حكيم الثورة الفلسطينية يتذكر.. قراءة في مذكرات جورج حبش

حكيم الثورة الفلسطينية يتذكر.. قراءة في مذكرات جورج حبش

george-1

إن من المتفق عليه بين نقاد الأدب أن فن السيرة الذاتية هو أحدث الأجناس الأدبية في الأدب العالمي، بيد أنّ تاريخ السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث لا يختلف عن تاريخ الأجناس السرديّة الأخرى، شأن الرّواية والقصّة القصيرة؛ فهي جنس مستحدث نتج عن عامل المثاقفة بحكم العلاقة بين الثّقافة الأوروبية والثّقافة العربيّة، وجاهد رواده حتى يحظى بالاهتمام والنقد اللازم لتطوره، مثلما تحظى بقية الأجناس الأدبية، لو عدنا قليلًا إلى تاريخ هذا الفن لوجدنا أن أول من كتب فيه الفيلسوف الفرنسي جان جاك رسو، الذي أرسى قواعده عام 1700م حين صدور “الاعترافات”، وتبعه بعد ذلك كثير من الأدباء والفلاسفة في أوروبا حتى إذا وصلت إلى أدبنا العربي وتمثلت في كتاب “الساق على الساق في ما هو الفرياق” لأحمد فارس الشدياق الذي صدر في باريس عام 1855 وحمله كثير من سيرته وملاحظاته اللغوية، وسرعان ما تعرف على هذا الفن جمعٌ من أدبائنا، لكن تبقى للدكتور طه حسين الريادة؛ فهو المؤسس الفعلي لهذا الفن في الأدب العربي الحديث، حينما صدر الجزء الأول من كتابه “الأيام” عام 1926م وتبعه الجزء الثاني الذي صدر عام 1939م، وهي أشهر سيرة ذاتية في الأدب العربي المعاصر.

ولعل هذا النجاح الذي حققته “الأيام” دفع كثيرًا من الأدباء لتسجيل حياتهم ونقل تجربتهم إلى الآخرين، ولاسيما الأجيال القادمة، وامتد هذا الفن فكتب الأديب المصري أحمد أمين “حياتي” 1950م، وكتب إبراهيم المازني “قصة حياة” عام 1961م، ثم كتب لطفي السيد “قصة حياتي” عام 1962م، وآخرهم عباس العقاد “أنا” عام 1964م، وكتاب “حياة قلم” عام 1965م، ومن ثم توفيق الحكيم يكتب “سجن العمر” عام 1967، وتصدر نوال السعداوي كتاب “مذكرات طبيبة” عام 1965م وهي أول امرأة تكتب سيرتها الذاتية. أما المفكر المصري الدكتور زكي نجيب محمود فقد كتب ثلاث سير ذاتية هي: “قصة نفس” و”قصة عقل” و”حصاد السنين”. وسرعان ما انتشر هذا الفن في البلاد العربية الأخرى؛ فهذا الأديب المهجري ميخائيل نعيمة يصدر سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء حملت عنوان “سبعون”، ويكتب نزار قباني “قصتي مع الشعر”، كما يصدر سهيل إدريس روايته الشهيرة “الحي اللاتيني”، التي هي جزء من حياته، كما يسجل المفكر المغربي محمد عابد الجابري سيرته في “حفريات في الذاكرة”، ويخرج الباحث والمحقق المعروف إحسان عبد القدوس سيرته “غربة الراعي” إلى جانب كتابه المهم عن فن السيرة الذاتية، كما تكتب الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان سيرتها “رحلة جبأحمدلية.. رحلة صعبة”، كما روت الشاعرة نازك الملائكة سيرتها الذاتية للكاتبة حياة شرارة وجاءت بعنوان “سيرة من حياة نازك الملائكة” وكذلك دوَّن الأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا سيرته في “البئر الأولى”.

هذا على صعيد الأدباء والمفكرين، أما الشخصيات السياسية في العالم العربي فجرت العادة أن يكتب بعض منهم سيرته الذاتية أثناء وجوده في المنصب؛ كنوع من الدعاية الذاتية، أو بعد الخروج من العمل السياسي؛ بهدف مراجعة المواقف والأفكار. وسيرة جورج حبش -أو الحكيم كما يحلو لمريديه أن يسموه- تصنف ضمن النوع الثاني؛ ففيها الكثير من الصراحة والمكاشفة للنفس والمراجعة للمواقف والآراء.

