قيم المواطنة لدى الشباب تائهة بين الطائفة والقومية والعرق

قيم المواطنة لدى الشباب تائهة بين الطائفة والقومية والعرق

يعيش جيل الشباب حالة من الاستقطاب العرقي والديني، فاقمت من أزمة الانتماء للوطن، ومع حالة الصراعات والنزاعات أصبح الولاء للمعتقد والعرق قبل الوطن، ومفهوما الطائفة والمواطنة يبدوان وكأنهما يزدادان تباعدا عن بعضهما البعض.

سني شيعي قبطي درزي ماروني أرذوكسي، كردي نوبي تركماني أمازيغي… ثم يأتي الوطن، عين على الطائفة أو القومية أو العرق وعين على الوطن، هو حال الشباب في الدول العربية ذات القوميات والطوائف المتعددة وربما ليس من قبيل المصادفة أن هذه الدول تعيش أوضاعا صعبة وسط الاحتجاجات والتدهور الاقتصادي والانقسامات السياسية.

وتقع مسؤولية هذه الأوضاع الكارثية وفق النظريات المتوارثة على مر الأجيال، على المؤامرات الدولية والمصالح الأجنبية وطمع الغرب بثروات البلاد وخيراتها وإمكانياتها والصهيونية والإمبريالية العالمية وقائمة طويلة من الاتهامات والمبررات، لكن ليس من ضمنها أن إحساس الجيل الجديد بالانتماء للوطن يخبو أمام الطائفة أو القومية أو العرق أو القبيلة.

الانتماء إلى هذه الفئة أو تلك تتبعه مباشرة حالة سريالية من مثالية الـ”نحن” الضامنين لوحدة الوطن والأحق بالتسيد والتمثيل الشرعي للبلاد بصبغة وطنية بحتة، بمقابل شيطنة الـ”هم” الذين يهددون وجود الأقليات الأخرى والباحثين عن السيطرة والهيمنة رغم أنهم أقل منزلة وقدرا ومكانة.

والمفارقة أن هذه الحالة من الاستقطاب العرقي والديني ظاهرة يعيشها الجيل الحالي، ولم تكن بهذه الحدة لدى الأجيال الأكبر سنا التي عاشت قيما وطنية أكثر وضوحا وحرصا على التماسك الاجتماعي مما هو قائم اليوم، حيث تفاقمت أزمة القيم الوطنية التائهة بين المعتقدات الدينية والمذهبية والقوميات المتعددة، وكرستها التنظيمات المتطرفة التي سددت ضربة قاضية لمفهوم الوطنية عند العديد من الشباب.

الحياد ممنوع
ساهمت التنظيمات الدينية المتشددة ليس فقط بالتأثير على أتباعها ومناصريها والمؤيدين لفكرها بجعلها تحل بديلا عن مفهوم الانتماء للوطن، وإقصاء الآخرين المخالفين لها، بل حتى أولئك الذين التزموا الصمت ووقفوا على الحياد لأسباب عديدة أصبحوا فئة أخرى لا تنتمي لهذه ولا لتلك، ولا تستحق الانتماء للوطن بمفهوم المختلفين.

وتفشى الاحتماء بالجماعة الدينية أو العرقية والانتماء للمعتقد قبل كل شيء، بينما انحسر الانتماء للأرض والوطن الجامع لكافة هذه الفئات، ومع الدخول في دوامة العنف في المنطقة والتي يتسع نطاقها باتساع التحالفات وتفاوت المصالح، زادت من نسبة الشباب المدينين بالولاء للمعتقد والعرق قبل الوطن، مهما عنى الوطن لهم، ومفهوما الطائفة والمواطنة يبدوان وكأنهما يزدادان تباعدا عن بعضهما البعض في بلدان كالعراق وسوريا ولبنان ومصر ودول عربية أخرى.

