الحراك اللبناني: السياق العربي وتحديات نسخة الطائف الثالثة

الحراك اللبناني: السياق العربي وتحديات نسخة الطائف الثالثة

كان السبب الرئيس لاندلاع “انتفاضة 17 تشرين”، كما اصطُلح على تسمية الحراك اللبناني -والذي عمَّ المناطق اللبنانية في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019- هو عزم الحكومة اللبنانية برئاسة سعد الحريري فرض ضرائب جديدة مباشرة في موازنة 2020، وتلا ذلك انهيار في قيمة العملة اللبنانية (الليرة) في مقابل الدولار. طالب الحراك اللبناني بتغيير طبقة الأحزاب الحاكمة في لبنان، تحت شعار “كلن (كلهم) يعني كلن”، ويقصد بها، أن تبتعد عن إدارة السلطة كلُّ الأحزاب التي توالت على الحكم منذ بدء تطبيق اتفاق الطائف عام 1990.

توقفت نشاطات الحراك اللبناني مع تفشي وباء كورونا عالميًّا، لكنه من المحتم أن يعود (وقد عاد بالفعل)؛ لأن الأسباب الموجبة له ما زالت قائمة لا بل تفاقمت، فمن حيث الاقتصاد تفاقم الانهيار الاقتصادي ومن حيث إدارة السلطة، فإن الحكومة الجديدة، حكومة رئيس الوزراء، حسان دياب، لم تستطع نيل ثقة الشارع، واعتبرها خصومها، فضلًا عن دول إقليمية وغربية، أنها حكومة خاضعة لقوى “8 آذار” أو لحزب الله.

ورغم أن الأسباب المباشرة للحراك اقتصادية، لكن هناك سياق جاء وفقه وساعد على تكونه، كما أن هناك أسبابًا عميقة وراء ما وصل إليه الوضع اللبناني حتى بلغ مرحلة الانفجار.

بالنسبة للسياق فهي الثورات العربية، عام 2011، التي قامت ضد استبداد الأنظمة الحاكمة، وكان العنوان الأبرز فيها على الأغلب، وأحد أهم شعاراتها: “الشعب يريد إسقاط النظام”. وقد تجددت هذه الاحتجاجات عام 2019، واصطلح بعضهم على تسميتها بـ”الموجة الثانية” كامتداد لتلك الثورات (عام 2011) بوصفها الموجة الأولى. وبهذا، فإن الحراك اللبناني هو أحد التعبيرات المحلية في الموجة الثانية عن تطلعات الشعوب في هذه المنطقة.

ومن حيث الأسباب العميقة، فإن الكيان اللبناني تأسس على قسمة طائفية بين المسلمين والمسيحيين عمومًا، وعلى تغليب يد الأقليات على الأكثرية في المنطقة تفصيلًا. وهو ما كرَّسته “الصيغة اللبنانية” منذ انتهاء الاستعمار الفرنسي عام 1943، بغية الموازنة في علاقات لبنان بين الشرق والغرب، ومن ثم تطورت هذه الصيغة باتفاق الطائف، وغدا لبنان يقوم على الانتماء العربي دون التخلي عن الغرب، مع إصلاحات خاصة في السلطة التنفيذية، حيث تقلصت صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني نسبيًّا، وتعززت صلاحيات مجلس الوزراء الذي يمثِّل جميع الطوائف ويرأسه سُنِّي، إضافة إلى مجلس للنواب يتقاسمه المسلمون والمسيحيون بمذاهبهم المتعددة مناصفة ويرأسه شيعي.

التحدي الرئيس الذي تطرحه الصيغة اللبنانية أن الدولة “هي الضامن السياسي لإنتاج الطوائف سياسيًّا وضبط نزاعاتها لمصلحة القوى المسيطرة”، في حين أن موازين القوة قد تتعرض لتحولات لتنقل، في أفضل الأحيان، الامتياز من طائفة إلى أخرى في ظروف استثنائية ووفق ما تحدده الصراعات، من مارونية سياسية (قبل الطائف) إلى سُنِّية سياسية (بعد الطائف وقبل 2005) إلى شيعية سياسية مؤخرًا (بعد 2005 حتى اليوم)، ولكن فكرة الحؤول ضد “طغيان الأكثرية” في المنطقة والخوف منها تبقى على الأغلب العامل الثابت في المعادلة اللبنانية.

والتحول الأكبر الذي واجهته هذه الصيغة أن اتفاق الطائف الذي قام على تفاهم سعودي-سوري وبإقرار غربي، قد تغيرت ظروفه، وأخذت صيغة الطائف هذه -رغم عيوبها- تتصدَّع، حيث تراجع الدور السعودي في لبنان، وتشهد سوريا حربًا بين النظام ومعارضة مسلحة، في حين دخل لاعب إقليمي جديد على الصيغة اللبنانية وهو غير عربي، أي إيران، وذلك بتصدر حزب الله الموالي لها المشهد السياسي اللبناني وحتى الإقليمي، ليكون لبنان عمليًّا أمام تطبيق نسخة جديدة من اتفاق الطائف.
في الخلاصة، إن النظام السياسي اللبناني بما يحمله من موروثات وأعراف حملتها الصيغة اللبنانية وما انتهى إليه من صيغ الطائف كما طُبِّقت حتى اليوم، كرَّست الطائفية ومن ثم المذهبية، وشاعت المحسوبية والزبائنية في مفاصل النظام السياسي اللبناني وحتى على صعيد الطائفة الواحدة. ولم يعد من الممكن للبناني أن يصل إلى حقوقه بالمواطنة، وإنما بالانتماء إلى طائفة زعماء الطبقة الحاكمة -وتحديدًا لأحزابهم- وهؤلاء يقتسمون موارد الدولة ويوزعونها. فهذا النظام “يرفض الاعتراف بالحقوق السياسية والقانونية المتساوية للمواطنين، وهو بذلك لا يعترف لهم إلا بحقوق طائفية غير متساوية”. مع هذه التناقضات لم يعد للطائف القدرة على الاستمرار دون كلفة كبيرة على الشعب اللبناني، فكان الحراك.

