وضع حرق الغاز المصاحب لاستخراج النفط شركات البترول العالمية في مأزق بعد أن دقّ البنك الدولي ناقوس الخطر، بسبب اللجوء إلى الحلول السهلة من خلال حرقه بدلا من معالجته والاستفادة منه، الأمر الذي كبد البيئة والصحة تكلفة باهظة نتيجة التلوث الناجم عن عمليات الحرق، فضلا عن ضياع مورد اقتصادي طبيعي هباء.
القاهرة – لا تزال ممارسات حرق الغاز المصاحبة لعمليات استخراج النفط من التحديات المتواصلة التي تواجه الدول المنتجة للنفط، وتضعها في مأزق شديد، حيث التعدي الصارخ على البيئة، وما يترتب عليه من تضخم في تكلفة الأمراض، وإشكاليات التغيرات المناخية، نتيجة زيادة انبعاث الغازات الدفيئة.
ومع القيود والإجراءات الاحترازية التي فرضتها جائحة كورونا الأشهر الماضية، تأكد أن العالم يعيش وسط نسبة عالية من الغازات السامة، حيث كشفت الكثير من الإحصائيات حجم التراجع في الانبعاثات الغازية بعد بقاء الناس في البيوت وتراجع استخدام المركبات والطائرات، وتوقف عدد كبير من المصانع عن العمل.
وتمتد التحديات لتشمل جملة من الخسائر الاقتصادية الناجمة عن إهدار الغاز عبر التخلص منه حرقا في الهواء، بدلا من تعظيم الاستفادة من مورد طبيعي يعزز عمليات التنمية ويجني المجتمع ثماره.
وأوضحت بيانات الأقمار الصناعية أن معدلات حرق الغاز عالميا صعدت إلى مستويات غير مسبوقة منذ أكثر من عقد، وبلغت نحو 150 مليار متر مكعب، أي ما يعادل إجمالي استهلاك الغاز السنوي في أفريقيا جنوب الصحراء بالكامل.
وتشير التقديرات إلى أن نسبة حرق الغاز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تصل لنحو 50 مليار متر مكعب سنويا، ما يجعلها ثاني منطقة في العالم، بعد روسيا ومنطقة بحر قزوين، تبلغ حوالي 60 مليار متر مكعب.
وتصل كمية الغاز المتوهج في الشرق الأوسط وحده إلى حوالي 30 مليار متر مكعب، يمكن أن تغذي 20 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال.
وأشار البنك الدولي إلى أن بعض الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا زادت من حرق الغاز خلال الـ12 عاما الماضية بشكل كبير، الأمر الذي يستلزم حفزها لتقليل حجم الظاهرة.
وفاقم من حجم المشكلة زيادة معدلات حرق الغاز في البلدان الهشة أو المتأثرة بالصراعات السياسية، ففي سوريا قفزت المعدلات بنحو 35 في المئة، رغم عدم زيادة إنتاج النفط، وفي فنزويلا ارتفعت النسبة بنحو 16 في المئة.
زيادات مستمرة
مع كل التحذيرات التي أطلقتها المؤسسات الدولية ومبادرات البنك الدولي التي تقدم دعما ماليا للدول لمواجهة تلك الإشكالية، إلا أن ممارسات حرق الغاز تسير دون فائدة، ولا تزال منتشرة في كثير من دول العالم.
ورصدت مؤشرات الحرق الدول العشرين الأكثر هدرا للغاز، وهي: روسيا، نيجيريا، إيران، العراق، أنغولا، قطر، الجزائر، الولايات المتحدة، الكويت، إندونيسيا، كازاخستان، غينيا الاستوائية، ليبيا، المكسيك، أذربيجان، البرازيل، الكونغو، المملكة المتحدة، والغابون.
ويلفت بعض الخبراء، إلى أن الغاز الذي يتم حرقه في حقول النفط والغاز يمثل حوالي 5 في المئة من الإنتاج العالمي من الغاز الطبيعي، ولو استخدمت هذه الغازات لتوليد الكهرباء لغطت احتياجات القارة الأفريقية.
وأدى توسع نطاق عمليات الحرق في كل من أميركا بنسبة 23 في المئة وفنزويلا بنحو 16 في المئة وروسيا بنسبة 9 في المئة، إلى تصاعد وتيرة التحذير من الظاهرة عالميا.
