فشـل النخــبة في العــراق

فشـل النخــبة في العــراق

a1440255705

للمرة الأولى، يواجه النظام القائم في العراق تحديّاً قوياً على المستوى الشعبي، عبّرت عنه الاحتجاجات التي شهدتها بغداد ومدن العراق الجنوبية، والتي بدت مفاجِئة للطبقة السياسية في زخمها إلى الحدّ الذي فرضت عليها تغيير أجندتها والبدء بالحديث عن الإصلاح.

يخبرنا الصحافي العراقي المثابر مصطفى ناصر أنّ أفواج حمايات رئيس الجمهورية ونوّابه تتكون من 2750 عنصراً، وأنّ مجموع عناصر الحمايات في الهيئات الرئاسية الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الوزراء) بلغ 21 ألف عنصر، كما أنّ البرلمان خصّص لكل نائب 20 عنصر حماية (يحتفظ كل نائب بعشرة منهم بعد تقاعده) و5 سيارات مصفحة.. وأن مصروفات الحماية والنفقات الشخصية لرئيس البرلمان ونائبيه تقدر بـ 6.8 مليار دينار عراقي، بينما يبلغ مجموع ما تكلفه نفقات الحماية والعلاج والمخصصات ومنح السفر لبقية أعضاء مجلس النواب 2.94 مليار دينار عراقي، ويأخذ كل نائب ووزير ومسؤول من الدرجة الأولى، بما في ذلك أولئك الّذين عملوا في مناصبهم لبضعة أشهر، مرتباً تقاعديأ ضخماً يستخدمونه عادةً لتمويل إقاماتهم خارج العراق.

هذه أرقام اعتاد العراقيون تداولها للإشارة إلى مدى استهتار تحالف النخب القائم ذاك بثروات البلد. غير أنّها لا تمثّل سوى الشكل المقنن لهذا الاستهتار وجزء يسير من الميزانية (لكنه الجزء الذي يكشف عن طبيعة تلك النخب والمنظومة الأخلاقية التي تحرِّكها). الأرقام الأكبر هي تلك التي تتعلق بالتعاضدات التي نشأت بين القوى السياسية المهيمِنة وطبقة من رجال الأعمال التي أثْرت بشكل فاحش اعتماداً على عقود الدولة أو الرخص الحكومية والوساطات، والتي أسهمت تدريجياً في خلق تكافلات سياسية – مالية كرست محاصصة السلطة والموارد.

صناعة النخب

في دفاعه عن التوافقية كنظام ديمقراطي نموذجي لـ “المجتمعات المنقسِمة”، يقول اريند ليبهارت أن استقرار هذا النوع من النظم يتطلب تحالفاً نخبوياً (Elite Cartel) بين قوى تمثل “الجماعات” الفرعية وتتفق على تقاسم السلطة فيما بينها. تعّرضتْ أفكار ليبهارت إلى الكثير من النقد الذي ذهب بعضه إلى التشكيك بمدى انطباق النماذج التي طرحها (وبشكل خاص هولندا والنمسا) مع إطاره النظري للديمقراطية التوافقية، وركز جزء آخر من النقد على إخفاقه بتحديد ما الذي يقصده بالمجتمعات المنقسمة، وكيف نفرِّق بين “الانقسام” و”التنوع”، ولماذا نفترض أن الانقسام هو إثني أو مذهبي فقط وليس طبقياً مثلاً، بينما رفض آخرون المقدمة التي انطلق منها وهي أن تحالف النخب سيجلب الديمقراطية والاستقرار عبر تراكم التجربة.

غير أنّ النقد النظري وحده يظل ناقصاً ما لم يستند إلى تحليل نتائج التجربة الفعلية للنموذج. وقد شاءت الأقدار أن يكون العراق مختبراً مهماً لبعض من أهم فرضيات النظرية التوافقية، ومكاناً خصباً لديمقراطية تقوم على تحالف النخب.

تفترض أطروحة ليبهارت أن هناك نخباً موجودة تمثِّل جماعات ثقافية منفصلة عن بعضها بوضوح، تتفق فيما بينها على تشكيل تحالف حاكم يأخذ بالاعتبار مطالب ومصالح كل جماعة ولا يتسبب بتهميش الأقليات. جرى تطبيق هذه المفاهيم عراقياً بفعل خليط من التفكير الاستشراقي السائد في الذهنية الأمريكية عن كون العراقيين إثنيات وطوائف في الأساس، وبفعل مشاريع مصلحية لقوى المعارضة السابقة التي كانت مسكونة بهاجس عدم تكرار هيمنة النخب العربية ــ السنية وتهميشها للكرد والشيعة.

أطلق ذلك صيغاً من ممارسات الديمقراطية التوافقية أسهمت بصناعة نخبٍ جديدة، وتعميق الفصل بين الإثنيات والطوائف بشكل لم يكن قائماً قبلها، وبتأكيد فكرة التمثيل الإثني والطائفي على حساب تمثيل مصالح المواطنين.

