الأخطبوط الأحمر في اختبار الغذاء بعد الوباء

الأخطبوط الأحمر في اختبار الغذاء بعد الوباء

كيف ستوفر الصين الغذاء لـ1.4 مليار نسمة بعد تجربة كورونا؟ سؤال يطرحه خبراء الاقتصاد والسياسة في أعقاب مساعي السيطرة على الوباء الذي ظهر أول مرة في مدينة ووهان الصينية، ويرى الخبراء أن بكين أمام تحدي توفير ضرورات العيش لسكانها الأكبر عددا في العالم، وستكون مجبرة على تبني سياسة متوازنة تراوح فيها بين التعويل على الاكتفاء المحلي وتنويع مصادر الاستيراد الخارجية.

بكين- عندما خلت أرفف المتاجر من البضائع لفترة قصيرة في بداية أزمة فايروس كورونا المستجد، عادت قضية ضرورة الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية لتفرض نفسها على أغلب شعوب العالم وبصفة خاصة على الصين التي تعتبر توفير الغذاء لشعبها البالغ تعداده نحو 1.4 مليار نسمة، أولوية سياسية واقتصادية منذ عقود. وقد لا يكون تنويع مصادر استيراد المواد الغذائية حلا مرضيا لمعسكر الصقور الذي يطمح إلى ضرورة الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية.

ولكن كارلا فيريرا ماركيز المحللة الاقتصادية والمتخصصة في مجال تجارة المواد الخام والمحاصيل الزراعية في وكالة بلومبرغ للأنباء، تشير إلى صعوبة تحقيق مثل هذا الهدف لأن الصين تضم حوالي 20 في المئة من سكان العالم، ولكنها لا تملك سوى 10 في المئة من الأراضي القابلة للزراعة وأقل من 6 في المئة من موارد المياه العذبة.

هذه التحذيرات ليست الأولى من نوعها، فقد سبق أن لفت خبير البيئة الأميركي الشهير ليستر براون انتباه العالم إلى العواقب المحتملة للندرة في المواد الغذائية بطرحه لسؤال عمّن سيتمكن من توفير الغذاء للصين عندما تحقق النهضة الاقتصادية. متنبئا بأن الصين ستواجه نقصًا غذائيًا في عام 2030 وستهدد الأمن الغذائي العالمي بشكل خطير.

على صعيد آخر، لا يمكن القول إن خوف المسؤولين في الصين من الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي قد تنجم نتيجة ارتفاع أسعار الغذاء بلا أساس. فقد كان ارتفاع الأسعار أحد أسباب الاحتجاجات الشعبية الدامية التي شهدتها الصين عام 1989 والتي عرفت باسم أحداث ميدان السلام السماوي (تيانن من). في الوقت نفسه، فإن استيراد المواد الزراعية يتأثر غالبا بالمشكلات الدبلوماسية بين الدول وهو ما يعني خطورة الاعتماد على الاستيراد.

وبذلك تضع الجائحة إضافة إلى الخلافات الخارجية وأبرزها مع الولايات المتحدة الاقتصاد الصيني أمام تحدي حماية الأمن الغذائي للبلاد، وستكون الصين في مواجهة لسيناريو نقص في المواد الغذائية وهي بذلك مطالبة بالبحث عن خيارات ناجعة لتجنب الأسوأ، بالاعتماد على تنميتها وصناعتها المحلية من جهة وتنويع مصادر الغذاء وانتهاج سياسة الانفتاح من جهة ثانية.

وسبق أن لاحظ خبراء أن سوق الغذاء الصينية أصبحت أكثر انفتاحا من ذي قبل، حيث أصبحت الشركات الممولة من الخارج قوة أساسية في تطوير صناعة الغذاء في الصين. وقد يكون خيار الصين في مرحلة ما بعد كورونا.

وحسب الكتاب الأبيض الذي نشر بعنوان “الأمن الغذائي في الصين”، في أكتوبر الماضي، فإن الشركات الممولة من الخارج في الصين تنتج المزيد من الأغذية، وتزداد عائداتها من المبيعات على مر السنين، بما يمثل 14.5 في المئة و17 في المئة من إجمالي العائدات الوطنية في عام 2018.

وباتت الشركات الممولة من الخارج أكثر انخراطا في سوق الغذاء الصينية، مع تزايد حصتها في تجارة الزيت النباتي الصالح للأكل وتصنيع الأغذية وتمدد الأنشطة التي تشارك فيها هذه الشركات إلى الشراء والبيع بالجملة والتجزئة وتوفير الأغذية على نحو مستقر.

