ليس انفجارا في عنبرٍ في مرفأ بيروت فحسب، وإنما هو أيضا انفجار الوضع اللبناني عموما، بعد أن بلغ اهتراء الدولة حالا كالحا، وصار الفساد عنوانا للمشهد كله. أما الارتهانات الزعاماتية والطائفية فقد أنفقنا للعنها ما في معاجم اللغة. ولأن هذا هو النعت الأنسب، وإن شديد الاقتضاب، للحال اللبناني، حتى السادسة مساء الرابع من أغسطس/ آب الجاري، فإن المسؤولية العامة، السياسية في تسميةٍ جاريةٍ، عن الكارثة، تلحق كل شركاء الحكم والسلطة والإدارة والرقابة والتسيير والتدبير، أي الجميع، ممن يقيمون في دواليب القرار، على غير مستوى. وهنا، لا تصير جائزةً تبرئةُ طرفٍ، أي طرفٍ، وكذا رمي المسؤولية عن المصيبة على حزبٍ محدّد، أو عنوان سياسي، وإعفاء آخرين. وإنْ تتباين الأوزان في الخريطة العريضة، وإن لا تتساوى الأحجام، وبالتالي تختلف مقادير المسؤوليات. ولكن الإحالة إلى هذا البديهي، في واحدٍ من وجوهها، تتعالى عن الواقع الماثل وحقائقه غير المنظورة تماما بالضرورة، وتنطوي على تبسيطيةٍ وسهولةٍ مريحتيْن، لا لشيءٍ إلا لأننا نتحدّث عن بلد، وقطاعاتٍ متنوعةٍ فيه، وليس عن نادٍ رياضيٍّ لا يتوقف عن إحراز الخسارات، فنوزّع المسؤوليات على اللاعبين والمدرّبين والإداريين، بالأنصبة المقدّرة لكل منهم.
غاية هذا القول إن حزب الله، كما غيره، في خصوص المسؤولية السياسية عن واقعة المرفأ، حيث العونيون وتيار سعد الحريري وحزب وليد جنبلاط وكتائب آل الجميل وقوات سمير جعجع، وغير هؤلاء مما تتعمّد هذه السطور الإتيان على الزعامات، لا على مسميّات أحزابهم وتياراتهم وتكتلاتهم، فيما آثرت تسميةَ حزب الله باسمه، تبعا لمنسوبٍ كبيرٍ من المؤسّساتية فيه، وعلو الأيديولوجيا لديه، وإنْ لا يغفل كلامٌ كهذا عن رمزية “السيد” الثقيلة التي يحوزُها فيه أمين عام الحزب، حسن نصرالله. ولا يخرِم هذا الاجتهاد صحة البديهية الذائعة عن النفوذ الواسع لحزب الله في دولة لبنان الراهنة، ولا يتعامى عن الحضور الحاسم للحزب في مواضع حسّاسة، أمنية واقتصادية وعسكرية و”سيادية” في هذه الدولة، كيف لا وهو الذي يعطّل تشكيل حكومةٍ أو يسهّله، ييسّر عملها أو يعيقه، والأرشيف في هذا (وغيره) يسعفنا بفائضٍ من الشواهد على أفعالٍ كهذه. وفي الاستسلام إلى هذه القناعة المريحة، نبني على الشيء مقتضاه، بلغة أهل القانون، ونقيس الغائب على الشاهد، بلغة الفقهاء، فتأخذُنا أسبابٌ وجيهةٌ هنا إلى أن حزب الله هو المسؤول الأهم، والأول (والأخير؟) عن انفجار الرابع من أغسطس، إذ هو المتحكّم في المرفأ، ولا تُبحر منه سفينةٌ أو تدخل إليه أخرى، إلا بعلمه. وقياسا على هذا، تستقيل عقولنا من وظائفها إذا اعتبرنا أنه لم يكن يدري بقصة السفينة سورس، وأطنان نترات الأمونيوم التي تم تخزينها.
هذا كلامٌ يماثل كلام المناطقة، يغيّب أن الدنيا ليست معادلاتٍ ذهنيةً فقط، فالذي صرنا نعرفه، نحن جمهور الفضائيات، ومن نتسقّط الأخبار على شاشات حواسيبنا وهواتفنا، عما كان في العنبر 12 سبع سنوات كانت تدري به الجمارك وقيادة الجيش والقضاء ووزارة النقل ودوائر وهيئات أخرى في الدولة، وشركة محاماة أيضا، وحسب مخاطباتٍ في وثائق ذاعت، أخيرا، (الأرجح أنها صحيحة)، أن رئاستي الحكومة الحالية والجمهورية خوطبتا بشأنها أيضا (أين كانت الصحافة اللبنانية من هذا كله؟). الأمر الذي يعني أن آلافا من المسؤولين والمديرين والموظفين في غير مؤسّسة ودائرة ووزارة، صغارا وكبارا (والسكرتيرات أيضا)، بل وعمّالا عاديين أيضا، عرفوا بما لم يكن سرّا. ولنا أن نفترض أن ناسا من حزب الله قد علموا به مثل غيرهم، فهذا لا يعني شيئا في تحديد مسؤوليةٍ إداريةٍ أو جنائيةٍ أو استخبارية. ولمّا قال حسن نصر الله، قبل يومين، بلغةٍ قاطعةٍ، إن لا صلة لحزب الله بهذا الملف، لا يعيبنا، نحن الذين نناهض هذا الحزب، ونرفض فظائعه في سورية، وأفعاله في غير شأنٍ في لبنان، أن نصدّقه، فلا شواهد بين أيدينا تجعلنا نكذّبه، إلا فرضياتٌ ييسّرها لها علم المنطق.
لا مصلحة لنا، نحن الذين في غير ضفة حزب الله، في سورية ولبنان، في أن نطخّ عليه في قضية الانفجار في المرفأ. الأدعى أن ندفع، من مواقعنا، كتّابا وأهل صحافة، وقبلنا وبعدنا نشطاء الفعل المدني، باتجاه تحقيقٍ يكشف الطوابق كلها، والمخفيات العظميات في قصة نترات الأمونيوم وسنواتها السبع، دوليا كان التحقيق أم محليا، وعندما ينكشف أي مستورٍ لكل حادث حديث.
معن البياري
العربي الجديد