لا يحتاج المراقب تدقيقاً طويلاً ليكتشف أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أقام توأمةً واضحةً في إدارته السياسة الخارجية للولايات المتحدة؛ بين خدمة مصالح البلاد وخدمة مصالحه هو شخصياً. وعلينا، نحن العرب، أن نكون أكثر الناس انتباهاً لذلك، دليلنا ما فعله ترامب في علاقة بلاده المتجذّرة مع السعودية، إذ سلك درب التهديد برفع غطاء الدعم السياسي والعسكري، ما لم يقبض الثمن الكبير مسبقاً.
ولكن ما يؤكد نهج ترامب ذاك، إذا كان سلوكه مع الدول العربية النفطية لا يفضحه بدعوى أنها ليست دولاً عظمى من الناحية الجيوسياسية، وأنها تقوم على تحالف سياسي قديم لا يتزحزح مع واشنطن، هو سلوكه مع الصين، بحسب ما يورد كتاب مستشار الأمن القومي السابق، جون بولتون، الصادر حديثاً، “الغرفة التي شهدت الحدث”، والذي يروي مواقف مخزية لرئيس القوة العظمى، تكشف ليس فقط جهله وضحالة معارفه، بل كذلك انتهازيته التي بسببها لا يمانع في توظيف علاقات بلاده مع الصديق والعدو من أجل خدمة غرض بقائه رئيساً، ليس فقط لدورة انتخابية ثانية وحسب، بل أيضاً لدورات أكثر كما قال بنفسه للرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2018، بحسب ما نقل موقع “بي بي سي” عن الكتاب: “قال شي إنه يرغب في العمل مع ترامب ست سنوات أخرى، فردّ الأخير أن الشعب الأميركي يعتقد أن تقييد الرئاسة بفترتين يجب أن يتغيّر في حالته”.
وقد نقلت صحيفة نيويورك تايمز، والتي نشرت على موقعها الإلكتروني بعض نصوص الكتاب، عن بولتون وصفه حوار ترامب مع شي خلال قمة العشرين عام 2019 بأنه تجاوز مجرّد
“لا بد أن الصين التقطت حالة ترامب تماماً، ولا ريب أنها تُحسن التعاطي معها، والاستفادة منها”الحديث عن عدد الدورات الانتخابية. ذكرت الصحيفة: “كتب بولتون أنه في خضم المحادثات حول التجارة، غيّر ترامب سياق المحادثة إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، ملمحاً إلى أن القدرات الاقتصادية للصين يمكنها التأثير على الحملات الانتخابية الجارية، وتوسّل إلى شي لضمان فوزه” (بولتون هو من استعمل كلمة: pleading أي يتوسّل). وكتب بولتون في كتابه: “كنت سأطبع كلمات ترامب بالضبط، لكن مراجعة الكتاب قبل النشر من الجهات الحكومية قرّرت خلاف ذلك”. وبحسب ما يشرح بولتون في كتابه، فإن ترامب كان يقصد حث الرئيس الصيني على زيادة مشتريات بلاده من إنتاج المزارعين الأميركيين من فول الصويا والقمح، ما يدفعهم إلى إعادة انتخابه، كما جرى في انتخابات عام 2016 التي مثّل القطاع الزراعي فيها قوةً انتخابيةً ساعدت ترامب على الظفر بالرئاسة.
ما هو أكثر إثارة في سلوك ترامب تجاه الصين، من وجهة نظر بولتون، رغبته في التخلي عن تايوان التي يقول عنها بولتون إنها “الحليف الديمقراطي للولايات المتحدة”، وذلك لصالح التقارب من الصين، إذ نشرت صحيفة ذا تلغراف البريطانية مقتطفات من الكتاب، فيها أن ترامب كان يشير إلى طرف قلمه ويقول “هذه هي تايوان”، ثم يشير إلى مكتبه ويقول “هذه هي الصين”. ويعلق بولتون: يبدو أن الرئيس مهووس بالحجم.
ومما أورده كتاب بولتون من غرائب ترامب في أحاديثه مع شي جين بينغ، إبداء الرئيس الأميركي تأييده الصين في بناء مخيمات التدريب والتثقيف الوطني لأعدادٍ من منشقي قومية الإيغور في مقاطعة شينجيانغ الصينية، وهي المخيمات التي يسميها الإعلام الأميركي، وسمّاها ترامب في تصريحاته “معسكرات احتجاز” لقمع قومية الإيغور وغسل أدمغتهم، فخلال حوار الرجلين جاء ذكر تلك المخيمات، فأبدى ترامب اعتراضه عليها، ما دفع الرئيس الصيني إلى الدفاع عنها وعن أهدافها، وهنا تراجع ترامب بحسب ما يسرد كتاب بولتون: “بحسب مترجمنا، قال ترامب إن على شي المضي في بناء معسكرات الاحتجاز، واصفاً إياها بأنها الشيء الصحيح الذي ينبغي على الصين فعله”.
وإذا كان الكتاب يتضمن غرائب ترامب وعجائبه في غير موقف وقضية، متعرّضاً لمواقفه مع
“أبدى ترامب تأييده الصين في بناء مخيمات التدريب والتثقيف الوطني لأعدادٍ من منشقي قومية الإيغور”الرئيس التركي أردوغان، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وسلوكه مع أوكرانيا وروسيا وبريطانيا، فإن لأدائه مع الصين التي تعرَّض لها علناً بعقوباتٍ وإجراءاتٍ صارمةٍ في شأن تكنولوجيا الجيل الخامس وعطاءات شركة هواوي والاستثمارات الصينية في أوروبا وإسرائيل، وراح يلومها على انتشار فيروس كورونا، وعلى كل كبيرة وصغيرة، حتى شاعت عبارته التي قالها لأحد الصحافيين “لا تسألني أنا، اسأل الصين”، لكنه في السر طلب ودّها، وأيّد إجراءاتها في مقاطعة شينجيانغ، لأدائه هذا دلالات خاصة، فالصين خصم سياسي وتجاري، بل وعسكري، بيّن، لا تحالف معه، ولكن ترامب على الرغم من ذلك لم يتورّع عن أن يطلب من رئيسها مساعدته ليبقى في الحكم دورة ثانية، وربما دورات تالية يتعارض تكرارها مع “الديمقراطية الأميركية” التي تتذرّع بها بلاده لممارسة دور شرطي العالم.
وهذا يعني أن انتهازية ترامب لا تحدّها حدود، فإذا كانت مستغربةً انتهازيته مع حلفاء بلاده التقليديين، في مقابل مواصلة دعمهم سياسياً، على الرغم من أن في ذلك الدعم والتحالف مصلحة مشتركة لبلاده معهم، فإن انتهازيته مع الصين تشي بمقدار الانحطاط في شخصيته، واستعداده للانحراف عن الإخلاص المطلق لبلاده مقابل مصالح سياسية شخصية. ولا بد أن الصين التقطت الحالة تماماً، ولا ريب أنها تُحسن التعاطي معها، والاستفادة منها لصالح المضي في طموحها التحوّل قوة اقتصادية أكثر حضوراً وتأثيراً، ولعل هذا يكشف سراً خطيراً عن سلوك الصين تجاه إدارة ترامب، إذ يبدو من مصلحتها بقاؤه رئيساً.
سامر خير أحمد
العربي الجديد