حزب الشعب الجمهوري و«مؤتمر السلطة»!

حزب الشعب الجمهوري و«مؤتمر السلطة»!

عقد حزب المعارضة الرئيسي في تركيا، حزب الشعب الجمهوري، مؤتمره العام السابع والثلاثين في أواخر شهر تموز الماضي. الحزب العلماني الذي يوصف بأنه «حزب المؤتمرات» بسبب كثرة عقده لها بالقياس إلى أحزاب سياسية أخرى، عقد مؤتمره هذا تحت شعار طموح مفاده أنه بصدد وضع خارطة طريق لاستلام السلطة في العام 2023 الذي هو الذكرى السنوية المئة لقيام الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية.
يكتسب هذا الهدف الطموح معاني تتجاوز مجرد السعي إلى استلام السلطة، ليصبح نوعاً من «إنقاذ» إرث مؤسس الجمهورية مصطفى كمال من خطر محدق يتمثل، في رأي قطاعات واسعة من المعارضين تتجاوز الحزب الكمالي، في تدمير قيم الجمهورية ومكتسباتها بصورة منهجية على يد السلطة القائمة.
بصرف النظر عن صحة هذه الدعاوى من عدمها، يظهر السؤال الأكثر إلحاحاً بصدد مدى قدرة حزب الشعب الجمهوري على استلام السلطة، وهل طموحه المشروع هذا واقعي أم أنه يشبه أحلام اليقظة بالنظر إلى الشعبية شبه الثابتة للحزب الذي يمثل قاعدة اجتماعية ضيقة لا تتجاوز ربع عدد الناخبين في أحسن الأحوال. ركز الخطاب الافتتاحي لرئيس الحزب كمال كلجدار أوغلو الذي أعيد انتخابه في المؤتمر، وكذا المانيفستو الذي تبناه المؤتمر، على «القوى السياسية الصديقة» التي ينبغي التعاون والتنسيق معها للوصول إلى الهدف المعلن في التغيير السياسي. ويحيل هذا التعبير إلى التحالف الانتخابي الذي تم تشكيله في الانتخابات المحلية بين آذار وحزيران 2019 باسم «تحالف ميلّت» الذي يعني تحالف الشعب، في مواجهة «تحالف الجمهور» الذي ضم حزب العدالة والتنمية الحاكم وشريكه حزب الحركة القومية، إضافة إلى أحزاب صغيرة أخرى ذات إيديولوجية قومية.
وكان وراء فوز مرشحي حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات المحلية المذكورة بعدد من بلديات المدن الكبرى كإسطنبول وأنقرة وإزمير وأضنة وغيرها حليف آخر خفي، إضافة إلى تحالف الشعب، هو حزب الشعوب الديمقراطي، الممثل السياسي لكرد تركيا. فحزب الشعب الجمهوري لا يجرؤ على إقامة تحالف معلن مع الحزب الكردي، ليس فقط خوفاً من السلطة التي تجرّم الحزب الكردي وتزج بقادته ورؤساء بلدياته المنتخبين في السجون، وتستولي على تلك البلديات بتعيين أشخاص تابعين لها بدلاً من الرؤساء المنتخبين، بل كذلك إرضاء للحليف القومي المتمثل بالحزب الخيّر المنشق أصلاً عن حزب الحركة القومية، وأخيراً من التيار الوطني المتشدد داخل الحزب الجمهوري نفسه الذي لا يقل شوفينية تجاه كرد البلاد من حزب الحركة القومية أو توأمه المعارض الحزب الخير.
كلجدار أوغلو الكردي ـ العلوي ابن مدينة ديرسم في أقصى جنوب شرق الأناضول الذي لا يجرؤ الإعلان عن أصله العائلي هذا، لا يجرؤ بالأحرى على إقامة أي تحالف معلن مع الحزب الكردي الذي بدون دعمه لا يمكن للحزب الجمهوري أن يخرج من هامشيته الاجتماعية أو يحلم باستلام السلطة. ربما لوعي كلجدار أوغلو بهذه الحقيقة وضع بنداً في المانيفستو الذي تبناه المؤتمر يتحدث عن السلم الاجتماعي و«خصوصاً حل المسألة الكردية» في إطار البرلمان، في حين يأتي في أول بند برنامجي في المانيفستو «العودة إلى النظام البرلماني وتقوية سلطة البرلمان».

