- List item 1
- List item 2
- List item 3
ما فتئ المشهد اللبناني يشد أنظار العالم بأحداث أليمة ومراحل تاريخية عصيبة، منذ الحرب الأهلية (1975-1990) وحتى يومنا هذا. عمليات اغتيال طالت قادة وشخصيات سياسية وصحافية بارزة.. اغتيل رئيسا جمهورية، هما رينيه معوض وبشير الجميل، ورئيسا وزراء، رشيد كرامي ورفيق الحريري، ورئيس الحزب التقدمي الوطني، كمال جنبلاط (1977).
وكذلك اغتيل الصحافي سليم اللوزي 1980، والصحافي رياض طه 1980، وراغب حرب، وهو شخصية إسلامية 1984، والعلامة صبحي الصالح 1986، ومحمد شقير 1987، والمفتي حسن خالد 1989، وإيلي حبيقة 2002.
وتضم القائمة أيضا باسل فليحان 2005، وجورج حاوي 2005، ووليد عبدو 2007، وأنطوان غانم 2007، وفرانسوا الحاج 2007، ووسام عيد 2008، ووسام الحسن 2012، ومحمد شطح 2013، وغيرهم.
صحيح أن اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، عام 2005، شكل منعطفا مفصليا خطيرا في تاريخ لبنان، لكن الانفجار المروع بمرفأ بيروت، في 4 أغسطس/ آب الجاري، أسفر عن جريمة أكثر فظاعة وأشد تأثيرا.
فقد هز بيروت انفجار كبير غير مسبوق بقوته، فأحدث حفرة بعمق 43 مترا، وفق خبراء فرنسيين في الحرائق أُرسلوا إلى المكان، وأدى إلى تدمير منطقة الميناء بأكمها، وكأن إعصارا مدمرا عصف بها.
شدة الانفجار تسببت بكسر الزجاج في معظم العاصمة بيروت، وتدمير مناطق بكاملها حول المرفأ، وسمع صوته على بعد 70 كلم، وشوهد دخانه من الحدود اللبنانية- السورية، على بعد 80 كلم.
المعهد الأمريكي للجيوفيزياء، ومقره في ولاية فيرجينيا، أعلن أن قوة الانفجار تعادل زلزالا بشدة 3.3 درجات على مقياس ريختر.
كما أسفر الانفجار عن مقتل أكثر من 170 شخصا وإصابة ما يزيد عن ستة آلاف، ولا يزال العشرات في عداد المفقودين.
الكارثة تسبب بها انفجار مستودع في المرفأ خُزن فيه 2700 طنّ من مادة “نيترات الأمونيوم” شديدة الانفجار منذ ست سنوات من دون إجراءات حماية، وفق رئيس الوزراء اللبناني، حسان دياب
هذه الكارثة تسبب بها انفجار مستودع في المرفأ خُزن فيه 2700 طنّ من مادة “نيترات الأمونيوم” شديدة الانفجار منذ ست سنوات من دون إجراءات حماية، وفق رئيس الوزراء اللبناني، حسان دياب، الذي تقدم باستقالته، في 10 أغسطس/ آب الجاري، على وقع الانفجار.
الفاعل مجهول
ثمة مؤشرات رافقت حادث التفجير أو/ وسبقته، جعلت منه حادثا غير اعتيادي، وأكثر من مجرد إهمال أو تقصير أو فشل إداري.
بل تعدى ذلك كله ليوجه الأنظار نحو المربع الأكبر، مربع الصراع الدائر في المنطقة عموما، ومنطقة شرقي البحر المتوسط على وجه الخصوص.
تزامن التفجير مع توتر متزايد على الحدود بين لبنان وإسرائيل، وحشود عسكرية للجيش الإسرائيلي وحديث (إسرائيلي) عن إفشال عملية تسلل (لجماعة “حزب الله” اللبنانية)، وتحليق شبه يومي للطيران الحربي الإسرائيلي في سماء بيروت ومدن جنوبي لبنان.
وقع الحادث قبل 72 ساعة فقط من موعد كان محددا لإعلان قرارات المحكمة الدولية في قضية اغتيال الحريري، وسط توقعات حينها بأن المحكمة ستحدد أسماء من “حزب االله” مسؤولة عن عملية الاغتيال، مما ستكون له ارتدادات كبيرة.
وبالفعل أعلنت المحكمة، الثلاثاء، إدانة سليم عياش (56 عاما)، وهو عضو في “حزب الله”، باغتيال الحريري، فيما برأت المتهمين الثلاثة الآخرين.
