تمثل السيرة الذاتية للمفكر والكاتب العربي إدوارد سعيد (1 نوفمبر/تشرين الثاني 1935 القدس – 25 سبتمبر/أيلول 2003 نيويورك)، “خارج المكان”، التي ترجمها إلى العربية فواز طرابلسي، سيرة حياة زاخرة، يتداخل فيها الخاص بالعام، وتشتبك الذات مع موضوعها الرئيسي، الذي هو المنفى، ومضاعفته من مكان إلى آخر، منذ الخروج الأول من فلسطين إلى الخروج الثاني من القاهرة، نحو أميركا، إلى انتقال الأسرة إلى ضهور الشوير في لبنان.
لم ينسلخ سعيد عن جذوره، وأصبحت القضية الفلسطينية في صلب كتاباته ونضاله، وحتى عندما استقال من عضوية المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1991، احتجاجا على اتفاقية أوسلو، فإن ذلك لم يمنعه من إثراء الموضوع الفلسطيني على صعيد المقاربة الفكرية والسياسية وإطلاق مبادرات للحوار الداخلي، ونسف الادعاءات الصهيونية بحق إسرائيل في إقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين وطرد أصحاب الأرض الشرعيين.
لقد كانت حياته على الصعيد السياسي موسومة بطابع المد والجزر، فمن جهة كان محاصرا في أميركا بسبب مواقفه المعلنة لشعبه، ووصل الحصار إلى المستوى الأكاديمي بعد هجمة اللوبي الصهيوني، ومن جهة ثانية لم يسلم من النيران الصديقة بسبب مواقفه من السلطة الفلسطينية نفسها، مما حمله على الابتعاد، في فترة لاحقة، ولعب مرضه الذي تفاقم دورا “مساعدا” على ذلك.
”
بدأ كتابة هذه المذكرات سنة 1994 خلال فترات المرض والعلاج الكيميائي، وقاوم من أجل إتمامه
”
في “خارج المكان” يذكر سعيد نصيحة والدته له، يقول “كانت توبخني قائلة: أنت أديب، السياسة في العالم العربي تدمر الناس الصادقين الطيبين من أمثالك”. أما بالنسبة إليه، هو “الأميركي المستجد” أو “إد سئيد”، فقد تمكن خلال أكثر من ست وأربعين سنة من إقامته في أميركا من الكشف عن وجهها الحقيقي البغيض، وعن هيمنة المؤسسة الأميركية على الأفراد، وسعيها الحثيث لتدجينهم، بدءا من النظام التعليمي، ونهاية بطبيعة الحياة الاجتماعية وصناعة الرأي العام.
لقد كان لصدور “خارج المكان” بالإنكليزية عام 1999، في أميركا وقع الصدمة على اللوبي الصهيوني، فهوجم سعيد في الإعلام المناهض للقضية الفلسطينية، كما اتهم بالكذب وتزوير الحقائق، بل جرى التشكيك حتى في كونه فلسطينيا.
بدأ كتابة هذه المذكرات سنة 1994 خلال فترات المرض والعلاج الكيميائي، وقاوم من أجل إتمامه في الظروف العويصة التي مر بها، وأراده أن يكون مكاشفة مع نفسه ومع ذاكرته، بكل ما يعج فيها من تفاصيل مهما بدت صغيرة وغير ذات أهمية قياسا إلى منجزه الفكري الكبير.
واستحوذ إدوارد وديع سعيد الطفل والمراهق على حصة الأسد من الكتاب، إنه كما يسرد هو نفسه “لقد سبق لزميل عربي أن قال إن بعض ما ورد في كتابي لا يُسرّ به المرء إلا لطبيبه النفساني. وأنا طبعا مدرك أن الكتابة الصريحة عن الذات نادرة في تراثنا. وإني لآمل أن يسهم هذا الكتاب في تنمية هذا التقليد. فإذا تحقق ذلك، بلغت الغاية والرضى. وربما علي أن أضيف أن هذا الكتاب ليس الجزء الأول من مذكرات متسلسلة، بل إنه كل ما نويت أن أكتبه في هذا النوع الأدبي”.
