مصر تعيد صياغة علاقتها بالسودان عبر سياسة المساعدات

مصر تعيد صياغة علاقتها بالسودان عبر سياسة المساعدات

سعت دوائر صنع القرار في مصر إلى توظيف الكارثة التي حلت بالسودان بسبب الفيضانات التي غمرت مناطق شاسعة من أراضيه، عبر تحريك دبلوماسية المساعدات في مسعى يرمي إلى ملامسة مشاعر الناس وقياس انعكاسات ذلك على النخبة السياسية، بهدف بناء جسور تعاون جديدة مع الخرطوم تؤسس لعلاقات مستقرة ومستدامة بين البلدين، وتطوي كل اللبس الحاصل في عدة ملفات إقليمية.

القاهرة – تتسابق دول عديدة لمساعدة السودان في كارثة السيول والفيضانات التي حلت بعدد من الولايات وخلفت دمارا في منازل مواطنين بسطاء. ومع التقدير الإنساني للجهد الذي تقوم به الدول، لكن ذلك لا يخلو من أغراض تفيد في تعزيز العلاقات السياسية.

وقد زاد هذا النوع من التوجهات في التفاعلات الإقليمية والدولية مع انتشار وباء فايروس كورونا المستجد، وحرصت الكثير من الدول على مد يد العون من باب التكاتف والتلاحم وأشياء أخرى.

ويمكن قياس حجم وسرعة المساعدات بدرجة التقارب السياسي، والأهداف التي تنطوي عليها، فكلما كانت العلاقات المشتركة جيدة ومنسجمة زادت المساعدات، وكلما تعاظمت الأهداف اصطحبت تعاطفا إنسانيا ظهر في شكل سخاء مصحوب بدعاية إعلامية تبرزه، وهناك من يحاولون تضخيم الأمر لتوصيل رسائل معينة.

وربما يكون السودان في وضع بائس لا يخوّل له الفرز السياسي الدقيق في هذه اللحظات الحرجة، حيث أطلقت بعثته الدائمة لدى الأمم المتحدة في جنيف الثلاثاء الماضي نداء عاجلا للمنظمات الدولية لإغاثة المتضررين من السيول والفيضانات في البلاد.

غير أن النتيجة التي ستخرج بها الخرطوم من هذه المحنة يمكن أن تعزز علاقاتها مع بعض الدول، ولاسيما في محيطها العربي والإقليمي، لأن الكارثة متعاظمة، وسوف تترك بصماتها على قطاع كبير من المواطنين.

وفعلّت مصر، مثل دول كثيرة، من آلية المساعدات الإنسانية مؤخرا مع السودان وغيره، ووجدت فيها وسيلة مناسبة لتطوير العلاقات، على اختلاف أشكالها، وتعويض الكسل والإهمال السياسي، وسوء الفهم الذي طغى فترة طويلة على تصوراتها حيال دول أفريقية.

دبلوماسية المساعدات

تحمل دبلوماسية المساعدات مزايا عديدة تجعلها أكثر تأثيرا من نظيرتها العادية، لأن الأولى تخاطب المواطنين وتداعياتها صريحة ومباشرة على شريحة واسعة منهم، وأي انطباعات إيجابية تتكون لديهم سوف تحمل مردودات على مستوى النخبة، بينما الثانية، ليس بالضرورة أن تؤدي إلى انعكاسات على هؤلاء وتنحصر غالبا في القمة.

ويكمن أحد التعقيدات الشائكة بين القاهرة والخرطوم في جزئية المواطنين، فإذا كانت السلطة الانتقالية الحاكمة في السودان تملك رصيدا جيدا من العلاقات مع مصر فهي تبدو على المستوى الشعبي أقل من ذلك بكثير، وتخضخ لضغوط متفاوتة.

ونجح نظام الرئيس السابق عمر البشير في توسيع الهوة السياسية مع القاهرة، وقامت وسائل الإعلام في عهده بعملية تجريف متعمدة، أوجدت حيزا كبيرا من التشويش، وجعلت كل خطوة سياسية تقوم بها القاهرة نحو الخرطوم محل شكوك وهواجس.

وظهرت على الصفحات الخاصة للكثير من المهتمين بشأن العلاقات مع السودان في القاهرة دعوات حثيثة إلى استثمار فرصة السيول والفيضانات في إعادة صياغة صورة المصري عموما في الذهنية السودانية، حيث تعرضت لتآكل السنوات الماضية، حمل انعكاسات سلبية على حزمة من التوجهات السياسية، أضرت نتائجها بالأمن القومي.

السودان عدل موقفه بناء على حسابات المكاسب والخسائر الخاصة به وليس انحيازا للقاهرة

ولدى فئة كبيرة من السودانيين انطباعات ترفض أي تدخل مصري في شؤونهم، لأنه ينطوي في ذاكرتهم على مكونات أمنية غامضة، وهي الصيغة التي اعتادت القاهرة على مدار فترة حكم البشير على التعامل بها مع الخرطوم، التي انغمست في أزمات معها بسبب احتضانها لجماعات إرهابية، وتورطها في عمليات إجرامية داخل مصر.