كما وقع التفجير في ظل تشديد الولايات المتحدة العقوبات على إيران وحلفائها في المنطقة، من خلال “قانون قيصر” والعقوبات المباشرة، وطرح واشنطن مشروع قرار في مجلس الأمن لتمديد حظر تصدير السلاح إلى طهران، وهو ما تعارضه دول مثل روسيا والصين.
تزامن التفجير مع ظروف اقتصادية بالغة القسوة، حيث وصل لبنان إلى حافة الإفلاس. وكذلك ظروف سياسية معقدة جدا نتج عنها استقطاب حاد في الشارع اللبناني.
تزامن التفجير مع ظروف اقتصادية بالغة القسوة، حيث وصل لبنان إلى حافة الإفلاس. وكذلك ظروف سياسية معقدة جدا نتج عنها استقطاب حاد في الشارع اللبناني.
هذا بالإضافة إلى معطيات فنية كثيرة تزيد من حدة الشكوك حول الأطراف الفاعلة، وتلقي الضوء في الوقت ذاته على مدى التعقيد الذي وصلت إليها معادلة الحكم في لبنان.
معطيات فنية مثيرة للانتباه:
1- البضاعة (نيترات الأمونيوم) موجودة في الميناء لمدة ست سنوات، ولا أحد من المسؤولين يملك معلومات عنها!
2- الباخرة التي نقلت المتفجرات مستأجرة من طرف ضابط روسي متقاعد مقيم في قبرص، تخلى عن باخرته ولم يطالب بأي تعويض عن قيمتها!
3- لا علاقة للبنان بالبضاعة من قريب أو بعيد، فلا هو مالك البضاعة ولا صاحب الباخرة ولا بلد الوصول له صلة بلبنان، وبالتالي لا يوجد أي سبب يبرر توقف الشحنة بميناء بيروت!
4- تخزين المتفجرات في جميع موانئ الدنيا ممنوع أساسا، وإدارات الموانئ لا تسمح بتاتا بتفريغ أي شحنة تحتوي على مواد حارقة أو متفجرة أو حتى قابلة للاشتعال.
فضلا عن ذلك، فإن عملية تخزين أي بضاعة في الميناء مكلفة جدا، وبقاؤها طيلة هذه المدة يعني أن كلفة التخزين بلغت ملايين الدولارات، وهذا لا يتصور حدوثه في أي مكان في العالم. والأدهى من ذلك هو عدم نقلها إلى مناطق غير مأهولة!
5- حكومة موزمبيق، التي قيل إنها جهة وصول “نترات الأمونيوم”، نفت علمها وصلتها بها!
هذه المؤشرات، وغيرها كثير، تشير بوضوح إلى أن “نترات الأمونيوم” ليست سوى وسيلة للتمويه، هدفها التغطية وصرف الأنظار عن نشاطات “حزب الله” القائم بأمره على ميناء بيروت كما مطارها.
في ظل سيطرة شبه تامة على ميناء بيروت، لا أحد حتى اللحظة يعلم على وجه التحديد ماذا يوجد في الميناء، ولا كيف حدث التفجير.. هل انفجر مخزن ذخائر كان بجانب “نترات الأمونيوم” ذاتيا أم بفعل فاعل؟
لا أحد حتى اللحظة يعلم على وجه التحديد ماذا يوجد في الميناء، ولا كيف حدث التفجير.. هل انفجر مخزن ذخائر كان بجانب “نترات الأمونيوم” ذاتيا أم بفعل فاعل؟!
للوهلة الأولى قيل مخزن مفرقعات، وقيل صاروخ إسرائيلي أُطلق من البحر! وقيل هجوم سيبرالي! لكن لا توجد معلومة موثقة حتى الآن.
“حزب الله” وتغيير قواعد الاشتباك مع إسرائيل
مع زيادة وتيرة الضربات الإسرائيلية- الأمريكية للأهداف الإيرانية الحساسة في سوريا، وعقب مقتل أحد قيادات “حزب الله” في إحدى ضواحي دمشق، قام الأخير، على خلاف ما جرت عليه العادة من تنسيق مسبق، بمحاولة للهجوم على أهداف إسرائيلية في مزارع شبعا وعند السياج الحدودي في القنيطرة.
لكن إسرئيل أحبطت الهجوم، وصدت المجموعة المهاجمة في القنيطرة.
عقب الحادثة أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، أنهم سيضربون البنية التحتية للبنان، إذا وقع قتلى أو جرحى بين الإسرائيليين.
التصريح اللافت صدر عن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عندما قال: “أصبنا الخلية المهاجمة، وأصبنا الذين أرسلوهم”.
