المسؤول عن انفجار بيروت

المسؤول عن انفجار بيروت

أعاد مشهد الانفجار الدامي الهائل الذي ضرب مرفأ بيروت إلى الأذهان ما شهدته مدينتا هيروشيما وناغازكي اليابانيتان خلال نهاية الحرب العالمية الثانية، بالنظر إلى الدمار الهائل الذي أصاب العاصمة اللبنانية، والخراب الذي خلفه وراءه في أحيائها وشوارعها، وتسبب في إزهاق أرواح أكثر من 150 ضحية وآلاف الجرحى والمفقودين ومئات آلاف المشردين.

وجاء هذا الانفجار الكارثي، الذي يشبه (في الشكل على الأقل) انفجار القنبلة الذرية في هيروشيما، كي يكشف حقيقة نظام المحاصصة الطائفية الذي أوصل لبنان إلى درجة غير مسبوقة من التردّي، وفي وقت تعصف فيه الأزمات بالبلد وناسه، على مختلف الصعد، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت الأوساط اللبنانية والعربية والدولية تترقب إعلان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، في 14 فبراير/ شباط 2005، أحكامها، قبل أن تؤجل المحكمة الموعد.

أحدث الإنفجار كارثة وطنية كبرى، وأحال بيروت مدينة منكوبة ومصدومة وحزينة

أحدث الإنفجار كارثة وطنية كبرى، وأحال بيروت مدينة منكوبة ومصدومة وحزينة، لكن المحزن أنه أصاب مئات آلاف من سكانها في بيوتهم وأماكن سكناهم، وباتوا مشرّدين يبحثون عن مأوى، بعد أن جرّدهم النظام المصرفي المافيوي من مدّخراتهم، وحين خرجوا إلى الشوارع تائهين، لم يجدوا الدولة المفترض أن ترعاهم، حيث غابت مؤسساتها واختفى المسؤولون، في وقت غصّت فيه المشافي القليلة المتوفرة بالجرحى. فيما أرجع وزير الصحة، حمد حسن، أسباب الانفجار إلى انفجار مخزن لمفرقعات نارية، ثم سخر منه المدير العام للأمن اللبناني، عباس إبراهيم، وأرجع السبب إلى انفجار مستودع لمواد شديدة الانفجار مصادَرة ومتروكة في أحد عنابر المرفأ منذ العام 2014، ولم يبيّن أسباب تركها إلى حين حدوث الانفجار، مع أنها تتضمن 2750 طناً من مادة نترات الأمونيوم الخطيرة والمتعدّدة الاستخدام.

وفي مطلق الأحوال، لا تردّ أسباب الانفجار إلى مجرّد تقصير أو إهمال أو حتى صدفة أو فأل سيئ، بل هو نتاج ممارسات وسلوكيات النظام السياسي اللبناني الذي يحكم لبنان منذ عقود عديدة، حيث لم يكن يأخذ في حسبانه مصالح اللبنانيين أو حياتهم ورزقهم وأعمالهم، بل أسهم في وصول أوضاعهم المعيشية إلى حدّ الكارثة، وقاد لبنان من فشل إلى آخر، والأمر لا يختصر على فشله في وضع خطة أو تدابير للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية والمصرفية التي تعصف بالبلد منذ مدّة، ولا بالفشل في التعامل مع انتشار وباء كورونا، بل يمتد إلى أزمات سياسية وبنيوية متعددة، تحول فيها لبنان إلى دويلات، أقواها دويلة حزب الله، التي تسيطر على النظام اللبناني ومفاصله، وتضع نفسها فوقه، ما جعل لبنان ينزلق إلى الدولة الفاشلة، التي تحدّث عنها وزير الخارجية المستقيل، ناصيف حتي، وكثر سواه.