إن أساس طموح الحزب الأتاتوركي في السلطة ليس في قدراته أو قدرات تحالفاته المحتملة، بل هي في حاجة تركيا الموضوعية إلى التغيير بسبب الوضع العام الذي يشكل ضغطاً على كتلة كبيرة من المواطنين

يبدو الوعد «الكلجداري» هذا للكرد باهتاً بالمقارنة مع الآمال العريضة التي أطلقها حزب العدالة والتنمية في سنواته الأولى في السلطة، وصولاً إلى إعلان عبد الله أوجالان من سجنه عن تخلي حزب العمال الكردستاني عن السلاح والدخول في مسار الحل السياسي. فإذا كانت تلك المحاولة الواعدة قد انتهت إلى الوضع الحالي الذي شمل الحرب العسكرية والسياسية ضد كرد البلاد وحركتهم السياسية، فما الذي يمكن توقعه من هذا الإعلان الباهت لحزب ينوء تحت ثقل تاريخ من الاضطهاد القومي لكرد البلاد والمجازر التي واجه بها تمرداتهم في العشرينيات والثلاثينيات، ومنها مجزرة ديرسم التي ينتمي إليها كلجدار أوغلو نفسه في العام 1938؟ المجزرة التي اعترف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بها، في العام 2010 أيام «الانفتاح» المفعمة بالآمال، في حين ما زال هناك مطار في اسطنبول يحمل اسم قائدة الطائرة التي قصفت المدينة في التاريخ المذكور، صبيحة غوكجن، التي كانت إحدى بنات مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس حزب الشعب الجمهوري، بالتبني! ولا أظن أن كلجدار أوغلو يجرؤ على المطالبة بتغيير اسم المطار المذكور، هذا إذا افترضنا أنه قد يرغب بذلك أصلاً.
حتى إذا تركنا جانباً موضوع التحالف مع الحزب الكردي، ونظرنا في احتمالات التحالفات الأخرى التي قد تساعد الحزب على الصعود إلى السلطة، فسوف نرى أن الحزبين اللذين ضمهما «تحالف الشعب» إلى «الشعب الجمهوري» هما حزب السعادة الإسلامي الصغير الذي لا يتمتع بقاعدة انتخابية تتجاوز الخمسة في المئة، والحزب الخيّر القومي الذي لا يمكن المراهنة عليه وهناك خشية دائمة من عودتها إلى حضن الحزب الأم أو لدعم السلطة بطريقة غير مباشرة إذا قدمت لرئيستها مرال آكشنر حوافز معقولة. أما الحزبان الجديدان، «المستقبل» برئاسة أحمد داوود أوغلو و«دواء» برئاسة علي باباجان، وكلاهما انشقا عن حزب العدالة والتنمية، فلا يراهن أحد على ما يمكنهما الحصول عليه من أصوات الناخبين، بقدر ما يكمن الرهان في أنهما من العوامل المهمة في إضعاف الحزب الحاكم مهما كانت الأصوات التي سيقتطعانها من «الكعكة الانتخابية» ضئيلة. وعلى أي حال لا تبدو أي بوادر لاحتمال إقامة تحالف بين الحزبين اليمينيين أو أحدهما و«الشعب الجمهوري» الذي يعتبر نفسه يسارياً. وإذا كان في انشقاق حزبي «المستقبل» و«دواء» إضعافاً للحزب الحاكم، فماذا يمكن القول بشأن ما يشاع عن نية محرم إينجة، الذي كان مرشح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة في مواجهة أردوغان في العام 2018، في تأسيس حزبه الخاص؟
إن أساس طموح الحزب الأتاتوركي في السلطة ليس في قدراته أو قدرات تحالفاته المحتملة، بل هي في حاجة تركيا الموضوعية إلى التغيير بسبب الوضع العام الذي يشكل ضغطاً على كتلة كبيرة من المواطنين. مشكلة تركيا، من هذه الزاوية، هي إذن في ضرورة التغيير وغياب أدواته.

بكر صدقي