت ماكغورك بعد أقل من شهر على تعيينه بمنصب المبعوث الأمريكي الخاص في التحالف الدولي خلفا للجنرال جون ألن، وبدا واضحا خلال هذا الاجتماع، أن الولايات المتحدة قد بدأت بالتخلي عن أية مقاربة سياسية للأزمة السنية التي أنتجت ظاهرة داعش، وبدت أكثر تساوقا مع وجهة نظر الفاعل السياسي الشيعي في التركيز على المقاربة العسكرية وحدها، فضلا عن التخلي عن فكرة «القوى المحلية»، وفضل الأمريكيون استراتيجية جديدة تقوم على التعاطي مع أي قوة فاعلة على الأرض بمعزل عن الحساسيات المحلية التي يمكن أن تستثيرها هذه القوات في مرحلة لاحقة، وبمعزل عن الانتهاكات الجسيمة التي تقع في سياق هذه الحرب، لأسباب تتعلق بالانتقام الديني والقومي والمذهبي، وبمعزل عن عمليات التغيير الديمغرافي التي قد تحصل، وبغض النظر عن أي هيمنة قد تفرضها هذه المجموعات على «الآخر» في تلك المناطق. وأتذكر أن المبعوث الأمريكي انزعج كثيرا من تركيزنا على فكرة أن المقاربة السياسية يجب أن تكون بموازاة المقاربة العسكرية، إن لم تسبقها، وقال مهددا ضمنيا أنه في هذه الحالة «ستجدون الحشد الشعبي في مناطقكم»!
ما الذي يمكن أن ينتج عن «حوار» يتجاوز ما سمّاه «النموذج الطائفي القديم» من دون معالجات حقيقية لمشكلات النازحين (لا يزال هناك 1.4 مليون نازح تبعا لأرقام منظمة الهجرة الدولية)، والمختفين قسريا وعددهم بالآلاف، وإعادة إعمار لم تتحقق للمناطق التي دمرت في سياق الحرب ضد داعش؟
في حديث شخصي مع مساعد نائب وزير الخارجية الأمريكي في العام 2016، أكد على أن استراتيجية الولايات المتحدة تعتمد ثلاث خطوات في مرحلة ما بعد داعش، هي: إعادة النازحين، وإعادة الإعمار، وضمان الأمن! وعندما تحدثت معه عن عمليات تغيير ديمغرافي تجري في المناطق التي تمت استعادتها من داعش، وأن وجود القوات الأمريكية، بكل سطوتها، في العراق لم يمنع عمليات التغيير الديمغرافي التي حصلت في منطقة المدائن عام 2005! وان مسألة إعادة الاعمار تتوقف على العامل الخارجي في ظل العجز الشديد في الموازنة العراقية، ومن ثم لا ضمانة أكيدة على وجود الأموال أصلا، وأن مسألة ضمان الأمن مسألة غير مفهومة، فهل هو نفسه الأمن الذي كان قائما في العراق قبل الاحتلال، أي الأمن الذي تفرضه السلطة القائمة بالقوة، فأجاب جوابا ديبلوماسيا عبثيا عن «الواقعية»!
في اجتماع لقيادات سنية في بروكسل في مايو/ أيار 2017، والذي كان متمما لاجتماع مونترو في سويسرا، الذي دعا اليه مركز السلام الأوروبي، والذي انتهى بورقة تتحدث عن طبيعة المشكلة السنية في العراق، تحديدا في مرحلة ما بعد داعش، من خلال مشكلات النازحين والمختفين قسريا وإعادة الإعمار ووجود الحشد الشعبي في المناطق السنية. حضر نائب وزير الخارجية الأمريكي هذا الاجتماع، ليتحف الحاضرين بحديث عن «الواقعية»، وعن عدم وجود أية استراتيجية أمريكية تجاه العراق، وان الإدارة الأمريكية «تثق» بحكومة السيد العبادي ومعالجاتها لهذه المشكلات!
اليوم، وبالتزامن مع الذكرى السادسة لسقوط الموصل، ثمة «حوار استراتيجي» أمريكي ـ عراقي، اقترحته الولايات المتحدة على لسان وزير الخارجية جورج بومبيو في 7 نيسان/ أبريل الماضي. وكان واضحا أن الهاجس الأمني المرتبط بداعش سيكون محوريا، سواء فيما يتعلق بتأثير انخفاض أسعار النفط على الاقتصاد العراقي وعلى المكاسب التي تم تحقيقها في الحرب على داعش، أو فيما يتعلق بمستقبل الوجود الأمريكي في البلد. وفي إجابة على أحد الأسئلة حول رئيس مجلس الوزراء القادم، قال بومبيو أنه يجب ان يكون مستعدا للانخراط في الإصلاحات، وبناء عراق مستقل يتمتع بالسيادة ويبتعد عن النموذج الطائفي القديم الذي انتهى به المطاف إلى الإرهاب والفساد. عراقيا لم يكن هناك أي بيان أو توضيح يتعلق بطبيعة الحوار، سوى التأكيد على انه «حوار» وليس «مفاوضات»! ومن الواضح أن هذه الضبابية مردها إلى محاولة التهرب من أي التزامات تجاه مجلس النواب العراقي فيما سيتم الاتفاق عليه، أو الالتزام به. والمفارقة هنا أن تعبير «الحوار» في العلوم السياسية يفترض انه مرحلة «أولية» تتعلق بتبادل وجهات النظر والأفكار والمعلومات بين الأطراف المشاركة فيه، من دون اشتراط الوصول إلى التزامات محددة نتيجة لذلك، بينما التفاوض يفترض الوصول إلى التزامات محددة. فكيف يمكن أن يستقيم ذلك مع وجود اتفاقية إطار استراتيجي، موقعة بين الطرفين في العام 2008 ولا تزال سارية المفعول، ومع وجود قوات أمريكية في العراق لا إطار قانوني محدد وواضح وملزم لكليهما (القوات الأمريكية دخلت العراق في سياق انخراط العراق في التحالف الدولي ضد داعش الذي تشكل في أيلول/ سبتمبر 2014، بالتالي فإن ما يحدد طبيعة العلاقة وسياقات العمل بين الطرفين ليس سوى تفاهمات ضمنية غير معلنة، وربما أمر واقع مفروض على الطرفين)، لذلك سيكون لزاما على الطرفين، الوصول إلى صيغة ما لهذا التواجد. ناهيك عن سؤال منطقي هو كيف يمكن مساعدة الوصول إلى تعاون سياسي واقتصادي وثقافي وعلمي بين الدولتين من خلال «حوار» غير مؤطر ومجرد من أية التزامات؟
وبالعودة إلى تصريح بومبيو، ما الذي يمكن أن ينتج عن «حوار» يتجاوز ما سمّاه «النموذج الطائفي القديم» من دون معالجات حقيقية لمشكلات النازحين (لا يزال هناك 1.4 مليون نازح تبعا لأرقام منظمة الهجرة الدولية)، والمختفين قسريا وعددهم بالآلاف، وإعادة إعمار لم تتحقق للمناطق التي دمرت في سياق الحرب ضد داعش، والأهم من ذلك، وجود فصائل الحشد الشعبي والحساسية التي يثيرها في هذه المناطق ؟
قلنا دائما أن درس داعش لم يتعلمه أحد، لا عراقيا، ولا أمريكيا!
يحيى الكبيسي
القدس العربي