ومع ذلك، تبقى ورقة الاكتفاء الذاتي هي الأهم بالنسبة للصين لحماية أمنها الغذائي ولو بموارد محدودة، وقد نجحت في ذلك سابقا وتراهن على نجاح جديد في المستقبل رغم ضغوط الجائحة على الاقتصاد وتداعيات الحرب التجارية والنزاعات السياسية.

وتطمئن المؤشرات الصينية في مجال الغذاء السكان، ما يجعلهم أكثر تفاؤلا في مرحلة ما بعد الجائحة وأكثر ثقة في التعافي وتحقيق انتعاشة سريعة على صعيد اقتصادي.

وذكر الكتاب الأبيض أن حجم إنتاج الأغذية في الصين قد احتل حوالي ربع الإنتاج العالمي، ويتجاوز نصيب الفرد للأغذية مستوى المتوسط العالمي، وفي عام 2018 تجاوز معدل الاكتفاء الذاتي للحبوب في الصين 95 في المئة وهذا يدل على حسن وضع الأمن الغذائي للصين. ويشرح الكتاب السبب الجذري للإنجازات الكبيرة التي حققتها الصين في مجال الأمن الغذائي إلى تبني الصين إستراتيجية وطنية حكيمة للأمن الغذائي، وخاصة إقامة نظام ابتكاري في العلوم والتكنولوجيا الغذائية.

في هذه الحالة، يظهر الشعار التاريخي البسيط وهو “الاكتفاء الذاتي”، وبخاصة من الحبوب مثل القمح والأرز والذرة بحسب كارلا فيريرا، التي ترى أنه من الصعب التخلي عنه، ثم جاءت جائحة فايروس كورونا المستجد في 2020 ليشعر الجميع بالقلق من اضطراب سلاسل التوزيع، وعاد المسؤولون ليتحدثوا مجددا عن خطط الاعتماد على النفس.

وقال لي كيشيانج، رئيس وزراء الصين أمام البرلمان الصيني الشهر الماضي، إن تأمين إمدادات الغذاء في البلاد أمر لا مناص منه، في الوقت الذي تم فيه تكريم المقاطعات الصينية المنتجة للحبوب وتم رفع الحد الأدنى لسعر شراء الأرز المحلي.

وأمام ضغوط الوباء صحيا واقتصاديا ووسط استغلال الرئيس الأميركي دونالد ترامب حالة الطوارئ الصحية لتوجيه أصابع الاتهام إلى الصين في محاولة لإضعاف نفوذها وتسجيل نقاط سياسية، لم تصغ بكين لهذه الانتقادات وبدل ذلك رصدت حلولا عاجلة تقيها براثن أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها باستراتجية تركز فيها على طموحاتها المحلية.

وحرصت بكين على التشجيع على بيع سلع التصدير في الأسواق المحلية، بعد أن واجهت التجارة الخارجية تحديات غير مسبوقة بسبب الجائحة. وحسب تقارير إعلامية صينية تتجه الصين لدعم شركات التصدير من خلال السماح لها ببيع منتجات في السوق المحلية وتسهيل وصولها إلى الأسواق، وتوسيع قنواتها للبيع، وتعزيز المساعدات المالية لها لمساعدتها في التغلب على الصعوبات وبسط الاستقرار بالتجارة الخارجية.

كما ستتيح الوصول إلى الأسواق المحلية للمنتجات المصنوعة أصلا للتصدير هذا العام، إذا استوفت معايير فنية معينة. كما ستبسط الحكومة إجراءات التصديق الإجباري على المنتجات ذات الصلة. وسيتم تشجيع الشركات على صنع منتجات للتصدير والمبيعات المحلية على نفس خط الإنتاج، وبنفس المعايير ونفس الجودة لتقليل تكاليف الإنتاج وتسهيل التحول التجاري.

10 بالمئة فقط من الأراضي القابلة للزراعة في الصين وأقل من 6 في المئة من موارد المياه العذبة

وعلى غرار ذلك، سيقع إنشاء منصات مبيعات محلية للشركات من خلال إنشاء مناطق لمنتجات التصدير في مهرجانات التسوق عبر الإنترنت، وتنظيم عروض ترويجية في شوارع التسوق الرئيسية. إضافة إلى اتخاذ إجراءات إضافية تتمثل في تسهيل الشراء المباشر من قبل الشركات التجارية الكبرى في البلاد، وجذب مشترين محليين في المعارض التجارية الكبرى.

لكن لا يعني هذا أن الصين يمكنها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي عام 1996 عندما أعلنت الصين سياسة صارمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ولا يعني أنها تعتزم ذلك. فما تفعله الصين حاليا هو إعادة التوازن للموقف الرسمي بحسب توماس ديفيد دبوبس، الأستاذ في جامعة بكين نورمال الصينية الذي نظم حلقة نقاشية عبر الإنترنت بعنوان “الصين تأكل”.

