أثار إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أن اللقاح المضاد لفيروس “كورونا المستجد”، الذي طورته بلاده والذي أُطلق عليه “سبوتنيك 5″، قد أصبح متاحاً للاستخدام العام حالة من القلق والارتباك الشديدين في أوساط خبراء المناعة وعلماء الفيروسات في أنحاء العالم. ذلك أن الباحثين الروس الذين عملوا على تطوير اللقاح تجاهلوا المرحلة الثالثة من التجارب تماماً، واستعاضوا عنها بتجربته على أنفسهم.
مع ذلك، لم يُفاجأ المطَّلعون على تاريخ التجارب الطبية في روسيا (ومن قبلها الاتحاد السوفياتي) بالإنجاز السريع المتعلق باللقاح. فقد درج الباحثون الروس والسوفيات على عرفٍ طبي يقضي بإجراء التجارب المتعلقة باللقاحات على أنفسهم أولاً، وعلى أطفالهم إن لزم الأمر، واستبعاد التجارب السريرية العامة ما أمكن. لذا لم يكن غريباً أن يُصرح بوتين أن إحدى بناته قد تلقت بالفعل لقاح “سبوتنيك 5”.
وتحفَلُ السجلات الطبية الرسمية في موسكو بروايات تطوع آلاف المواطنين الروس خلال العقود الماضية عن طيب خاطر، للخضوع لتجارب على عقاقير ولقاحات مستحدثة رغم انعدام المعايير القياسية الطبية المعتمدة لدى الغرب، رغم أنها أدت في بعض الحالات إلى آثار جانبية خطيرة أصابت المتطوعين.في وقت مبكر من أبريل (نيسان) الماضي، حقن الدكتور ألكساندر غينزبورغ بمعية 100 من زملائه الباحثين أنفسهم بلقاح محتمل لفيروس كورونا المستجد عملوا على تطويره، من دون اختبار فعالية مادته على قرود المختبر. ويشغل غينزبورغ عالم الأحياء الدقيقة البالغ من العمر 68 عاماً، منصب مدير “معهد غاماليا لأبحاث الوبائيات والأحياء الدقيقة” الجهة المسؤولة عن تطوير لقاح مضاد لفيروس كورونا المستجد، وهو مركز أبحاث حكومي عريق يتبع وزارة الصحة الروسية تأسس عام 1891، وقام بتطوير لقاحات لعدد من الأمراض الوبائية مثل “إيبولا” على امتداد تاريخه حسب وكالة بلومبيرغ. وقد سُمي المعهد كذلك تيمُّناً بالعالم الروسي الفذ نيكولاي غاماليا (1859-1949)، رائد علوم الأحياء الدقيقة واللقاحات في روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي.
تضمن اللقاح الذي طوره غينزبورغ، إدماج مادة وراثية من فيروس “سارس-كوف-2” (المُسبب لمرض كورونا المستجد) داخل غلاف فيروس آخر غير ضار، ليُستعمل كناقل جيني، من أجل تحفيز جهاز المناعة البشري لإنتاج الأجسام المضادة. وتنقل مجلة “شبيغل” عن غينزبورغ، الذي لا يعتريه القلق جراء حقن نفسه بمادة لم تخضع لتجارب كافية، قوله إن شهوراً مرت منذ أن جرَّب بمعية زملائه اللقاح، وأنهم جميعاً ما زالوا يتمتعون بصحة جيدة. وفي حين يبدو تصرف غينزبورغ وزملائه سلوكاً علمياً متهوراً في نظر علماء الغرب، إلا أن الواقع هو أن أفكار الرجل تندرج ضمن إطار تقاليد طبية روسية عريقة يُطلق عليها “التجارب الذاتية”.
ويعد عالمي الفيروسات المتزوجين، مارينا فوروتشيلوفا وميخائيل تشوماكوف، من أبرز رواد “التجارب الذاتية” للقاحات، وقد أصبحا رمزاً لهذه الممارسة خلال الحقبة السوفياتية حسب ما تروي دورية “ذي ساينتيست”؛ ففي خمسينيات القرن الماضي، أسس تشوماكوف “معهد أبحاث شلل الأطفال”، تزامناً مع قيام الباحث الأميركي ألبرت سابين بتطوير لقاح يعتمد على “فيروس شلل الأطفال الحي المُوَهَّن” في الولايات المتحدة. لكن سابين واجه معارضة قوية من لدن السلطات الصحية في واشنطن التي ترددت في السماح له بإجراء تجارب سريرية اعتماداً على فيروس حي، إذ كان لقاح شلل الأطفال باستخدام فيروس مُعطَّل قيد الاستخدام الفعلي.