وهو ما دفع مراقبين إلى اعتبار تصريح نتنياهو إشارة إلى أن إسرائيل هي التي فجرت ميناء بيروت، ولو بشكل غير مباشر.
كما خرج أمين عام “حزب الله”، حسن نصر الله، برد لافت، حين قال:” إذا ثبت أن إسرائيل هي التي ضربت الميناء، فسنقوم بالرد”.
تعود أسباب ارتفاع وتيرة الصراع بين إسرائيل و”حزب الله” إلى سعي الأخير لتغيير قواعد الاشتباك بين الطرفين، بإحداث نوع من التوازن في الرد على الهجمات الإسرائيلية ضد “حزب الله” وإيران في سوريا. لكن الطرف الإسرائيلي يرفض ذلك، ويهدد بضربات أكثر إيلاما.
قواعد الاشتباك الراهنة
على سبيل المثال، بعد اغتيال شخصيات كبيرة، مثل عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، تم التنسيق بين الطرفين، “حزب الله” وإسرائيل، على طريقة وشكل رد “حزب الله”، وتولت الوساطة والتنسيق بين الطرفين قوات الأمم المتحدة في لبنان (يونيفيل).
يومها اشترطت إسرائيل عدم سقوط قتلى أو جرحى إسرائيليين، وبناء على ذلك الاتفاق نفذ “حزب الله” عملية في شمالي إسرائيل، وزعم أنه أطلق صواريخ وقتل وجرح الكثير من القوات الإسرائيلية. لكن إسرائيل لم تعلق بقليل أو كثير، تطبيقا للاتفاق.
الأطراف الفاعلة
تداعيات تفجير ميناء بيروت
أولا: على الصعيد الداخلي
جاء تفجير ميناء بيروت ليعمق جراح لبنان، الذي يعاني أساسا من أزمة مالية واقتصادية وسياسية خانقة، وليضيف فوقها أزمة أخرى.
أصبح أمام الدولة اللبنانية أزمة إعادة الإعمار، أزمة كانت تتحمل دول الخليج عبئها الأكبر. واليوم لا دول الخليج معنية، ولا إيران قادرة على مد يد العون لإعادة الإعمار.
أصبح أمام الدولة اللبنانية أزمة إعادة الإعمار، أزمة كانت تتحمل دول الخليج عبئها الأكبر. واليوم لا دول الخليج معنية، ولا إيران قادرة على مد يد العون لإعادة الإعمار.
الشعب اللبناني بجميع طوائفه اتهم منظومة السلطة، منذ اللحظة الأولى للتفجير وحتى قبل الشروع بالتحقيق.
منظومة السلطة، التي تحكم لبنان منذ 2008، أفرزتها الحرب الغامضة عام 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل، والتي وضعت لبنان بكامله تحت سيطرة “حزب الله” وسطوة سلاحه.
آلاف المتظاهرين الغاضبين في لبنان اقتحموا مقرات وزارات عدة لفترة وجيزة، وتظاهروا وسط العاصمة، تحت شعار “يوم الحساب”، مطالبين بمعاقبة المسؤولين عن انفجار المرفأ.
ثانيا: الخسائر المادية
قال الرئيس اللبناني، ميشال عون، إن خسائر التفجير ربما تتجاوز 15 مليار دولار. ويرى خبراء أن انفجار ميناء بيروت، الذي أخرج أحد أهم مرافئ الشرق الأوسط عن الخدمة، ستكون له تداعيات سلبية كبيرة على الاقتصاد اللبناني المنهار أصلا.
وسيمتد تأثيره السلبي ليطال نظام بشار الأسد (في سوريا) أيضا، حيث يشكل لبنان رئته التي يتنفس بها، حيث فقد شريانا حيويا كان يمد الأسواق والمناطق الخاضعة لسيطرته بالطاقة والغذاء وقطع الغيار وغيرها من المواد الأساسية.
وبدأت التداعيات السلبية بالظهور خلال الأيام القليلة الماضية من خلال انخفاض سعر صرف الليرة مجددا وارتفاع الأسعار والنقص الحاد في السلع والمواد المعروضة في الأسواق.
ثالثا: تحرك دولي
أعقب الانفجار تحرك دولي، قادته فرنسا بدعم أوروبي وأمريكي، حيث قام الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بزيارة استعراضية للبنان، صاحبها تحرك عسكري في مياه البحر المتوسط، حيث توجهت حاملة طائرات فرنسية من قبرص اليونانية إلى قبالة شاطئ بيروت.
تركيا أيضا سارعت إلى التضامن مع لبنان، حيث توجه إلى بيروت بعد الحادث مباشرة، وفد رفيع المستوى، ضم نائب رئيس الجمهورية، فؤاد أوكتاي، ووزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو، وأعلنت أنقرة استعدادها لإعادة بناء مرفأ بيروت.
