صارت هناك تفاصيل كثيرة موثقة ويمكن تتبعها لقصة السفينة «روسوس» ذات علم مولدوفيا التي يملكها رجل أعمال روسيّ والتي اضطرّت للرسوّ في ميناء بيروت قبل ست سنوات (أيلول/سبتمبر 2013) وتُرك قبطانها وبحارتها الأوكرانيون (قيل إنه كان بينهم سوريّان)، مهجورين من دون رواتب على سفينة فيها أعطال في المحرك والرادار إضافة إلى ثقب صغير في جسمها، وتحمل 2750 طنّا من مادة نترات الأمونيوم الشديدة الانفجار، وأن السلطات اللبنانية أطلقت سراحهم بعد عشرة شهور من تخلّي مالك السفينة عنهم ورفضه دفع الرسوم، وأن السفينة نفسها غرقت بعد سنوات لكن حمولتها الخطيرة نجت وحملت إلى مستودعات في ميناء بيروت.
أثناء اعتقاله وبحارته، وجه قبطان السفينة مناشدات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقوبل بسخرية من سفير موسكو في بيروت الذي قال له: «هل يرسل بوتين قوّات خاصة لإطلاق السفينة»، وقد تُركت شحنة الموت 6 سنوات في مخزن من دون أن يحق لإدارة مرفأ بيروت التصرف بها، وقد نُشرت وثائق تثبت أن موظفي الميناء وجهوا تحذيرات عديدة للقضاء اللبناني الذي خاطب المسؤولين بدوره، وأن مديرية أمن الدولة رفعت تقريرا بهذه المواد المتفجرة في 10 كانون الأول/يناير 2019 إلى رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس وزرائه حينها، كما تم تسليمه تقريرا آخر في 4 حزيران/يونيو.
تشرح هذه المعلومات الواقعة باعتبارها ناتجة عن إهمال، كما لو أن ما جرى حادث سيّارة بسيط، وبذلك تخفي كون ما حصل جزءا من شبكة فساد سياسيّة وأمنية كبيرة، كما أنها تخفي أن ما أعمى هذه الشبكة عن رؤية الخطر الكبير الكامن لمدة ست سنوات هو انشغالها بالحفاظ على مصالحها الزبونية والطائفية والدفاع عن رعاتها الإقليميين لا عن مواطنيها.
بعد الإشاعات الكثيرة ونظريات المؤامرة التي انتشرت إثر الانفجار ظهرت أشكال من الغضب العارم على الطبقة السياسية الحاكمة، وتوجّه جزء من آليات التفسير إلى المشتبهين الاعتياديين، والتي تقف إسرائيل على رأسهم، وقد رأى كاتب يهودي أمريكي أن ما حصل كان تفجيرا لمستودع ذخائر تابع لحزب الله، وأن إسرائيل لم تكن تعلم إن فيه كميات هائلة من نترات الأمونيوم، وأنها نفت صلتها بالأمر بسبب حجم الدمار الهائل الذي لحق المدينة، وهو أمر استبعده صحافي آخر في صحيفة «هآرتس».
رغم أن الكاتب الأمريكي معاد للصهيونية وتحميله مسؤولية الانفجار لإسرائيل، فإن الرواية تحمّل أيضاً مسؤولية لـ«حزب الله»، المعروف بسيطرته العسكرية على مرفأ بيروت (ومطارها)، فوجوده الأمنيّ في المرفأ يكشف الخلل الكبير الذي تعاني منه الدولة اللبنانية وأجهزتها، أما الحديث عن مخزن للأسلحة، فهو أيضاً إعلان آخر عن عبثيّة الواقع اللبناني الحقيقي الذي لا قيمة فعلية فيه لتفاصيل الرواية الأصلية فما دام الحزب قادرا على استخدام الميناء لاستيراد الأسلحة أو تصديرها أو تخزينها فما هو معنى المكاتبات الوظيفية والتحذيرات القضائية والأمنية لرئيس الجمهورية ورئيس وزرائه، أو لدور الوزراء والمسؤولين؟
لا عجب، والحالة هذه أن يصرّح أحد دهاة الساسة اللبنانيين، وليد جنبلاط، أن «البلد محتل»، وأن تدعو إحدى القنوات اللبنانية لوقف تسمية ميشال عون برئيس الجمهورية، وأن يدعو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لـ«ميثاق سياسي جديد»، أي لتغيير النظام عمليا، وأن يوقع 36 ألف لبناني عريضة يطالبون فيها بعودة الانتداب الفرنسي!
القدس العربي