في عام 1955، ومع وصول أبحاثه السريرية إلى حائط مسدود، مرّر سابين سلالة ثلاثية من “فيروس شلل الأطفال الحي المُوَهَّن” لمعاصره السوفياتي تشوماكوف. وفي عام 1959، أقدم كل من تشوماكوف وفوروتشيلوفا على تجربة اللقاح على نفيسهما. ولكن نظراً لأن اللقاح كان مخصصاً للأطفال فقد احتاجا إلى اختباره على متطوعين من صغار السن. ومع محدودية الخيارات أمامهما، لم يجد الزوجان حرجاً في إعطاء مكعبات سكر مخلوطة بـ”فيروس شلل الأطفال الحي المُوَهَّن” لأبنائهما الثلاثة إضافة إلى جميع أبناء وبنات الإخوة والأخوات. وقد مكنّت هذه التجربة الذاتية الجريئة تشوماكوف من إقناع أناستاس ميكويان، المسؤول السوفياتي الكبير آنذاك، بالمضي قدماً في تجارب عامة أوسع، مما أدى في نهاية الأمر إلى اعتماد اللقاح وإصدار صلاحية الإنتاج الكمي واسع النطاق، ليصبح هذا الترياق الفموي لقاح شلل الأطفال المستخدم حتى يومنا في جميع أنحاء العالم.
وبعد عقود على هذه التجربة الذاتية، أجرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقابلة مع بيتر تشوماكوف، أحد أبناء تشوماكوف وفوروتشيلوفا الثلاثة الذي كان موضوع التجربة عام 1959 والذي أصبح باحثاً في علم الأحياء مثل والديه. يقول بيتر إنه “يجب أن يكون ثمة متطوع ٍأولٍ ما. لستُ غاضباً أبداً. من الجيد أن يكون لديك هكذا أب، يثق بدرجة كافية من أن ما يفعله صحيح فهو لن يؤذي أطفاله”.
تُعد “التجارب الذاتية” للعقاقير واللقاحات ممارسة راسخة في تاريخ البحث الطبي، لكنها تراجعت بشكل كبير في جميع أنحاء العالم. لكن الحال في روسيا حيث تزدهر هذه التجارب مختلف، فهو لا يقتصر على الباحثين فحسب؛ إذ ما فتئ جمهور العامة الروسي يُظهر حماسه للتجارب الطبية. وقد دفع هذا الحماس شركات الأدوية الكبرى بما في ذلك “باير” و”نوفو نورديسك” و”فايزر” و”إيلي ليلي” ابتداءً من عام 2012، إلى اعتماد روسيا مختبراً مفتوحاً لتجارب عقاقيرها السريرية وسط ظروف لا تخضع لأي تنظيم معياري معتمد من لدن السلطات. وقد التحق آلاف من المواطنين الروس بهذه التجارب السريرية في إطار من المنفعة المشتركة للطرفين، فبينما توفر شركات الأدوية الكبرى الأموال الطائلة عبر تجاوزها المعايير الأخلاقية والمختبرية الصارمة المفروضة لدى البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، يُمثّل الأمر فرصة نادرة للمواطنين الروس للوصول إلى خدمات رعاية صحية حديثة.
ويمتلئ التاريخ الروسي والسوفياتي الحديث بممارسات مماثلة كان أبطالَها علماء ومواطنون على حد سواء أخضعوا أنفسهم إلى تجارب ذاتية متطرفة، استناداً إلى أفكار فلسفية مثالية تعتمد في كثير من الأحيان على شعورٍ وزهوٍ غريبين بما يُسمى “الاستثناء الروسي”. وتعود جذور هذه الفلسفة إلى منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأ العديد من الروس في تبني فكرة الخضوع إلى تجارب طبية قد تحولهم إلى بشر خالدين. وقد كتب الفيلسوف الروسي نيكولاي فيدوروف أطروحة في ذلك الوقت تمحورت حول كيفية تجاوز الوقت والموت والتحرك نحو الخلود فيما لو ركز البشر كل طاقاتهم. وتقول الكاتبة صوفي بينكمان في مقالة لها على موقع “ذي برينت” إن “ألكسندر بوغدانوف، كاتب الخيال العلمي البلشفي البارز، كان مهووساً بمسألة (تجديد الشباب) عن طريق تبادل دماء صغار السن مع كبار السن في عشرينيات القرن الماضي، كوسيلة من وسائل التضامن الاجتماعي بين البشر”. لكن بوغدانوف توفي بعد وقت قصير من تبادل الدم مع طالب مصاب بالسل.
على مدى العقود اللاحقة ورث العديد من الروس عقيدة بوغدانوف الفلسفية التي وجدت موطئ قدم في روسيا الرئيس فلاديمير بوتين. إذ يُموِّل اليوم “المجلس الرئاسي الروسي” منظمة تدعى NeuroNet، التي تتبنى فكرة تعزيز قدرات البشر وخصائصهم بديلاً عن فكرة الخلود. ويسعى القائمون على هذه المنظمة إلى “ربط الجنس البشري بأكمله عن طريق استخدام وصلات الدماغ العصبية وتشبيك عقول البشر بعضها بعضاً بشكل أساسي”.
تؤدي مثل هذه الاعتقادات الطبية المدعومة بأفكار فلسفية مثالية غالباً، إلى شعور غريب بالاستثناء الروسي. ويخشى كثيرون من إمكانية استخدام هذه الاعتقادات لأغراض الدعاية السياسية، وأن تفعل روسيا بلقاحها المضاد لكورونا اليوم، ما فعله الاتحاد السوفياتي عام 1957 عندما حقق الريادة العلمية بعد ما أرسل أول قمر اصطناعي إلى مدار الأرض، وأطلق عليه اسم “سبوتنيك”.
محمد طاهر
اندبندت عربي