وبلغ الوضع في العراق اليوم حدّاً صار البعض يجادل فيه بأنّ الحل هو بالانتقال إلى التوافقية الصلبة وفق النموذج البوسني (أي إلى مزيد من الفصل بين الكيانات الإثنوــ طائفية الثلاث، وهو فصل قائم تقريباً بحكم الأمر الواقع)، لأن إمكانية العودة إلى مرحلة ما ــ قبل التوافقية لم تعد متاحة. لكن هذا التحول بالتحديد هو الذي بدأ يهدد النخب التي صعدت في ظل التوافقية الجزئية التي سادت خلال السنوات الماضية.

فتلك النخب رهنت استمراريتها بمواصلة تعبئة “جماعاتها” وراء مخاوفها، ولمواجهة الخطر الذي تمثله الجماعة الأخرى، وتأجيل المطالبات “غير المصيرية” والحياتية لحين حسم الصراع. لكن مع الانفصال المتزايد بين “الجماعات”، وخضوع كل منها لسلطة مغايِرة، وحتى مع وجود الخطر الذي يمثله داعش، تتراجع قدرة تلك النخب على استخدام التخويف لاستدراج الخضوع، خصوصاً إنْ ترافق ذلك مع أزمة اقتصادية تمنعها من استيعاب القوى الجديدة الصاعدة والمطالب المجتمعية المتزايدة في مجتمعٍ شابّ يدخل مئات الآلاف من أبنائه سوق العمل سنوياً ليصطدموا بضيق الفرص وبابتلاع الساحة من الحيتان الكبار.

الفساد كنظام

من الخطأ القول طبعاً أنّ التوافقية هي التي تسببت بذلك، لأن بإمكان صور الفساد هذه أن تظهر في كل أنواع أنظمة الحكم. لكن من الصحيح القول أنّ التوافقية بفهمها المحدود للديمقراطية سهّلت تكوين إقطاعيات حزبية في مؤسسات الدولة وقوضت إمكانية “المحاسبة” التي تمثل عنصراً أساسيا لأي نظام ديمقراطي. فاقتسام الدولة إلى إقطاعيات يعني بالضرورة اتفاقاً على حصانة كل قوة بالتحرك في مجالها. ولأن البرلمان نفسه صار جزءاً من نظام الإقطاعيات، فإنّه فقد دوره كهيئة رقابة ومحاسبة، بل وبات الرمز الأول للفساد في نظر الكثير من العراقيين.

لا شيء يعبر عن ذلك بفجاجة أكثر من استئثار أحد الأحزاب الحاكمة، عبر علاقاته التجارية، بعقود “صبّات الكونكريت” (المكعبات الإسمنتية) التي ملأت شوارع العراق كأحد طرق السيطرة على الأمن وانفجار السيارات المفخخة (وعملياً يعني ذلك أن استمرار هذا المشروع يتطلب استمرار انفجار تلك السيارات). كذلك الأمر مع صفقة “السونارات” الخاصة بالكشف عن المتفجرات والتي أصبحت فضيحة على مستوى عالمي حينما حكمت محكمة بريطانية بالسجن على مُصنِّع تلك الأجهزة بسبب ثبات زيفها.. لكنها ظلّت تُستخدم في العراق، بل إن أحد رجال الأعمال المتورطين بالصفقة أصبح غنياً بما يكفي ليؤسس حزبا سياسيا ويدخل الانتخابات ويفوز بمقاعد في البرلمان.

يقول الباحث في مجال سياسات الطاقة في الجامعة الأمريكية في السليمانية، بلال وهاب، في أطروحته للدكتوراه حول إدارة النفط في العراق، إنّ الإدارة الإقطاعية للريع النفطي أنتجت نظاماً لم تعد فيه المؤسسات الدستورية قادرة على العمل وفق ما يفترضه بناؤها القانوني، وإن ما تشكَّل في العراق هو نظام شبَكي تمّ بموجبه تقسيم عوائد النفط بين شبكات التعاضد السياسي ــ المالي المتكوِّنة من النخب والأتباع في إطار علاقة زبائنية بحتة، وإن المحاسبة الوحيدة الممكنة في مثل هذا النظام هي تلك التي تحدث بين الشبكات التي تحاول كل منها منع الأخرى من الاستحواذ على حصة أكبر.

تمّكن هذا النظام من الاستمرار والنمو في الفترة الماضية بسبب توافر عوائد مالية ضخمة من صادرات النفط الذي حافظ على أسعار عالية خلال سنوات، ولم تكن النفقات العسكرية بالضخامة التي أصبحت عليها مع بدء الحرب الشاملة مع تنظيم داعش، كما أنّ تلك الشبكات كانت في طور التكوين ولم تستكمل بعد اقتسام كل فضاءات السلطة، بل هي استغلت الفائض لصناعة مؤسسات جديدة لتدوير مزيد من العوائد وتوسيع شبكات الأتباع الخاصة بكل منها.