ملكة الرقص تحية كاريوكا
يرسم المفكر الفلسطيني العربي الكبير لوحة غاية في الدقة والجمال لملكة الرقص الشرقي تحية كاريوكا. لوحة حية تتحرك وتموج بالكلمات، تكشف افتتان المراهق الذي كانه بالجسد، الجسد الجميل المغوي، وبـ “الأداء النوراني والشهواني”، على حد تعبيره لهذه السيدة، التي تختصر، صورة امرأة من الشرق فيها “مزيج من السخرية والتمنع يصلان لحد الاحتشام”. لقد بقيت تلك الذكرى من زمن المراهقة حية في خياله، وهو يكتبها بحبر الاستعادة الفاتن.
نص يقدم بعدا آخر من أبعاد شخصية مفكرنا الكبير، صعب المراس نظريا، والرهيف، هنا، في هذه المذكرات التي تكشف دون قيود أو “حدود” أو رقابة ذاتية كانت أم جماعية.
يكتب إدوار سعيد: لم يكن من مخارج لشهواتي المكبوتة غير السينما والمسرح الراقص وعروض الكباريهات، وفي إحدى أماسي ربيع 1950 الشديدة الحرارة، تدبر سمير يوسف أمر حجز طاولة في “مسرح بديعة” في الهواء الطلق الواقع على حاجز صغير للماء تحت ما هو اليوم فندق شيراتون الجيزة. ولأول مرة في حياتي اهتززت إثارة لمشهد إيروسي بامتياز، لم أشاهد مثلا له من قبل. إنها تحية كاريوكا، أعظم راقصات زمانها، ترقص، ويرافقها جلوسا المطرب عبدالعزيز محمود. فتلتف حوله وتتلوى ثم تدور حول محورها باتزان محكم إلى حد الكمال. وكان ردفاها وساقاها ونهداها أبلغ بوحا من كل ما حلمت به أو تخيلته في نثري الاستمنائي الفظ، وتنضح بشهوة فردوسية.
ولمحت على وجه “تحية” بسمة تنم عن لذة متفلّتة من كل قيد، يعبّر فمها المفترّ قليلا عن نعيم النشوة. يلطف منها مزيج السخرية والتمنع يصلان لحد الاحتشام. تسمرنا أمام ذلك التناقض الفتان، مفاصلنا مرتخية، وأيدينا متشبثة بالكراسي، يشلها التوتر. رقصت تحية ثلاثة أرباع الساعة، مؤدية تأليفا طويلا ومتواصلا يتكون في معظمه من الدوران البطيء ومن إيماءات اليدين، فيما الموسيقى تعلو وتهبط بنغماتها المتجانسة، فتكتسب معناها لا من تكرارات المطرب أو تفاهة كلمات أغنياته، وإنما من أداء تحية النوراني والشهواني إلى حد مستبعد التصديق”.
في سياق آخر، يكشف سعيد عن علاقته باللغة العربية، أمه الأخرى “منذ ذلك الحين سحرتني أواليات اللغات بطريقة مغالية وأنا أتنقل تلقائيا في ذهني بين احتمالات ثلاثة. فحين أتكلم الإنكليزية، أسمع المعادل العربي أو الفرنسي للمفردات، وغالبا ما أنطقه. وحين أتكلم العربية، أسعى إلى المترادفات في الفرنسية والإنكليزية، فأحزمها تحزيما فوق كلماتي مثل حقائب مستفة على رف للأمتعة. فإذا هي موجودة ولكنها هامدة ومربكة نوعا ما.
”
يقدم إدوارد سعيد نقدا صريحا للمؤسسة الأميركية التي تسعى إلى الهيمنة على الفرد
”
والآن فقط، وقد جاوزت الستين، اشعر براحة أكبر لا في الترجمة وإنما في التحدث أو الكتابة في تلك اللغات، بطلاقة ابن البلد تقريبا، وإن لم يكن كليا. والآن فقط تغلبت على نفوري من العربية الذي سببه النظام التعليمي المنفر، وصرت أستمتع بها”.