رابعا: التداعيات السياسية
ماكرون أعلن من موقع التفجير أنه يسعى إلى “تنظيم مساعدة دولية” للبنان بعد الأضرار الفادحة التي نتجت عنه، لكنه شدد على أن الدعم الذي ستقدمه باريس لن يذهب إلى “الأيدي الفاسدة”.
وقال إنه سيقترح على المسؤولين اللبنانيين “ميثاقا سياسيا جديدا” لـ”تغيير النظام”. وهذا يعني تغيير النظام السياسي في لبنان من دون إسقاطه، كما حدث في دول الربيع العربي. ماكرون والأمريكيون يريدون تغيير النهج والسلوك ومعالجة مشاكل لبنان المزمنة. بينما “حزب الله” ومنظومة السلطة وإيران يفهمونه تغييرا في الوجوه فقط.
ودعا ماكرون إلى حكومة توافق وطني، لكن “حزب الله” رحب بحكومة وطنية، ستكون تحت سيطرته وسطوة سلاحه.
لبنان بعد التفجير
الصدمة العنيفة التي أحدثها تفجير ميناء بيروت أزاحت الستار عن تعقيدات المشهد السياسي اللبناني، ليبرز حجم سيطرة إيران وذراعها “حزب الله” ومعها “حركة أمل” على منظومة السلطة في لبنان.
التحدي الكبير أو المعضلة التي تبدو عصية على الحل في لبنان، تتلخص في امتناع القوى الخارجية، الأمريكيون والأوربيون ودول الخليج، عن تقديم معونات اقتصادية معتبرة تنقذ لبنان من محنته، لأن “حزب الله” سيستفيد منها، لكونه يمتلك كافة الأدوات والوسائل التي تمكنه من السيطرة شبه التامة على أية حكومة قادمة، مهما كانت تشكيلتها وتركيبتها.
ولأن الأولوية اليوم هي إخراج لبنان من أزمته، فلا بد من توليفة مناسبة تستدعي التدخل الخارجي. من هنا جاءت فكرة إرسال 1000 جندي أمريكي و750 جندي فرنسي وأوروبي.
وهناك المبادرة التركية لإعادة إعمار ميناء بيروت.
وإذا تضافرت هذه الجهود العسكرية والاقتصادية، وتم سحب يد “حزب الله” عن ميناء بيروت ومطار بيروت الدولي، وإنهاء سيطرة عليهما، عندئذ يمكننا القول إن لبنان بدأ يرى النور من طرف النفق المظلم والحالة المحبطة التي يعيشها.
وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، نصح اللبنانيين بالصبر والمصابرة، بدل الاستعانة بالتدخل الخارجي، بحجة أنه سيفرض على لبنان قيودا وتدخلا في الشأن الداخلي.
اللبنانيون معنيون، ولو اضطراريا، لسماع ما تقوله طهران، فالوجود الإيراني ضارب بجذوره في بلدهم من خلال ذراعين، الأول هو “حزب الله” و”حركة أمل”، ومليشياتهما التي اخترقت الجيش اللبناني بشكل رئيسي وبقية مؤسسات الدولة اللبنانية، أما الذراع الثانية فتشكلها بقايا المنظومة التي أسسها النظام السوري خلال وجوده في لبنان لسنوات طويلة.
أدانت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، الثلاثاء، عضو “حزب الله” سليم عياش، باغتيال الحريري، بينما برأت المتهمين الثلاثة الآخرين، وقررت أنه لا دليل على أن “قيادة حزب الله” كان لها دور في الجريمة، وكذلك لا دليل مباشر على ضلوع النظام السوري.
عامة، لا أمل لأحد في عدالة تأخر قرارها 15 عاما، ولا يعول على حكم قضائي لا تكفله قوة. هو قرار شكلي فقط.
من تجليات القدر، أن النظام السوري و”حزب الله” وكل من وردت أسماؤهم في ملفات التحقيق بجريمة اغتيال الحريري، هم اليوم، كما لبنان، بأمس الحاجة لرفيق الحريري.
تدور عجلة الزمان، وتتجه الأنظار مرة أخرى إلى أحد أبناء رفيق الحريري (سعد)، لينقذ سفينة لبنان الغارقة في بحر التيه.. تلك الندامة، التي ما زالت تتكرر، وما زال بنو آدم يتجرعون مرارتها، كلما قتل قابيل هابيل، وكلما جاء الغراب ليريه كيف يواري سوأة أخيه. (الأناضول)