من الطفولة في فلسطين إلى الجامعة الأمريكية في بيروت

من البدايات الأولى للحكيم، حيث المولد في مدينة اللد الفلسطينية في عام 1925 لأسرة من طائفة الروم الأرثوذكس، ومن ثم تلقّى تعليمه الابتدائي والثانوي متنقلًا بين مدارس الإرساليات التبشيرية الأجنبية، وفي سن الطفولة المبكرة تفتح وعيه السياسي مع انطلاق الثورة الفلسطينية الكبرى بين الأعوام 1936-1939؛ حيث اندلعت الاشتباكات بين جموع الثوار الفلسطينيين وقوات الاحتلال البريطاني وظهر للشعب الفلسطيني ونخبه خطورة المشروع الاستيطاني المتحالف مع البريطانيين، وفي عام 1944 انتقل الحكيم لإتمام دراسته الجامعية في الطب بالجامعة الأمريكية في بيروت، التي كانت لها أهمية كبرى في حياة الحكيم السياسية؛ حيث التقى برفاق دربه مثل وديع حداد وأحمد الخطيب، وحضوره محاضرات المفكر السوري القومي قسطنطين زريق في النادي الاجتماعي بالجامعة.

في الجامعة، بدأ الجانب الثوري من شخصية حبش في الظهور؛ فمع قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 قام حبش ورفاقه بتنظيم الاحتجاجات التي وصلت إلى احتلال إحدى القاعات في الجامعة. ولم يكتف حبش والناشطون من الطلاب بالعمل السياسي فقط، بل أولوا اهتمامًا بالتثقيف الثوري والسياسي؛ فتولى الحكيم رئاسة جمعية العروة الوثقى التي جمعت بين أعضائها النواة التي شكلت فيما بعد حركة القوميين العرب.

بعد تخرجه من الجامعة، بدأ عمل حبش كأستاذ مساعد في علم الأنسجة بالجامعة الأمريكية أيضًا؛ إلا أن ميوله السياسية غلبت ميوله العلمية، فاستمر في قيادة الطلاب وتنظيم المظاهرات، التي أدت إلى اعتقاله مرات عديدة، ثم في عام 1951 قام مع عدد من زملائه -أحمد الخطيب (كويتي) وحامد الجبوري (عراقي) وصالح شبل (لبناني) وغيرهم- بتأسيس حركة القوميين العرب؛ التي كان من أهدافها قيام الوحدة العربية كشرط أساسي لتحرير فلسطين، وكانت بداية الحركة سرية إلى أن تم الإعلان عنها في عمان عام 1956.

تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

شكّل صعود المد القومي الناصري رافعة استثنائية للحركة القومية العربية وللنضال لتحرير فلسطين؛ فكان من البديهي إعجاب الحكيم وصحبه في الحركة القومية بعبد الناصر وتجربته، إلى أن فشلت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1961 وبعدها جاءت هزيمة 1967 التي أدت إلى قناعة قيادات الشعب الفلسطيني -ومن ضمنهم الحكيم- بضرورة أن يأخذ الشعب الفلسطيني زمام المبادرة من الأنظمة العربية، وأنه من الواجب أن يكون الفلسطينيون رأس حربة في الصراع مع إسرائيل؛ فانطلقت الثورة الفلسطينية وأُعلن عن تأسيس الجبهة الشعبية في ديسيمبر عام 1967، وبدأت الجبهة بإعداد الكوادر وتدريبها ومن ثمَ تنفيذ عمليات مسلحة داخل الأراضي المحتلة، وسنفصل في الخط العسكري للجبهة بشيء من التوسع لاحقًا.

رؤية الحكيم للعلاقات مع الدول العربية

من أكثر ما يميز الحركة الوطنية الفلسطينية عن حركات التحرر في دول الجنوب أنها لا تقاتل من أرضها، بل من أراضي دول عربية مجاورة؛ وهذا أدى إلى ضرورة أن تكون للحركة الوطنية الفلسطينية -وتحديدًا الجبهة الشعبية- رؤية للعلاقة مع هذه الأنظمة. وبحكم انتقال الحكيم للأردن شخصيًا، وتركز نشاط المقاومة انطلاقًا من الأراضي الأردنية في السنوات الأولى للثورة؛ فكان الأردن أول اختبار حقيقي لكيفية تعامل الأنظمة مع الثورة الفلسطينية.