ويجري حرق الغاز الطبيعي المرتبط باستخراج النفط بسبب القيود التقنية أو التنظيمية أو الاقتصادية أو بسببها كلها.
وتظهر بعض الإحصاءات الدولية أن حرق الغاز السنوي يعادل ربع الاستهلاك السنوي من الغاز في الولايات المتحدة، وثلث استهلاك الاتحاد الأوروبي السنوي، وثلاثة أرباع إجمالي صادرات الغاز السنوية في روسيا.
وتعد أفريقيا واحدة من أكثر القارات حرقا للغاز، حيث أن 35 مليار متر مكعب سنويا من انبعاث الغاز تحرق أي ما يعادل نصف الاستهلاك الإجمالي للطاقة بالقارة.
ويؤدي الحرق إلى إطلاق أكثر من 400 مليون طن من مكافئ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون كل عام، وتبديد مورد ثمين، إضافة إلى أنه يخلف آثارا ضارة بالبيئة من جراء انبعاثات غاز الميثان غير المحترق والكربون الأسود.
وقال كريستوفر شيلدون، مدير قطاع الممارسات العالمية للطاقة والصناعات الاستخراجية بالبنك الدولي على مدونته الخاصة “تشير بياناتنا إلى أن حرق الغاز لا يزال يمثل مشكلة مستمرة، حيث تبقى الحلول صعبة أو غير اقتصادية في بلدان معينة، وتخلق جائحة وأزمة فايروس كورونا تحديات إضافية، مع احتمال تهميش قضايا كالاستدامة وحماية المناخ، فيجب علينا أن نغير هذا الاتجاه المقلق وإنهاء حرق الغاز بشكل معتاد مرة واحدة وإلى الأبد”.
وتستحوذ البلدان الأربعة الأولى التي تحرق الغاز، روسيا والعراق وأميركا وإيران، على ما يقرب من نصف جميع عمليات حرق الغاز عالميا خلال السنوات الثلاث الماضية.
ويستهدف برنامج الصندوق الإئتماني التابع للشراكة العالمية لخفض إحراق الغاز الذي يديره البنك الدولي مد يد العون عبر العمل مع الحكومات لإنهاء المشكلة المستمرة، مع التركيز على الدول الأكثر حرقا للغاز في العالم.
ولوضع إطار محكم أكثر تركيزا لمواجهة الظاهرة التي تحولت لأزمة أطلق البنك الدولي مبادرة الوقف التام لحرق الغاز المعتاد بحلول عام 2030.
وترمي المبادرة التي حصلت على تعهدات من أكثر من 80 حكومة وشركة وتمثل أكثر من نصف عمليات الحرق المعتادة في العالم إلى إنهاء هذه الممارسة المستمرة على مدى 60 عاما.
ويحاول البنك الدولي عبر مبادرته حفز الدول وشركات النفط ومؤسسات التنمية لوقف إهدار الغاز الطبيعي عبر إيجاد أسواق لبيع هذه الغازات أو وضعها في استخدامات نافعة للبشرية.
ويمكن استخدام الغاز الطبيعي كوقود أو حتى تحويله إلى مصادر طاقة أخرى يتم نقلها بطرق أيسر في أنابيب لمحطات الكهرباء أو مصانع السماد، والصناعات كثيفة استهلاك الطاقة.
وتسهم المبادرة في وضع سياسات ولوائح وممارسات لإنهاء الحرق التلقائي، وفي الوقت نفسه تحصل على المزيد من الالتزامات من الحكومات والشركات لإنهاء وبال الظاهرة على الصحة والبيئة والاقتصاد.
وتتألف الشراكة العالمية لخفض حرق الغاز التي يديرها البنك الدولي من حكومات وشركات نفط ومؤسسات دولية تعمل لإنهاء عمليات إحراق الغاز المعتادة في مواقع إنتاج النفط في أنحاء العالم.
وقامت بالمشاركة مع الإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي ومدرسة كولورادو للمناجم، بإعداد تقديرات عالمية لحرق الغاز بناء على ملاحظات من قمر صناعي تم إطلاقه عام 2012. وتكتشف أجهزة الاستشعار المتقدمة لهذا القمر الصناعي الحرارة المنبعثة من الغاز المشتعل كانبعاثات للأشعة تحت الحمراء في منشآت إنتاج النفط والغاز العالمية.