أزمات سياسية وبنيوية متعددة، تحول فيها لبنان إلى دويلات، أقواها دويلة حزب الله التي تسيطر على النظام اللبناني ومفاصله

وإذا كانت هناك أصوات طالبت بالترفّع عن لعبة التصفيات السياسية، وتغليب روح الوحدة والتآزر والتضامن مع المتضرّرين والمنكوبين، وأتاحت المجال لأعمال الإغاثة والتضامن، وهو ما قام به مواطنون لبنانيون وجمعيات مدنية، إلا أن الوحدة في كلّ الكوارث والأزمات مطلوبةٌ للمواجهة، بوصفها صمّام الأمان لإنقاذ البلاد من الأسوأ، لكنها لا يمكن أن تكون وحدة حول رموز نظام المحاصصة الفاسد الذي يتحمّل مسؤولية الكارثة، بل يجب أن تكون وحدة شعبية، تلتف حول مطالب الحراك الاحتجاجي اللبناني الذي يطالب برحيل نظام المحاصصة ورموزه، لذلك هنالك أصوات أخرى طالبت بالمحاسبة السياسية، وتحديد المسؤولين عن الكارثة، عبر لجنة تحقيق دولية، لأنها لا تثق في أي لجنة تحقيق يشكلها نظام المحاصصة الطائفية القائم، وما جرى يتطلب تحقيقاً مباشراً وشفافاً، ولجانا متخصّصة ومحايدة، يمكنها كشف الحقيقة وتحقيق العدالة لضحايا التفجير ومنكوبيه.

بات المطلوب الانتقال إلى مسار سياسي مختلف، يقطع مع نظام المحاصصة السلطوي الذي أعلن انفجار مرفأ بيروت نهاية مسيرته السياسية الكارثية.

وفيما شكك لبنانيون كثر في أن تتمكن أي لجنة تحقيق تشكل من القضاة الموجودين والتركيبة الحالية من الوصول إلى كشف الحقيقة، فإن مسارعة رموز النظام اللبناني إلى رفع شعار “تحديد المسؤولين عن وقوع الكارثة ومحاسبتهم خلال خمسة أيام”، تبدو مجرّد شعار أجوف، والأرجح أنهم يريدون امتصاص الغضب الشعبي الكبير ضدهم، وسيعمدون إلى انتظار اللحظة التي سيبرد فيها دم المفجوعين بأهلهم وأحبائهم وممتلكاتهم وأرزاقهم، كي يقوموا بلعبة مدارة الأمر ولفلفته، والتي بدأوها بفرض الإقامة الجبرية على موظفين إداريين لم يفعلوا غير تنفيذ الأوامر التي وصلت إليهم، ويُتوقع أن يُجروا تحقيقا بيروقراطيا تقدمّ نتائجه المعروفة سلفاً إلى رموز النظام، كي ينظروا فيه ويطمسوا الحقيقة، من خلال محاولتهم تحميل المسؤولية لأطراف محلية لبنانية، بغية تضييق الخناق عليها، وافتعال مزيد من الأزمات السياسية والاقتصادية.

ما حدث في 4 أغسطس/ آب الجاري في بيروت له ما بعده، والمأمول أن يشكل حافراً لتجديد الحراك الاحتجاجي الشعبي ضد نظام المحاصصة الفاسد، حيث بات لبنان في وضع كارثي لا يمكنه تجاوزه مع التركيبة السلطوية المسيطرة عليه، المستعدة لإفناء البلد وناسه بعد أن حوّلت غالبية اللبنانيين عاطلين وممنوعين من الاستفادة مما جنوه في عمرهم وأودعوه في المصارف. لذلك لا يتحمل الوضع في لبنان مزيداً من المواربة والمسايرة وتأجيل الحلول، إذ بات المطلوب الانتقال إلى مسار سياسي مختلف، يقطع مع نظام المحاصصة السلطوي الذي أعلن انفجار مرفأ بيروت نهاية مسيرته السياسية الكارثية.

عمر كوش

العربي الجديد