مصر فردوس الأجانب
العلاقة مع مصر، هي علاقة فطام قصري بالنسبة للجالية الشامية في القاهرة، وبالنسبة لإدوارد سعيد على المستوى الشخصي. “لقد ولى ذلك الزمن الذي كانت فيه مصر فردوس الأجانب المضياف والمنفتح والباذخ والشهواني، ينعمون بمناخه وما يوفره من المتع الجسدية التي لا تضاهى، والأهم من ذلك أنهم كانوا ينعمون بخنوع سكانه الأصليين”، كما يعبر عن ذلك سعيد. لكن كل ذلك سيرحل إلى غير رجعة بعد حربي السويس و1967، يكتب سعيد “ولكني متيقن من أن توقعي المصيبة في ذلك الوقت كان حقيقيا. ذلك أن بداية النهاية لجاليتنا من “الشوام” واليهود والأرمن وسواهم كانت تلوح في جو التوفيقية (ناد في القاهرة)الملبد وإن يكن مسرا في الآن ذاته.
تدريجيا، أخذ أفراد تلك الجالية يختفون: بعضهم رحل إلى إسرائيل أو أوروبا، والبعض الآخر، وهم القلة، قصد الولايات المتحدة. وبدأ الانتشار المحزن لجاليات القاهرة المشرقية، بل تفككها المفجع، مع مغادرة البعض استباقا لما قد يأتي. وفي ما بعد، اضطر آخرون إلى المغادرة وهم لا يحملون معهم أي مبلغ من المال أو أي متاع بسبب حربي السويس و1967″.
العلاج بالكتابة
عن حياته الشخصية كتلميذ في القاهرة يكتب “كان أهلي دائما على قلق، حتى لا أقول في توجس، من لامبالاتي في المدرسة وعجزي عن الأداء “الجيد” لمدة طويلة وكسلي وموقفي الارتجالي من الامتحانات والترقيات. وخلال إحدى عمليات فراري من المدرسة، مطلع ربيع 1950، فكرت في غرابة أمري، إذ بلغ بي القلق على مستقبلي ذات يوم، حدا حرمني النوم الليل بطوله”. ثم بدأ نزق المراهق يتعالى، يكتب إدوارد سعيد “وقد شكلت أنا وجورج ومصطفى وسمير وآندي وبيلي وآرثر وكلود عصابة من الأوباش تعذب الأساتذة وتستهتر بالبرنامج الدراسي”.
إن هذا الفيض من الذكريات الحية والتفاصيل الدقيقة، التي ما تزال ذاكرة إدوراد سعيد تحفل بها مردها إلى أن فكرة الإقدام على كتابة هذه السيرة الذاتية في لحظات اشتداد مرض الكاتب والمفكر هو نوع من العلاج ومن ترياق الأمل، يشرح ذلك “فأدركت أن استيعاب تلك الفترة يتطلب حالا من الصحو والنباهة وتحاشي الوسن الحالم، والواقع أني أحسب أن محور هذا الكتاب هو الأرق، وأن موضوعه الرئيسي هو اليقظة، اي حاجتي إلى الاستذكار الصاحي وإلى التعبير، وهما عندي البديل من النوم. لا، ليس بديلا من النوم وحده، بل من العطل والاستراحات وكل ما هو في عرف الطبقات الوسطى والغنية ضرب من ضروب “التسلية”، وقد أدرت لها ظهري بطريقة لاواعية منذ حوالى عشر سنوات.
ولما كان هذا الكتاب أحد الأجوبة عن مرضي، فقد وجدت فيه نوعا من التحدي، لا مجرد نوع جديد من اليقظة، وإنما مشروعا أبتعد بواسطته أبعد ما أستطيع عن حياتي المهنية والسياسية”.
المرحلة الأميركية والصراع ضد الهيمنة
تتميز المرحلة الأميركية في حياة إدوارد سعيد بكونها نقلته من عالم إلى آخر، وانتزعته من الحضن الأمومي لتحقيق رغبة الأب. لكن هل نسي صوت الأم داخله، هل ابتعد عن سلطتها المطلقة عليه؟ يعترف سعيد بأنه لم ينجح في ذلك، فلقد بقي سلطانها عليه حتى بعد مماتها، يكتب “ولما كنت وحيدها، أشاركها سهولة الاتصال بالناس وشغفها بالموسيقى والكلمات، فقد أضحيت أداتها للتعبير عن نفسها وتطوير نفسها فيما هي تكافح ضد إرادة أبي الحديدية التي لا تلين والتي تكاد أن تكون خرساء.