وتبعها حالة من اليأس بين الشباب من إمكانية التغيير إذ يقول أحد الشباب العراقيين “في معظم مدن المسلمين تجد بروز طائفة ما، وتقوم ببناء المساجد الخاصة بأبناء طائفتها وتدرس مذهبها الديني في المدارس وتفرض معتقداتها على الجميع، وهذا يعني الانفصال والانعزال التام عن أبناء الطوائف المختلفة”.

الوعي الشيعي
كن الانتفاضة الشعبية في العراق أعادت بعض الاعتبار للقيم الوطنية مع رفع المتظاهرين الشباب شعارات ضد الطائفية والمذهبية. وشملت شعارات المتظاهرين المطالبين بالقضاء على الفساد، مطالب فصل الدين عن السياسة، لتكون بمثابة الشرارة الأولى لبدء استعادة قيم المواطنة التي تجمع تحت مظلتها جميع الطوائف والأعراق والقوميات، مهما بدا هدفا بعيد المنال.

وأطلق البعض عبارة “الوعي الشيعي” على احتجاجات الشباب التي انطلقت في عدة محافظات مطلع أكتوبر 2019 وفي مقدمة المطالب التخلص من النفوذ الإيراني وإيقاف العمل بعملية المحاصصة الطائفية القائمة منذ عام 2003 وتشريعاتها، والتنديد بعمليات القتل والاختطاف والاختفاء القسري التي تتحمل مسؤوليتها الميليشيات المسلحة التي ترفع الشعارات الدينية في استعراضاتها العسكرية معلنة أن المعتقد فوق الجميع. ورغم عمليات قمع المتظاهرين الشباب والقتل والاختطاف والانتشار الأمني المكثف لميليشيات الحشد الموالية لطهران والمسلحين الملثمين بالملابس السوداء، ومن خلفهم حكومة تتحايل على مطالب المحتجين، استمر الشباب بالخروج إلى الشوارع.

وجاءت الاستجابات الحكومية فارغة من أي تعهدات بالقيام بأي إصلاحات سياسية مثل تفعيل قرارات حل الميليشيات العسكرية الحشد الشعبي وتحجيم نفوذ قوى تحالف الحق، الموالين لإيران.

وتختلف هذه الاحتجاجات عن مثيلاتها في السابق وتتميز عنها بأنها تقوم على أساس وطني، لم تنسقها جماعة سياسية أو دينية أو حزبية، ولكنها جاءت نتيجة لاحتكار الموالين لإيران للسلطة والحكم وممارستهم الفاسدة، حيث تزايدت الدعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتخلص منهم في كافة المناصب.

ورغم أن هذه الاحتجاجات لم تحقق أهدافها وغاياتها، إلا أن الكثيرين ينظرون إليها باعتبارها تمثل نقطة تحول في وعي الشباب العراقي، لتحرك الوطنية داخله نحو عراق جديد تذوب فيه النزعة الطائفية والسياسية والمناطقية والقومية.

ولا تبعد أوضاع لبنان كثيرا عن الحالة العراقية، حيث شكلت الفسيفساء الدينية والطائفية حجر عثرة أمام وحدة الانتماء للوطن، وتقدم البلاد والارتقاء بمستواها المعيشي والسياسي حيث يهيمن الانتماء الطائفي على كافة مفاصل الدولة.

مثلت احتجاجات الشباب اللبناني المتزامنة مع الاحتجاجات العراقية بارقة أمل بتغيير الذهنية السائدة قبل الأوضاع على الأرض، حيث تؤكد مي الخطيب عضو الحركة الشبابية للتغيير أن “أعدادا متزايدة من الشباب سئموا الموروث السياسي الطائفي الذي يملي علينا حياتنا من المهد إلى اللحد، وحتى مثوانا الأخير ليس مكانا نختاره نحن بل بقعة أرض تحددها طائفتنا”. وأضافت أن غياب “الدولة الخدمية” يوفر بيئة مناسبة لزعماء الأحزاب السياسية التي تتخذ من الطائفة غطاء لها كي يقدموا الخدمات التي تنقص مؤيديهم والمنتمين لجماعاتهم، وبهذه الطريقة “تحل الطائفة محل الوطن”.

