مرت أربعة عقود على صدور كتاب إدوارد سعيد المفصلي “الاستشراق”، والذي أصبح خلالها أداة رئيسية في تفكيك البنية المعرفية لإنتاج المستشرقين وعلاقته بالمشروع الإمبريالي الغربي.
كمفكر ورائد في دراسات ما بعد الاستعمار، نظر سعيد إلى الاستشراق (كنظرائه ميشيل فوكو وآخرين) باعتباره توظيفا سلطويا للمعرفة بالشرق، بعد “شرقنته” وتنميطه تمهيدا لاستعماره والسيطرة عليه.
في كتابه التالي “تغطية الإسلام”، رصد سعيد الطبيعة الاختزالية لدراسات الاستشراق وإنتاجه، وكيف تحولت إلى دراسات “إقليمية” وتم استنفاد جهود باحثين جادين أو واعدين ليصبحوا في النهاية “خبراء مناطق” يتم تجنيدهم في دوائر الاستخبارات والدبلوماسية والعسكرة الغربية.
بدورهم، اعتبر باحثون ومثقفون من ذوي النزعة النقدية حيال فكرة “السلطة” و”الدولة” الغربية الحديثة، “الاستشراق” سفرا أساسيا يرفعونه بمواجهة السرديات الأخرى عن الدولة والحداثة.
أصبحت هذه الفكرة مركزية لدى الباحثين في دراسات ما بعد الاستعمار، لكن وائل حلاق رأى أن الإنتاج الاستشراقي أخذ منحاه بسبب البنى التحتية للفكر الغربي، وأهمها الحداثة وأفكار عصر “الأنوار” أو “التنوير”.
لكن سعيد لم يلتفت إلى هذه المسألة بل هو ابن الحداثة والتنوير، وبالتالي ربما اعتبره وائل حلاق مستشرقا آخر، كما لاحظ الباحث السوري تركي الربيعو.
بداية سجال
في حديثه للجزيرة نت، يروي المؤرخ والأكاديمي بشير نافع بداية سجال وائل حلاق مع أطروحة “الاستشراق”: كتاب حلاق تطور من مقالة طويلة نشرها قبل سنوات في مجلة “القانون الإسلامي والمجتمع”، رد فيها على مقالة سابقة قصيرة لرئيس تحرير المجلة ديفيد باور، اتهم فيها حلاق بأنه بدأ مسيرته كأحد أتباع مدرسة المستشرق الألماني-البريطاني جوزيف شاخت (1902-1969) المعروف بنقده للقرآن الكريم والحديث النبوي، وأنه متقلب في آرائه.
لكن رد حلاق الطويل كان صاعقا، والمقالة استندت إلى جهد بحثي كبير وعميق، سواء في الفكر الغربي أو في دراسات الإسلام المبكر ونشوء الفقه وتطوره.
حاول حلاق القول إن النهج الاستشراقي في الكتابات الغربية حول الإسلام المبكر يعود في جذوره إلى رؤية غربية للعالم تطورت في الفترة من نهاية عصر النهضة، مرورا بالتنوير، ووصولا إلى الحقبة الإمبريالية.
في هذه الرؤية، تصور الغرب نفسه وصيا على العالم، مهيمنا، ومسؤولا عن قيادة العالم -أو حتى جره- نحو المستقبل.
رؤية التنوير للعالم
ويرى نافع أن حلاق بدأ مسيرته متأثرا بمدرسة شاخت، لكنه طور تدريجيا مقاربة نقدية لأتباع شاخت، وربما كانت أعمال المستشرقة السويدية باتريسيا كرون، والمؤرخ الأميركي جون وانسبورو، وتلميذه أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة مانشستر نورمان كالدر، وأمثالهم، قد دفعت حلاق لمحاولة رؤية جذور الاستشراق الفكرية والإمبريالية.
بهذا، يمكن القول إن حلاق قام بما لم يحاوله إدوارد سعيد، بالعمل على استطلاع جذوره وأصوله، وربما لم يكن مهيأ لذلك.
من ناحية أخرى، يؤكد نافع أن من الصعب القول إن سعيد ابن التنوير وحلاق ليس كذلك، فالحقيقة أن كل من تلقى تعليما غربيا حديثا، ينتمي إلى منهجية التنوير، بصورة أو أخرى. وكلاهما تبنى مقاربة نقدية لرؤية التنوير الغربي لذاته وللعالم، وحلاق بشكل خاص، استطاع تتبع هذه الرؤية من لحظات ولادتها الأولى إلى زماننا.
إرث الاستشراق
الآن، هل يمكن القول إن جميع الباحثين الغربيين الذي اهتموا بالشرق ودراسته ينتمون إلى مدرسة فكرية استشراقية واحدة؟
أجاب نافع بالنفي، فلم يتردد سعيد في استثناء المستشرق البريطاني هاملتون غيب والمؤرخ البريطاني أيضا ألبرت حوراني. ويعتقد أن من الضروري ملاحظة الافتراق بين اتجاهين رئيسيين في دراسات الإسلام والشرق.