كانت رؤية الحكيم أن النظام الأردني يسعى لتصفية الوجود الفلسطيني المسلح، تماهيًا مع السياسة الأمريكية في المنطقة. وعلى عكس عرفات، كان الحكيم أكثر راديكالية ويرى ضرورة الاشتباك مع ما وصفهم بـ”القوى الرجعية”، إلى أن وصلت الأمور إلى ما بات يعرف بـ”أيلول الأسود”؛ ومن ثم خروج المقاومة الفلسطينية إلى لبنان.

في لبنان أيضًا، شكل تحالف الحركة المقاومة الفلسطينية بشكل عام مع الحركة الوطنية اللبنانية -كمال جنبلاط تحديدًا- في مواجهة القوى الانعزالية -حزب الكتائب اللبناني وحلفاؤه- التي تحالفت علنًا مع إسرائيل؛ شكل هذا التحالف المشاركة الفلسطينية في الحرب الأهلية في لبنان، وكان الحكيم من المتحمسين للمشاركة في هذه الحرب؛ بهدف حماية الثورة الفلسطينية من الاجتثاث والطرد كما حدث في الأردن، ولحماية المخيمات الفلسطينية من التهجير والترانسفير، وكان الحكيم مدركًا أن هذه الحرب لها طابع طائفي وطبقي؛ فكان يشدد دومًا على علمانية الجبهة وتعاليها عن الصراعات الطائفية، ويحسب للحكيم هنا اعترافه بالتجاوزات التي حصلت من قوى الثورة الفلسطينية على المدنيين اللبنانيين، واعتبارها نقطة سوداء في تاريخ المقاومة الفلسطينية.

الخط العسكري للجبهة

كان الحكيم في المراحل الأولى لتأسيس الجبهة يولي الجانب السياسي والتعبوي أهمية كبيرة، وكان الجانب العسكري في الجبهة موكلًا لرفيق دربه المناضل المخضرم وديع حداد، الذي كان له طابع مميز في العمل العسكري تميز بالتخطيط الدقيق والتنفيذ المحكم والطابع السري للعمليات. ومن أبرز العمليات التي تميزت بها الجبهة في بداية السبعينيات هي خطف الطائرات؛ وكان هدف الجبهة من عمليات بهذا المستوى أن تلفت الانتباه العالمي للقضية الفلسطينية؛ بسبب التكتيم الإعلامي العالمي عن مأساة الفلسطينيين، ولمبادلة الأسرى في سجون الاحتلال. ولكن، في المؤتمر الثالث للجبهة الشعبية في عام 1972 تقرر وقف هذا الأسلوب من العمليات؛ وهذا القرار شكل ضربة في العلاقات بين مناضلين كبيرين من حجم الحكيم وحداد أدت إلى انفصال حداد وتشكيل ما تعرف بـ”الجبهة الشعبية- العمليات الخاصة”، التي استمرت في تنفيذ عمليات نوعية ضد الاحتلال، وآخرها عملية عنتيبي عام 1976.