وفي حقيقة الأمر تعتبر العودة إلى الماضي شبه مستحيلة، لأن الصين أصبحت عضوا في منظمة التجارة العالمية. كما أن الاستهلاك الغذائي لشريحة كبيرة من الصينيين زاد، وبخاصة استهلاك المواد البروتينية وهو ما يعني زيادة الحاجة إلى الحبوب لتوفير الأعلاف اللازمة لإنتاج اللحوم والألبان.

وفي حين تنتج الصين الأرز والقمح فإنها تعتمد على دول أخرى مثل الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين لشراء فول الصويا. كما لجأت إلى زيادة استيراد اللحوم لتغطية النقص الناتج عن انتشار حمى الخنازير الأفريقية مما أدى إلى تراجع كبير في الإنتاج المحلي من لحوم الخنازير في العام الماضي.

وحاول وي بايجانج، وهو مسؤول بوزارة الزراعة طمـأنة الصينين في تصريحات صحافية سابقة، بالقول إن “البلاد لديها مخزون كاف من الأرز والقمح يكفي الاستهلاك لمدة عام، بينما الواردات من الحبوب تمثل فقط نحو 2 في المئة من الاستهلاك المحلي”. وأضاف وي ”الإمدادات في السوق كثيرة وليس هناك حاجة لتخزين السلع”.

وكانت الصين قد زادت الإمدادات بشكل منتظم أعقاب الجائحة إلى 3 ملايين طن من القمح و1.2 مليون طن من الأرز للعمل على استقرار الأسعار في السوق.

من المؤكد أن تكلفة الطموحات المحلية بالنسبة لإنتاج الغذاء في الصين كانت باهظة. فعلى الصعيد البيئي بلغ معدل استخدام الأسمدة الزراعية 4 أمثال المعدل العالمي، وتدهورت حالة التربة الزراعية واشتدت ندرة المياه. ثم تأتي التكلفة المالية. فبحسب تقديرات البنك الدولي ارتفع دعم مستلزمات الإنتاج الزراعي في الصين خلال الفترة من 2006 إلى 2010 بمقدار 7 أمثال، وفي عام 2010 أصبح الدعم الحكومي للمزارعين حوالي 17 في المئة من إجمالي الإيرادات الزراعية.

وأدى ارتفاع فاتورة الدعم الزراعي إلى جانب عوامل أخرى مثل الضغوط الدولية إلى تبني الصين سياسة أكثر توازنا في أواخر 2013 عندما زاد تركيز السياسة الصينية على الاستيراد والتنمية المستدامة والاستثمار في الخارج وتحديث القطاع الزراعي في الداخل.

وفي ظل الخلافات القوية مع واشنطن، تظل فكرة الاعتماد على الإنتاج المحلي لتوفير وجبة الأرز الشعبية في الصين، جذابة للكثيرين.

وتصاعدت التوترات بين القوتين العظميين على جبهات متعددة منذ تولي الرئيس دونالد ترامب منصبه في العام 2017، مع قيام البلدين بعرض عضلاتهما الدبلوماسية والعسكرية. لكن العلاقات الصينية الأميركية تراجعت لأدنى مستوى لها في سنوات منذ أن ضربت جائحة كورونا، التي بدأت في الصين، الولايات المتحدة بقوة لتصبح صاحبة أعلى معدل إصابات ووفيات ناجمة عنها في العالم.

حرصت بكين على التشجيع على بيع سلع التصدير في الأسواق المحلية، بعد أن واجهت التجارة الخارجية تحديات غير مسبوقة بسبب الجائحة

وتحذر أميرتا جاش، الباحثة في مركز نيودلهي لدراسات حروب الأراضي، من تصاعد مخاطر دخول الصين في نزاعات مع جيرانها، سواء بسبب الخلافات الحدودية كما هو الحال مع الهند أو بسبب إرسال أساطيلها الضخمة الصيد في أعالي البحار.

في المقابل فإن المخاوف المحلية العامة من موضوعات مثل المحاصيل المعدلة وراثيا أو التربة الزراعية الملوثة بالمعادن الثقيلة أو المياه الملوثة، إلى جانب الإدراك الرسمي لمخاطر تجاهل مثل هذه الموضوعات، تعني أن أي نهضة زراعية جديدة في الصين لن تكون مدمرة للبيئة كما كان الحال قبل عقود.

وتخلص كارلا فيريرا ماركيز إلى أن الصين ستسعى هذه المرة إلى تحقيق الأمن الغذائي من خلال التوازن بين الاكتفاء المحلي وتنويع مصادر الاستيراد الخارجية والتي ترتبط غالبا بحلقات صينية في سلسلة التوريدات.

العرب