هذا من أبرز مما تتناوله الدراسة، أما من حيث الإنجازات:
فأهمها أن الحراك استطاع في بعض طرحه بشكل عام الفصل بين الطائفية والأحزاب الحاكمة، فهو يلتزم المحافظة على الطائف نصًّا وروحًا فيما يتعلق بانتخاب البرلمان على أساس وطني لا طائفي، وأن ينتخب بالمقابل مجلس الشيوخ على أساس طائفي وتنحصر صلاحياته فيما يخص القضايا المصيرية فحسب. ولكن بالمقابل، لا يعني أن توزيع المناصب الوزارية ووظائف الفئة الأولى طائفيًّا، أن يُعيَّنوا من قبل الأحزاب الطائفية أو من الطوائف نفسها، بل من الشعب اللبناني وهذا ما نصَّ عليه الطائف.

كما كشف الحراك عن عدم وجود رقابة على السلطة من الناحية الفعلية، فكل الطبقة السياسية لم تُعْطِ الأولوية للرقابة، والدليل الأزمة الاقتصادية نفسها. فقد بدأت هذه الطبقة حكمها في المرحلة الأولى من الطائف لإيقاف الحرب بالتغاضي عن محاربة الفساد، وكان عنوانها مع بعض التحفظ حيث يجب، ما عبَّر عنه رفيق الحريري في انتخابات عام 2000، عندما برَّر النتائج السلبية لمرحلة إعادة الإعمار بقوله: “اضطررنا لشراء السلم الأهلي بالمال”. أما المرحلة الثانية من الطائف (بعد 2005)، ففيها عزَّز حزب الله من نفوذه في الدولة وفق معادلة ليست بعيدة عن المقولة السابقة، تقوم على: “مقايضة السلاح مقابل الفساد”. أي تغضُّ الأحزاب الحاكمة النظر عن سلاح حزب الله وتوفير متطلباته من السياسة، مقابل غضه هو النظر عن مطالبها من الدولة بالفساد. وقد أصبح مع الحراك من الصعب السكوت عن هذا النهج، وتحديدًا في الجانب المتعلق بالفساد.

ولكن بالمقابل، هناك إنجازات لم تكتمل وتركت إشارات متناقضة، من ذلك أن هذه الشرائح التي استطاعت أن تجتمع في الشارع تحت مظلة الحراك، لم تستطع أن تجتمع في إطار سياسي مستقر ومستقل، ولم تحظ بقيادة واحدة، جماعية أو فردية، واكتفت بقيادة المطالب الأساسية لها، وهو ما لم يساعد الحراك على الانتقال من الاعتراض المطلبي إلى الفعل السياسي.
ومن تلك التناقضات أيضًا، أن الحراك قد ينجح في تقديم قيادات جديدة للعمل السياسي الوطني، وهناك بعض الأسماء التي تتقدمه وتنشط في هذا المجال حتى اللحظة، وأظهرت قدرة فائقة في التعبير عن مطالب اللبنانيين المعيشية والحياتية والاقتصادية والحقوقية ومن منظور وطني، وكشفت الكثير من مكامن الفساد والمحسوبية التي تحتمي بالنظام الطائفي ورعاته من الأحزاب الحاكمة، إلا أنها أيضًا لا تزال غير قادرة على تمثيل طموحات الجمهور الأكبر من اللبنانيين ومخاوفهم السياسية. فالوظائف في الدولة توزع بـ”الدستور” ووفق “الصيغة” على أساس طائفي، والعلاقات الخارجية تضطر القوى المحلية للموازنة بينها وفق نفس المنظور، ما بين الشرق والغرب، والسعودية وإيران، وهكذا دواليك، وهو ما تمتلك فيه الأحزاب الحاكمة خبرة كبيرة؛ لأنها إما صنعت الطائف أو كانت شاهدة على صنعه وتعرف النوايا السابقة عليه واللاحقة له. ولا يوجد لدى هذه القيادات المستجدة، التي صعدت مع الحراك، خبرة كافية في العمل السياسي، ولا في الوضع اللبناني السياسي بسماته المعقدة لإدارته على الأقل للتعامل مع وضع كهذا، فكيف إذا كان الأمر المطلوب هو تغييره؟!

ومن حيث نتيجة البحث، فأهم خلاصة توصل إليها في دراسته لسياقات الحراك اللبناني وأهدافه والتحديات التي واجهته تتمثل في أن الحراك صنع ملامح وطنية جديدة تقوم على استدعاء سكان الأطراف، في الشمال والجنوب، بدعم من المدن والعاصمة، والتحدي الماثل أمامها أن تنجح في تجاوز المحاصصة وحواجزها المذهبية والطائفية، لتتلاقى على مطالب وطنية قد تشكِّل نسخة ثالثة من اتفاق الطائف. مع التأكيد على أن الأحزاب الحاكمة لن تفقد دورها بسهولة فبقدر ما هي تحدٍّ للحراك فإنها لا تزال تلبي حاجة للجمهور بدعم من الخارج، ومن الأمثلة القريبة على ذلك، أن ما خسرته هذه الطبقة في ذروة نشاط الحراك تحاول استعادته إبَّان وباء كورونا وبالاستفادة من تداعيات الأزمة الاقتصادية الخانقة.

شفيق شقير

مركز الجزيرة للدراسات