“الأخ اللدود”.. العلاقات مع فتح وعرفات

بعد انتخاب عرفات رئيسًا لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1969، التي كانت تمثل المظلة السياسية لجميع الفصائل الفلسطينية، حاول عرفات أن يضم جميع الفصائل تحت جناحه، وكانت رؤية الحكيم لعرفات وطريقته في قيادة الشعب الفلسطيني مركبة جدًا. فبحسب الحكيم، كان عرفات شخصًا يجيد السباحة مع التيار، ويغرق في التفاصيل والتكتيك القصير وينسى الهدف البعيد، ولكن كان هناك إجماع على تمثيله للشعب الفلسطيني بأكمله. ومن الأمثلة على اختلاف وجهات النظر بينهما: قرار الخروج من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982؛ فكان الحكيم يرى ضرورة الخروج إلى دمشق، ويشكك في نوايا عرفات الذي آثر الخروج إلى تونس، وبعدها بسنوات قليلة بدأ عرفات بالمسار السلمي كما توقع الحكيم، وكذلك رؤية عرفات للانتفاضة كوسيلة لمواجهة الضغوط عليه، ورأى الحكيم أنها فرصة كبيرة للتحرر وإنجاز مشروع الدولة, وإذ كانت تجمع بين الرجلين علاقة صداقة رسختها سنون من العمل السياسي، ومعارك خاضاها سويًا كالصمود الأسطوري في بيروت المحاصرة عام 1982؛ فإن طريقة إدارة عرفات لشؤون منظمة التحرير قد أثارت استياء الحكيم وفصائل أخرى في المنظمة. فعرفات يجيد السيطرة على الجميع عن طريق التحكم في المخصصات المالية التي تصرف للفصائل كما ينص قانون المنظمة، بالإضافة إلى استفراد عرفات بالقرارات المصيرية واعتماده على الوسائل الدبلوماسية والتعويل على أمريكا بشكل مفرط؛ كل هذه العوامل أدت -بحسب الحكيم- إلى معاهدة أوسلو التي كانت إحدى أكبر الهزائم التي مُني بها النضال الفلسطيني على يد أبنائه أنفسهم.

العلاقة مع القوى الإسلامية

كان للحكيم موقفٌ متقدمٌ عن سائر القوى اليسارية لطبيعة العلاقة مع الحركات الإسلامية في المنطقة -حماس وحزب الله-؛ فكان يركز على المشتركات، وهي مقاومة الاحتلال بالدرجة الأولى، ومعارضتهم لمشروع التسوية، وفي ذات الوقت يغض الطرف عن الخوض في الأمور الدينية، مثل الحجاب وبعض العبادات الشخصية -التي انتشرت بين أفراد من الجبهة بحسب ملاحظة الحكيم ذاته-؛ حفاظًا على القاعدة الشعبية التي كانت ترى في الإسلام مكونًا أساسيًا في هويتها، وشيئًا فاعلًا لمواجهة الاحتلال والتيارات التغريبية في بلادنا، وكان الحكيم يصر على وجوب إعطاء الإسلاميين فرصة للحكم إذا وصلوا ديمقراطيًا إلى الحكم، منتقدًا الأنظمة العربية التي وصفها بالبوليسية واتهمها بتعطيل الديمقراطية في العالم العربي.

خاتمة

جاءت استقالة الحكيم من الأمانة العامة للجبهة الشعبية عام 2000 لتشكل سابقة في التاريخ السياسي الفلسطيني والعربي؛ إذ من النادر أن يتخلى مسؤول عن منصبه طوعًا ويسلمه لجيل لاحق بعده، وكذلك طوت الاستقالة مرحلة مهمة من تاريخ النضال الفلسطيني كان سدنتها الرعيل الأول للقادة الفلسطينيين بعد النكبة، وعلى رأسهم عرفات وحبش ووديع حداد وغيرهم، وإن كانت رؤية الحكيم للصراع تتمثل في “الخيار المرحلي” -أي القبول بدولة على حدود 67- والعمل على تحرير باقي الأراضي المحتلة عندما يتغير ميزان القوى؛ فإن هذه الرؤية هي نتيجة للظرف الدولي المتمثل في انهيار الاتحاد السوفيتي، والظرف المحلي المتمثل في واقع فلسطيني مقسم بين خيار التسوية الذي يدعي الواقعية وخيار التحرير يبدو صعبًا في أفق جيل رأى من الهزائم الكثير.

على صعيد آخر، فإن الكتاب ينقصه التفصيل في العمليات العسكرية للجبهة -ربما بسبب طبيعة موقع الحكيم السياسي- وأيضًا لا يخوض كثيرًا في أسباب التدهور في الحضور السياسي للحركات اليسارية الفلسطينية والعربية عمومًا لمصلحة صعود الإسلام السياسي، ولكن الكتاب يقربك من شخصية الحكيم على المستوى الإنساني، فضلًا عن أنه لا غنى عنه لأي دارس لتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وللحركة الوطنية الفلسطينية، ويذكرنا دائمًا بأن الثوريين لا يموتون أبدًا.

معتز غانم

التقرير