عبّرت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السريعة إلى لبنان، ولعبه دورا مركزيا في مؤتمر المانحين الذي عُقد عبر التواصل المرئيّ بين البلدان المشاركة أمس، عن التضامن السريع للعالم «الخارجي» مع لبنان، الذي تجلّى عبر مساعدات عاجلة مهمة من منظمات عالمية كالأمم المتحدة وبرنامج الأغذية العالمي، ومن دول كفرنسا وتركيا والمغرب وتونس (وحتى من بلدان يعاني سكانها الجوع فعليا، ككوريا الشمالية)، وكذلك بإعلان تبرع قطر، في مؤتمر المانحين، بخمسين مليون دولار، والاتحاد الأوروبي بخمسة وثلاثين مليون دولار جديدة، وبريطانيا بستة وعشرين مليون دولار، وألمانيا بعشرة ملايين.
وبقدر ما كانت إعلانات المساعدات السخيّة واضحة في تعاطفها مع الشعب اللبناني في محنته فقد كانت لهجة النقد واضحة للمنظومة اللبنانية الحاكمة في إقرار ضمنيّ بمسؤولية المسؤولين اللبنانيين عن هذه الكارثة الكبرى، وهو ما عبّر عنه ماكرون بالتأكيد على أن المساعدات لن تذهب للفاسدين، وبمطالبته النظام اللبناني بإجراء عقد سياسي جديد.
تزايدت أشكال النقد السياسيّ للطاقم السياسي اللبناني الحاكم في وسائل الإعلام العربية والعالمية، وكذلك الانتقادات الواضحة من قبل جهات لبنانية وعالميّة، بما فيها مطالبة الأمم المتحدة، والمنظمات العالمية الكبرى المدافعة عن حقوق الإنسان، بإجراء تحقيق خارجي مستقل ونزيه، وتناظر ذلك مع غضبة شعبيّة لبنانية هائلة أدّت إلى تظاهرات واعتصامات واقتحامات لوزارات ومؤسسات رسميّة ومطالبات لا بمعاقبة المسؤولين اللبنانيين الذين حمّلوهم مسؤولية الانفجار فقط بل حتى بإعدامهم.
طريقة استجابة المسؤولين اللبنانيين الكبار، كرئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس حكومته حسان دياب، ورئيس البرلمان نبيه بري، لم تتناسب البتة مع حجم الزلزال الكبير الذي أصاب بيروت ولبنان، وعبّرت عن سوء تقدير فظيع لمسلسل انتهاك السيادة والحقوق وأعمال الفساد الهائلة، وجاء حدث الانفجار الأخير ليكون التعبير المأساوي الفاضح عن العطب الكبير في البناء السياسي اللبناني.
بدلا من الإعلان الشجاع والصريح عن مسؤوليتهم، وقبول تحقيق دوليّ نزيه بإشراف الأمم المتحدة، والدعوة لانتخابات سريعة تختتم «موسوعة المصائب» التي أوقعوا لبنان بها، أبدى المسؤولون اللبنانيون، والممسكون بزمام السلطات من خلف ستار، رعونة واستهتارا كبيرين، فاعتبر عون أن التحقيق الدولي «مضيعة للوقت»، وهو تصريح لا ينتبه إلى أن السنوات التي حكم فيها البلاد كانت أسوأ بكثير من «مضيعة للوقت»، وأنها قادت لبنان إلى هوّة سوداء سحيقة قد لا يستطيع الخروج منها.
أما رئيس الحكومة الذي أثار السخرية قبل فترة قصيرة من حدوث الحادث بتساؤله عن غياب الأمن والقضاء، كما لو أنه ناطور وليس رئيس وزراء، فأزاح المسؤولية عن كاهله بالقول إن الفساد مستمر في لبنان منذ عقود، وليس محصورا بفترة حكومته فحسب!
أما حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، فنفى بشكل قاطع وحازم وجازم معرفة حزبه بما يوجد في مرفأ بيروت، في تجاهل مؤسف لعقول الناس، الذين عرفوه طوال عقود وهو يهدد ويتوعد بطريقة الحاكم بأمره لا في لبنان فحسب بل في مجمل المشرق العربي.
لقد كان لبنان منذ تأسيسه، محكوما بتوازنات القوى الكبرى والإقليمية والمحلّية، وكانت كلّ قوة سياسية لبنانية تتباهى بعلاقتها مع إحدى قوى «الخارج»، ولعلّ تاريخ ميشال عون نفسه، هو تعبير فاضح عن التأثير الكبير لـ«الخارج» في وجوده بمنصب الرئاسة، وقبلها في اللجوء لفرنسا قبل عودته إلى لبنان، وتحالفه مع قوة تعتبر نفسها ممثلة لدولة إقليمية في لبنان، أكثر مما هي لبنانية.
رفض عون للتحقيق «الخارجي» هو في الحقيقة رفض لحقيقة أن مصداقيته كرئيس للبنان قد انحلّت، وأن أي تحقيق «داخلي» لن يكون فقط «مضيعة للوقت»، بل استمرارا لمهزلة لم يعد أحد مقتنعا بها.
القدس العربي