لكن منذ دخول العراق مرحلة التقشف، مع تراجع أسعار النفط (إلى نصف ما كان عليه ثمن البرميل)، بدأت إشكاليات هذا النظام بالتضخم. فقدرته على إدارة الصراع بين شبكاته تتراجع، والفضاءات المفتوحة لاستيعاب الطلب الاجتماعي عبر التوظيف في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، والحفاظ في الوقت نفسه على القيمة الاقتصادية الجيدة لتلك الوظائف، أخذت تنغلق. والأهم من ذلك، أنّ مرحلة الصراع مع داعش أفرزت لأول مرة خيارات بديلة عن تلك التي صنعتها النخب الجديدة. فقد أدرك الكثير من الناس أن الدولة غير قادرة على الدفاع عنهم وأن الأمر تطلب تشكيل جيش مواز باسم الحشد الشعبي لمواجهة داعش، وأصبح هذا التشكيل غير الرسمي يصنع معنىً جديداً للشرعية ومعادلة مختلفة لتوزيع القوة ويتأثر بمطالب قوى صاعدة غير راضية بالحصص المقررة لها في التوزيع الإقطاعي للسلطة.

النخبة والمجتمع

في ظل هذه الظروف، يصبح من الصعب تخيل بقاء النموذج الليبهارتي عن “تحالف النخبة” في العراق بشكله الحالي ما لم يجرِ تحوير كبير فيه أو ما لم ينتقل البلد إلى التوافقية الصلبة التي تحوِّله إلى دولة كونفيدرالية تدير العلاقات بين كيانات منفصلة عن بعضها. تحتاج شبكات الزبائنية إلى النمو كي تحافظ على بقائها، وعندما تنحسر الموارد فإنّ قدرتها على النمو تتراجع مما يدفعها إلى الاصطدام ببعضها، وهو ما أدّى في حالة العلاقة بين إقليم كردستان وبغداد إلى تأكيد الانفصال الاقتصادي مع شروع الإقليم بتصدير نفطه وجزء من نفط كركوك بمعزل عن الحكومة الاتحادية، وتوقف الأخيرة عن إعطائه حصته من الميزانية. لكن التزاحم أخذ ينتقل إلى داخل “الجماعات” بشكل صراعات بينية شيعية ــ شيعية وكردية ــ كردية، وبسبب التنافس بين الشبكات على حصص تلك الجماعات. وينتج هذا التنافس بدوره المزيد من السخط الاجتماعي لأنه يكرس حالة الانقطاع بين هواجس النخب ومطالب المجتمع.

هكذا خرج الناس الى الشوارع في صيف العراق الحار، حيث كشفت أزمة الكهرباء المتواصلة منذ عقود عن عورات هذا النظام وعجزه عن أن يكون نظاماً فاعلاً لإدارة المصالح والحاجات الاجتماعية، محتجين على النخبة وفسادها، ومُجردينها، ولو رمزياً، من الشرعية التي تدّعيها لنفسها كنخبة ممثِلة للجماعات. تصرف المحتجّون كمواطنين وليس مجرد أعضاء لجماعة خائفة. غير أنّ الشيفرة التي تشكَّل عليها النظام التوافقي تظل عاجرة عن استيعاب مطالبهم لأنها تشكلت على أساس سياسات الهوية لا سياسات المواطَنة.

علمتنا دروس “الربيع العربي” أن الاحتجاجات قابلة لأن تُستثمر لمصالح سياسية ضيقة وتجرَّد من محتواها الحقيقي كاعتراض مجتمعي على فشل النخبة. وفي الحالة العراقية هي أيضا اعتراض على فهم ضيق للديمقراطية باعتبارها عملية إجرائية لا نظاما للتعبير عن حاجات المواطنين. وقد بدا واضحاً أن بعض الشبكات المتصارعة داخل النخبة تسعى لاستثمار موجة الاحتجاجات لتحسين وضعها في معادلة توزيع القوة والثروة، كما هو حال بعض الجماعات الدينية كـ “عصائب أهل الحق” التي تسعى لتوظيف شرعية عضويتها في الحشد الشعبي من أجل تقوية وضعها السياسي عبر الدخول على خط الاحتجاج. لكن ما لا يقلّ وضوحاً هو أن الاستمرار المحتمل للأزمة الاقتصادية وتراجع الموارد يمهد لمرحلة جديدة من الصراع داخل “الجماعات” المفترضَة قد تؤشر إلى بدايات النهاية للقيم السياسية ومعادلات القوة التي أُسست لـعراق ما بعد 2003.

حارث حسن

صحيفة السفير العربي