وطويت الكثير من هذه الصفحات القاتمة بعد الثورة على البشير، ولم تطو كل الرواسب السياسية التي خلفتها، وأثرت على رغبة القاهرة في بناء روابط تنطلق من مساحة كبيرة من القواسم المشتركة، لأن هناك قوى وأحزابا تستنفر همم الشعب السوداني.

وكلما لاحت في الأفق رغبة رسمية في تطوير العلاقات، أو هبت نسمات هواء من القاهرة باتجاه فتح صفحة تتجاوز ميراث ماض بغيض، ظهرت أعراض للإضرار بمصالح مصر، ففي أزمة سد النهضة اتخذ سودان البشير موقفا مؤيدا لإثيوبيا، وهو يحمل في جزء منه ضغينة للقاهرة.

وعدلت الخرطوم موقفها أخيرا، انطلاقا من معطيات تتعلق بحسابات المكاسب والخسائر الخاصة بها، وليس انحيازا للقاهرة، التي وجدت الأخيرة متهمة بالضغط على السلطة الانتقالية.

وتيقنت السلطات السودانية أن هذه الورقة سوف تظل تلاحقها كعقبة تقف حائلا أمام ضبط العلاقات بين البلدين، ووجدت في التركيز على ملف المساعدات الإنسانية بابا يمكن أن تفتح به الكثير من المتاريس التي تراكمت في البلاد طيلة ثلاثة عقود من حكم البشير.

لا توجد أرقام محددة حول حجم المساعدات التي قدمتها مصر في أزمتي كورونا والسيول حتى الآن، لكن في كل يوم يتم الإعلان عن طائرات تتجه من القاهرة إلى الخرطوم تحمل مساعدات مختلفة وكميات ليست قليلة من المؤن الضرورية، مع رغبة ظاهرة في تخفيف الأعباء عن المواطنين في جنوب الوادي.

وهذا يعني أن هناك استعدادا جادا من طرف مصر، يتخطى دبلوماسية المساعدات، بعدم ترك السودان يعاني بمفرده في خضم ما يعانيه من مشاكل اقتصادية وانقسامات بين الأطياف السياسية، ومن الضروري أن تصل المعونات إلى المواطنين ويشعرون بالتكاتف المصري، فتكفي الصور التي تتناقلها وسائل الإعلام لبيوت تنهار وأخرى تغمرها بمن فيها السيول للتعرف على عمق المأساة.

ويسد الدخول المصري من باب الفيضانات التي غمرت أجزاء واسعة من السودان خلال الأيام الأخيرة اتهامات أطلقت عشوائيا أو على استحياء، وبدأت تتوسع، بشأن أن مصر تعمدت إغراق السودان جرّاء فتح بوابات السد العالي الذي يقع في جنوب مصر.

وهي قضية مقصود بها إبعاد شبح اللوم على إثيوبيا التي ملأت منفردة المرحلة الأولى من سد النهضة، ووضعه على عاتق مصر، لخلق أرضية توتر والقيام بالأخذ والرد معها، وقطع الطريق عليها لمد الخرطوم بمساعدات إضافية، باتت تحتل أولوية في التحركات المصرية، تمهيدا لرفض الحديث مقدما عن الاتجاه نحو التعاون في عملية بناء سدود تقي البلاد شرور السيول مرة أخرى.

وتعتزم الخرطوم بناء عدد من السدود على مجرى نهر النيل، ووضعت دراسات جدوى متباينة حول هذه المسألة منذ فترة، وبعد التعقيدات التي دخلها ملف سد النهضة منذ سنوات تمهل السودان في التنفيذ، فضلا عن أسباب تخص التمويل.

ومن المرجح أن تفجر الفيضانات هذه القضية، ويتم طرحها لاحقا لحماية السودان، وهو ما يزيد معاناة مصر، فإذا كانت تشكو من تأثيرات سد النهضة، وتجد صعوبة في التفاهم مع إثيوبيا على ضوابط الملء والتشغيل، ففتح الملف في الخرطوم يمكن أن يضاعف المعاناة، ما لم تكن العلاقات وثيقة مع السودان.

وتريد القاهرة أن يكون بناء السدود بالاتفاق معها، لتحاشي وقوع أضرار بها، وأعلنت تأييدها لسد النهضة كمشروع تنموي لا يؤثر على حصتها من مياه نهر النيل التاريخية، والموقف ذاته مع السودان، غير أن الاستفادة من التجربة الإثيوبية تفرض تقديم تضحيات للخرطوم لبناء مشروعات وفقا لقاعدة لا ضرر ولا ضرار.

وفي حال نجحت القاهرة في تغيير صورتها الذهنية لدى السودانيين، فمن الممكن أن تشهد علاقاتها مع الخرطوم تطورا كبيرا، أما إذا بقيت أثيرة للعقد السابقة فلن تجني ثمارا من وراء المساعدات التي قدمتها أو تعتزم تقديمها.

وتبدو نقطة البدء أو الإصلاح، هي أن يلمس السودانيون وجود تغير حقيقي في توجهات القاهرة، ما يستلزم جهدا لمواجهة الدعاية المضادة، فمهما اتسع نطاق المعونات سوف يبقى تأثيرها محدودا، طالما بقي نشاط من يعملون ضد المصالح المصرية، ووجدوا ثغرات عملية ينفذون منها.

العرب