منذ انتهاء الحرب العالمية، قادت الولايات المتحدة، وإن كان ذلك بشكل ليس كاملًا، حالة الحفاظ على الخدمات العامة العالمية مثل إبقاء التوازن على حالة القوى العسكرية، واستقرار النقد الدولي، والنظام التجاري المفتوح، وحرية الملاحة. ويجب أن تستمر هذه القيادة لتصبح هدفًا رئيسًا لسياستنا الخارجية؛ لإنه إذا لم تتولى أقوى دولة دفة القيادة في الحفاظ على تلك الخدمات العامة، فسوف نعاني نحن ومعنا الآخرون من عدم وجود تلك الخدمات.
ويدور الأمريكيون في سلسة من الاعتقاد بأننا نتجه نحو الانحدار. في حين أن الولايات المتحدة لديها العديد من المشكلات (وهو أمر ليس بالجديد)، إلا أنها لا تنحدر بشكل مطلق مثل روما القديمة، والتي لم يكن لديها نمو في الإنتاجية. حيث أننا نعتبر الدولة المتقدمة الكبرى الوحيدة التي لن تعاني من انحدار ديموجرافي بحلول منتصف هذا القرن، واعتمادنا على واردات النفط يقل بدلا من أن يزيد، كما أننا في طليعة التكنولوجيات الكبرى التي سوف تشكل هذا القرن، وتهيمن جامعاتنا على التصنيفات العالمية للجامعات. ولدينا المزيد من الحلفاء والاتصالات أكثر من أي دولة أخرى.
بينما التحدي الحقيقي الذي نواجهه هو ما يمكن تسميته “صعود الآخرين”. فعلى الرغم من أن حالة النمو في الأسواق الناشئة من غير المرجح أن تؤدي إلى وجود منافس واحد يستطيع التفوق على الولايات المتحدة، إلا أن “صعود الآخرين” يخلق عالمًا أكثر تعقيدًا. ومشكلة قيادة مثل هذا العالم تتمثل في كيفية دمج الجميع في النظام، والحفاظ على هذا الأمر.
وستظل القوة العسكرية مكوّنًا حاسمًا للسيطرة الأمريكية، ولكنها لا تكفي. فالاستراتيجية الأمريكية التي تحفظ التوازن العسكري في أوروبا أو في شرق آسيا وتحافظ على التحالفات في نفس الوقت، هي مصدر رئيس للتأثير، ولكن محاولة الاحتلال والسيطرة على السياسات الداخلية للجماهير القومية في ثورات الشرق الأوسط هي استراتيجية فاشلة لا طائل منها. ولا يمكن أن ندير ظهورنا للمنطقة بسبب مصالحنا في إسرائيل، ومنع انتشار الأسلحة النووية، وحقوق الإنسان، وغيرها من المصالح. ولكن سياستنا يجب أن تنطوي على الاحتواء، وتحقيق التوازن، والجذب والتأثير بطريقة غير مباشرة، بدلًا من الغزو الذي سوف يأتي بنتائج عكسية. وفي المقابل، فإن توازن القوى الداخلية يجعلنا محط ترحيب في أوروبا وآسيا. فالغزو الروسي لأوكرانيا قد أحيا دور منظمة حلف شمال الأطلسي، وصعود الصين يخلق حالة من القلق في الهند واليابان وفيتنام والفلبين وغيرهم من الدول. ونحن لسنا بحاجة إلى سياسة احتواء الصين، فلازالت سياسة “الدمج مع التحفظ” صالحة للتعامل معها. والدولة الوحيدة التي يمكنها احتواء الصين هي الصين، وفي حين تدير الصين صراعاتها الإقليمية مع الدول المجاورة لها، فإن الصين بذلك تحتوي نفسها.
وفي ظل تأثير ثورة المعلومات والعولمة، تتغير سياسات العالم بطريقة تعني أن الولايات المتحدة لا يمكنها تحقيق العديد من أهدافها الدولية عن طريق المضي قدمًا بمفردها. وعلى سبيل المثال، فإن الحفاظ على الاستقرار المالي العالمي ومواجهة تغير المناخ العالمي يعتمد على التعاون مع أوروبا واليابان والصين وغيرهم من الدول. وفي ظل عالم مفتوح الحدود لكل شيء؛ من المخدرات إلى الأمراض المعدية إلى الهجمات الإلكترونية إلى الإرهاب، أصبحت الشبكات والمؤسسات مصدرًا مهمًا للقوة. سوف يستمر القرن الأمريكي بمعنى أنه سوف يستمر مركزية دور الولايات المتحدة في الحفاظ على توازن القوى وعلى الحفاظ على الخدمات العامة العالمية، ولكن السياسة الخارجية الناجحة يجب أن تبدو مختلفة عما كانت عليه في النصف الأخير من القرن المنصرم.
التقرير