وكان انكماشها المباغت عن التعبير عن عاطفتها، وهو أخشى ما أخشاه، وسيلتها للرد على غياباتي. فمن العام 1951 إلى حين وفاتها العام 1990، عشت أنا وأمي في قارتين مختلفتين، ولم تكف عن ندب حظها العاثر لكونها الوحيدة بين صديقاتها التي تعاني آلام الانفصال عن أولادها، وخصوصا انفصالي أنا عنها، فشعرت بالذنب لأني هجرتها، مع أنها رضخت أخيرا للأمر الواقع بعد مغادرتي الأولى والأكثر حسما بين مغادراتي المتعددة”.
المرحلة الأميركية، ستعود حاسمة في حياة سعيد، وهو نفسه يقول عنها ذلك، لقد منحته منفى آخر، بعد الخروج من فلسطين ثم الخروج من القاهرة، يقول “وإني ما أزال أدهش إلى الآن من مجرد خطورة المغامرة التي انطوى عليها قدومي إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1951. لست أملك إلا فكرة غامضة جدا عما كانت ستؤول إليه حياتي لو أني لم أجئ إلى أميركا.
ولكن الذي أعرفه أني بدأت فيها بداية جديدة، متناسيا، إلى حد ما، ما تعلمته من قبل، لأعيد تعلم الأشياء ابتداء من الصفر، مبتكرا، مخترعا ذاتي، أحاول وأفشل، أختبر وألغي ما اختبرته، لأعاود البدء من جديد، سالكا سبلا مباغتة هي في الغالب، أعسر السبل قاطبة. ولا أزال، إلى هذا اليوم، أشعر بأني بعيد عن البيت، مهما بدا الأمر مضحكا. ومع أني لست متوهما أني كنت سأعيش حياة “أفضل” لو بقيت في العالم العربي، أو عشت ودرست في أوروبا، فلا يزال يلازمني بعض الندم.
وهذه المذكرات، هي في وجه من وجوهها، استعادة لتجربة المغادرة والفراق إذ أشعر بوطأة الزمن يتسارع وينقضي. ولما كنت عشت في نيويورك بإحساس مؤقت على الرغم من إقامة دامت سبعة وثلاثين عاما، فقد فاقم ذلك من ضياعي المتراكم، بدلا من مراكمة الفوائد”.
يقدم إدوارد سعيد نقدا صريحا للمؤسسة الأميركية التي تسعى إلى الهيمنة على الفرد وتدجينه، تحت شعارات براقة مثل الواجب الوطني وغيره من الشعارات. في حين كان يجري نوع من التملك والانحياز، وقد بدا جليا ذلك لسعيد في المدرسة التي التحق بها في نيويورك. لقد كان غموض التقييم وعدم اعتماده على معايير واضحة، يكشف انحياز النموذج الأميركي، يكتب “لم أعين مرة خفير طابق أو رئيس مائدة أو عضوا في مجلس الطلبة أو الأول، أو حتى الثاني في الصف، مع أني كنت جديرا بذلك، وذلك لأسباب لم أعرفها قط.
فسرعان ما اكتشفت ضرورة الاحتراس من السلطة وحاجتي إلى بلورة آلية ما أو اندفاع معين حتى لا أفقد الأمل بسبب ما اعتبرته جهودا مبذولة لإسكاتي أو حرفي عن أن أكون من أنا لأصير من يريدونني أن أكون. وأثناء ذلك بدأت نضالا سوف يستمر طوال حياتي لفضح الانحياز والخبث الكامنين في السلطة التي تعتمد في مصادر قوتها اعتمادا مطلقا على صورتها الإيديولوجية عن ذاتها بوصفها فاعلا أخلاقيا يتصرف بقصد شريف وبنوايا لا يرقى إليها الشك.
وفي نظري أن ظلم السلطات إنما يعتمد بالدرجة الأولى على صلاحياتها في أن تغير قواعد حكمها. فقد تجدك كامل الأوصاف في يوم، وتصير جانحا أخلاقيا في اليوم التالي، على الرغم من أن سلوكك لم يتغير قيد شعرة”.
حكيم عنكر
العربي الجديد