تصريحات الخطيب تشير إلى مدى وعي الشباب اللبناني وإدراكهم لحقيقة مزاعم السياسيين الحريصين على المحاصصة الطائفية وإبقاء الأوضاع الراهنة على ما هي عليه لبقاء شباب الطائفة والحزب تحت أجنحتهم وولائهم بدلا من الوطن.

ويتحدث الكاتب جيمس دورسي في مقال نشره موقع “أوراسيا ريفيو” عن احتجاجات الشباب على الأوضاع في لبنان والعراق، قائلا إن الاحتجاجات في لبنان تطورت إلى أكثر من مجرد صراع ضد حكومة فاشلة وفاسدة إلى المطالبة بإصلاح دستوري، وإن العراقيين يحتجون ضد الفساد وضد النفوذ الإيراني في البلاد، مضيفا أن هذه المظاهرات تجاوزت الطائفية.

وأضاف “أسفرت الاحتجاجات في لبنان عن عدة مواجهات مع الحكومة امتدت شرارتها ضد حكومات أخرى أعاقت حركة التنمية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وطالب المحتجون بضرورة إنشاء نظام سياسي واجتماعي يرتكز على الهوية الوطنية لا الطائفية أو العرقية فهتفوا في احتجاجاتهم عدة شعارات منها ‘واحد، واحد، واحد، كلنا شعب واحد’. وتأكيدا لذلك شكل عشرات الآلاف من المتظاهرين سلسلة بشرية امتدت على طول ساحل البحر المتوسط في لبنان”.

إذا نجح المحتجون في تحقيق مطلبهم في القضاء على الطائفية وترجمة ذلك إلى إصلاح دستوري، سيساهم هذا بالطبع في جعل الاحتجاج أداة فعالة للتغيير، إلا أن هذا كله يتوقف على مدى إدراكهم للمصلحة المشتركة في تجاوز الطائفية والعرقية والطبقية.

وأشادت صحيفة “لوموند” الفرنسية بتجربة الشباب اللبنانية في تجاوز اختلافاتهم الطائفية والاجتماعية لمصلحة الوطن، وتحت عنوان “غضبنا يقربنا، أسقطنا جدار المخاوف الطائفية: الشعب اللبناني متحد ضد قادته”، أوضحت الصحيفة أن مئات الآلاف من اللبنانيين يتظاهرون في أجواء استثنائية من الحماسة والاتحاد رغم خلافاتهم الطائفية التي مزقت بلادهم لسنوات.

ولأول مرة منذ الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت أكثر من 16 عاما وانتهت في عام 1990، بمحاصصة طائفية، تجاوز الشباب اللبناني اختلافات الطبقات الاجتماعية والطوائف والديانات المختلفة، ووحدوا جهودهم للتعبير عن مطلب واحد وهو استقالة حكومتهم، المتهمة بالإهمال والفساد. كما برزت دعوات الشباب على الشبكات الاجتماعية للعمل على تقديم الوطن والدولة على المعتقد والمذهب، بغية مواكبة ركب الدول المدنية التي تتخذ من الوطن عنوانا والعقيدة هامشا.

ويحاول البعض وضع إصبعه على نقاط الضعف والأسباب وراء أزمة الهوية الوطنية أو الإحساس بالانتماء، ويقول المختصون في علم الاجتماع إن في مقدمة هذه الأسباب العوامل التربوية، لأن نقص التوعية الوطنية والاجتماعية مسؤول عن فقدان الشعور بالانتماء والهوية الوطنية، فالجيل الجديد نشأ في مرحلة حرجة شهدت الكثير من النزاعات والصراعات في المنطقة العربية، وتصاعد الفكر المتطرف والإرهابي والتدخلات الخارجية، ما خلف لدى الناس على اختلاف انتماءاتهم الهواجس والمخاوف من كل ما هو مغاير في الدين والعرق والقومية. كذلك فإن إحساس الشباب بالظلم وأن حقوقهم مهدورة وحاجاتهم مهملة، يجعلهم يفقدون الشعور بالانتماء.

العرب