ويقوم تطبيق جديد على شبة الإنترنت برسم خرائط لحرق الغاز عالميا بطريقة موثوقة وموحدة، وسوف يتاح للجمهور الاطلاع عليها ومتابعتها لحظيا عام 2022، من أجل دعم مبادرة مناخ النفط والغاز.
ولفت فتحي كمال الأستاذ بمعهد التبين للدراسات المعدنية، أن شركات النفط تلجأ إلى الحلول السهلة في التعامل مع الغاز المصاحب لاستخراج النفط والتعامل معه حرقا حتى لا تتكبد مشقة وتكلفة معالجته. وأضاف لـ”العرب” أن هذه الممارسات أثرت عبر أكثر من قرن ونصف القرن في تآكل طبقة الغلاف الجوي نتيجة ارتفاع الانبعاثات الكربونية الناتجة عن عمليات الحرق.
وتحرق شركات النفط الغاز المصاحب لأن النفط ينتج في مناطق نائية بعيدة عن المراكز الاقتصادية والسكانية ويحتاج نقله والاستفادة منه استثمارات كبيرة لا توفرها أسواق الطاقة.
حلول سهلة
نظراً لكون شركات النفط تركز على مصالحها تريد النفط المنتج وترى في إحراق الغاز المصاحب أرخص الطرق لتعظيم الأرباح.
تلك الإشكالية بات مردودا عليها، فيما أدت خطط التوسع العمراني في عدد كبير من الدول إلى بناء مدن بالكامل على تخوم مناطق وحقول استخراج النفط، وبالتالي قطعت هذه الخطط الطريق أمام شركات النفط، ومن الضروري معالجة هذه الغازات والاستفادة منها في تنمية وإعمار هذه المدن.
على سبيل المثال، تعج منطقة مثل البحر الأحمر بثروات نفطية، خاصة على الجانبين المصري والسعودي، وأصبحت عامرة بالمدن، مقارنة بعقود سابقة، فالسعودية دشنت مدينة “نيوم”، ومصر تتوسع في إنشاء المدن الجديدة، وأصبحت هناك جدوى من معالجة الغاز المصاحب لاستخراج النفط في هذه المنطقة واستخدامه في توليد الكهرباء لزيادة معدلات الإعمار.
ورأى جمال القليوبي أستاذ هندسة النفط والغاز بالجامعة الأميركية بالقاهرة، أن فوائد استخدام الغاز المصاحب للنفط تسهم في تعزيز التنمية، من خلال استخدامه في توليد الكهرباء.
وتابع أن شركة سيمنز الألمانية تستخدم تكنولوجيا الدورة المركبة، ما يقلل من فاقد الغاز بنحو 40 في المئة، وقامت بتطبيق هذه التجربة في محطة كهرباء العاصمة الإدارية الجديدة في مصر.
وأوضح أن مشكلة الغاز الطبيعي المصاحب لاستخراج النفط، أنه في بعض الأحيان يكون مشبعا بمادة كبريتيد الهيدروجين وهي مادة سامة، وتلجأ الشركات للتخلص منها عبر حرقها.
وتستخدم الشركات الغاز الطبيعي غير المحمل بالمواد السامة، في إعادة ضخه في آبار البترول مرة أخرى لتسريع وتيرة تدفق النفط واستخراجه من الآبار.
وينفذ الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع القاهرة عددا من المشروعات البحثية التي تستهدف وضع حلول تعظم الاستفادة الاقتصادية للغاز المصاحب لاستخراج النفط، لتقليل آثاره السلبية على البيئة والتنمية بسبب ممارسات حرقه بدلا من معالجته وإعادة استخدامه في أغراض التصنيع.
ورغم أهمية مواجهة هذا التحدي، إلا أن الدول الأفريقية تعاني نتيجة غياب سياسات معالجة هذه الغازات، وتدفع القارة البكر ضريبة التلوث بسبب عدم تطبيق التشريعات التي تلزم شركات النفط بتبني برامج لتعظيم العائد على الغاز المصاحب في تنمية البيئة المحيطة.
وبغض النظر عمن يحرق الغاز يجب أن تكون هناك حوافز استثمار مناسبة لخفض الحرائق وواضحة إلى أقصى حد ممكن. فإحراق الغاز هو إحراق لثروات بشرية تقدر سنويا بملايين الدولارات، ولا خيار سوى مواجهة الأزمة، وهذه هي المعضلة الكبيرة التي تستلزم عدم التأخر في مواجهتها قبل أن تتعاظم التحديات أكثر.
العرب