إذ لا يمكن وضع المستشرق الفرنسي أندريه ريمون وألبرت حوراني إلى جانب برنارد لويس وإيلي كدوري. وفي دراسات الإسلام المبكر والفقه والحديث، لا يمكن وضع هرالد موتسكي (المستشرق الألماني الناقد بقوة لأفكار شاخت حول الحديث النبوي) ووائل حلاق نفسه إلى جانب باتريسيا كرون التي تشكك في شخصية النبي محمد، وجون وانسبورو ونورمان كالدر.
أعداء نافعون
من ناحية أخرى، فإن الصحفي والمؤرخ البريطاني نويل مالكولم (مؤلف “كوسوفو: تاريخ موجز” عام 1998، الذي أثار عاصفة احتجاجات وتهمة التحيز للمسلمين الألبان) قدم مساجلة جادة مع طروحات سعيد في سياق كتابه: “أعداء نافعون: الإسلام والإمبراطورية العثمانية في الفكر السياسي الغربي، 1450-1750” حول الصراع الغربي العثماني، ورأى أن استشراق هذه الفترة كان إنتاجا جادا يستجيب معرفيا للمد العثماني وتحدياته.
يقول الكاتب السوري صبحي حديدي إن الكتاب يساجل أطروحات “الاستشراق” رغم أن محتوياته لا تتقصد ذلك مباشرة. يرصد عمل مالكولم كتابات مشاهير مثل مكيافيللي وكامبانيلا وفولتير ومونتسكيو، أبناء تلك الفترة الذين حملوا مشاعر مختلطة تجاه العثمانيين، واتخذوا إزاء الإسلام وفكره السياسي مواقف مفارقة للعداء والتنميط والاختلاق؛ وتبنوا تفهما وتأثرا، وأحيانا تعاطفا أتاح نحت تعبير “هواة تركيا” في توصيفهم.
يقر مالكولم بأن كتاب سعيد يغطي القرنين التاسع عشر والعشرين، حين استعمرت بريطانيا وفرنسا الشرق وكانت معارف الاستشراق في خدمة المشروع الإمبريالي، لكن في الفترة التي يدرسها مالكولم لم تكن إمبراطوريات الغرب قد باشرت مشاريعها الاستعمارية، بل أبدى علماء غربيون انفتاحا تجاه العثمانيين والعالم الإسلامي وتأثروا في نهاية المطاف.
تقليدان متوازيان
هناك إذن تقليدان متوازيان للاستشراق، أحدهما إنتاج معرفي تناول تاريخ الشرق واجتماعه وتراثه وآدابه وثقافته، وقدم إنتاجا هاما تراوح بين جمع المخطوطات وتحقيق النصوص وتصنيف معاجم اللغة والحديث النبوي ودراسات معمقة بمختلف المجالات. والآخر عمل كطلائع للاستعمار الأوروبي ووظف معارفه في اختراق شعوب المستعمرات والتجسس عليها قبل وبعد غزوها.
إذا نظرنا اليوم إلى مآلات الاستشراق المرتبط بالمشروع الامبريالي فسنجد انحدارا متواصلا ليواكب حاجات هذا المشروع، حيث يغلب على دراسات الشرق الأوسط الشأن الأمني، وأصبح الشرق مجرد مصدر للإرهاب والهجرة غير النظامية ويستحق حكاما فاسدين وسلطويين يحكمونه بالحديد والنار.
الاستشراق الاستيطاني
يبلغ هذا النمط من الاستشراق غاية انحطاطه في الاستشراق الإسرائيلي المسخر تماما في خدمة المشروع الصهيوني الإمبريالي الاستيطاني الإحلالي، بحيث غدا استشراقا استيطانيا خالصا.
إذ يرصد الباحث الأسترالي لورنزو فيراسيني في كتابه “إسرائيل والمجتمع الاستيطاني” كتابات إسرائيلية مبكرة في الخمسينيات، تحدثت عن دراسات إسرائيلية تصور السكان الفلسطينيين كائنات غير عقلانية لا تجدي معها ولا تفهم إلا لغة القوة، ووجد نفس التوصيف للسكان الأصليين في أدبيات المشروعات الاستيطانية الأخرى.
بدوره، يلفت الباحث في الشأن الإسرائيلي صالح النعامي، إلى الركاكة والضحالة التي يتسم بها رجال استخبارات إسرائيليون يعتبرون مستشرقين في إسرائيل والغرب وينادون بدعم سلطويات عربية دموية، محاججين بأن تاريخ الشرق يظهر أن الحكام الذي يعتمدون القمع الوحشي ضد شعوبهم يضمنون الاستقرار الذي يؤمّن في النهاية مصالح الغرب.
ولا يكتفي هؤلاء المستشرقون بتقديم رؤى عامة حول دعم وتمكين الثورات المضادة في العالم العربي، بل يقدمون مقترحات تفصيلية لدعمها.
وإذا تبلور عالم بعض هؤلاء المستشرقين الإسرائيليين المعرفي والسيكولوجي حول العرب في أقبية التحقيق والسجون، وكانت خلفياتهم المهنية العمل في أحد الأجهزة الاستخبارية مثل الموساد وأمان والشاباك؛ فسيبدو مفهوما بالنسبة إليهم كيف يؤول مسار الاستشراق من الاستعمار إلى الاستيطان إلى الاحتلال.
الجزيرة