بعد زيارةٍ أولى لبيروت، عقب الإنفجار الذي دمّر مرفأ المدينة في مطلع آب/ أغسطس 2020، عاد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى لبنان، لمتابعة تنفيذ خطة “الإصلاحات” التي كان قد اقترحها في زيارته الأولى، بما فيها تشكيل حكومة. لقد أُثيرت تساؤلات عديدة حول حدود التدخل الفرنسي، ومساعي ماكرون بشأن الاستفادة من الأوضاع للظهور بمظهر الرئيس القوي، وتوسيع النفوذ الفرنسي إلى حد محاولة فرضِ نوعٍ من الوصاية على لبنان واللبنانيين، من دون تقديم أي مساعدة حقيقية للبنان.
“خطة ماكرون”
قبل وصول ماكرون إلى بيروت، قام السفير الفرنسي في لبنان، برونو فوشيه، بتسليم “ورقة أفكار” إلى الرئيس اللبناني، ميشيل عون، ورئيس البرلمان، نبيه بري، اشتملت على أربعة محاور رئيسة لمناقشتها خلال زيارة ماكرون: قضية المساعدات الإنسانية، وإعادة إعمار ما دمّره انفجار المرفأ، والإصلاحات السياسية والاقتصادية الملحّة، وإجراءات مواجهة جائحة “كوفيد – 19”. كما أكدت الخطة خطوات “ينبغي” القيام بها: تشكيل حكومة مؤقتة قادرة على تنفيذ إصلاحات عاجلة، وإجراء تحقيق محايد في انفجار المرفأ، وسَنّ البرلمان قوانين تدعم الفترة الانتقالية، وإشراف الأمم المتحدة على توزيع المساعدات الإنسانية الدولية، وإجراء تدقيقٍ في معاملات البنك المركزي، وإحراز تقدّم في محادثات صندوق النقد الدولي، وإصلاح قطاع الكهرباء، وإجراء تدقيق فوري وشامل في المالية العامة للدولة. وبدا واضحًا، من خلال تفاصيل الخطة، أن باريس ستؤدي دورًا رئيسًا في الإشراف على كل ما يتصل بهذه القضايا؛ ابتداءً من عملية إعادة إعمار مرفأ بيروت، وصولًا إلى تنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية والمالية والبرلمانية والتشريعية والصحية.
نزوع الوصاية الفرنسية
حاول ماكرون، خلال زيارته الأولى لبيروت، استغلال انكشاف المشهد السياسي والاقتصادي اللبناني، بسبب حالة العجز والفساد والإهمال التي نتج منها انفجار المرفأ، لمحاولة فرض نوعٍ من الوصاية على لبنان، فدعا إلى إنشاء “نظام سياسي جديد”، وتعهَّد بقيام بلده، بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي، بتنظيم مؤتمر دولي لدعم لبنان، وقال إنه سيتأكّد من “إرسال المساعدات مباشرةً إلى منظمات الإغاثة العاملة على الأرض”، وعلل ذلك بأن فرنسا “لن تعطي شيكًا على بياض لسلطة فقَدت ثقة شعبها”. ولتأكيد ذلك، أوضحت الرئاسة الفرنسية أن مؤتمر المانحين من أجل لبنان الذي استضافته باريس في آب/ أغسطس الماضي “لن يسعى فقط للحصول على تعهدات من المشاركين بالمساعدات، بل سيقرّر أيضًا كيفية توزيعها”.
حاول ماكرون، خلال زيارته الأولى لبيروت، استغلال انكشاف المشهد السياسي والاقتصادي اللبناني، بسبب حالة العجز والفساد والإهمال التي نتج منها انفجار المرفأ، لمحاولة فرض نوعٍ من الوصاية على لبنان
وخلال زيارته الثانية لُبنان، قال ماكرون إنّ هدفه هو متابعة ما اتفق عليه في زيارته الأولى مع المسؤولين اللبنانيين، وإنّه جاء “للتأكّد من أنه سيتم تشكيل حكومة مهمّتها إنقاذ لبنان وإطلاق الإصلاحات، ومكافحة الفساد ومعالجة ملف الطاقة وإعادة الإعمار”. وهدَّد ماكرون بفرض عقوباتٍ، إنْ لم يسارع لبنان إلى تطبيق خطته المتعلقة بـ “الإصلاحات”، وأمهل السياسيين اللبنانيين إلى نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2020، قائلًا: “إن المساعدات ستحجب عن لبنان، وستفرض عقوبات” إنْ أخفقوا في فعل ما ينبغي.
وكان رؤساء وزراء لبنان السابقون نجيب ميقاتي، وتمام سلام، وسعد الحريري، وفؤاد السنيورة، قد اتفقوا قبل يوم من وصول ماكرون إلى بيروت، في 1 أيلول/ سبتمبر 2020، على تسمية السفير مصطفى أديب لرئاسة الحكومة. ولم يتمكّن المجتمعون من تسمية الحريري؛ لأن جبران باسيل اشترط الموافقة على عودة الحريري بعودته هو أيضًا، وهذا الأمر رفضه الحريري. وفي اليوم التالي، حصل أديب على تكليفٍ رسمي من الرئيس عون بعد تسميته من 90 نائبًا من أصل 120 من النواب الذين شاركوا في الاستشارات النيابية الملزمة. وقد حظي أديب بتأييد الكتل الرئيسة في البرلمان؛ بما فيها “كتلة الوفاء للمقاومة” الممثلة لحزب الله، و”كتلة التنمية والتحرير” الممثلة لحركة أمل، و”تكتل لبنان القوي” الممثل للتيار الوطني الحر، و”كتلة المستقبل” الممثلة لتيار المستقبل.
دوافع ماكرون وحساباته
وجد ماكرون الطامح إلى استعادة فرنسا دورها في شرق البحر الأبيض المتوسط (مستفيدًا من فقدان الثقة بالنخبة السياسية الممثلة لزعماء الطوائف واتهامات الفساد والإهمال التي تلاحقها، فضلًا عن هشاشة مؤسسات الدولة اللبنانية وعجزها، والأزمات الاقتصادية والمالية والصحية المتراكمة، التي تضاعفت مع انفجار المرفأ) في ظرف الأزمة التي يعيشها لبنان فرصةً لتعزيز مواقع بلده في التنافس الذي أخذ يحتدم حول شرق المتوسط وثرواته الطبيعية. ومنذ مطلع آب/ أغسطس الماضي، تصاعد التوتر في منطقة شرق المتوسط، حول الحدود البحرية وحقوق التنقيب عن الغاز، بين تركيا من جهة، واليونان وقبرص اليونانية من جهة أخرى. وعلى خلفية هذا التوتر الذي حفّزه توقيع تركيا اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، وتوقيع اليونان اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع مصر، أعلنت فرنسا، في إطار خطتها لدعم وجودها العسكري في المنطقة، عن نشر قوات بحرية وجوية بصفة مؤقتة، مع إجراء مناوراتٍ عسكرية مع اليونان وإيطاليا وقبرص في شرق المتوسط.
وجد ماكرون الطامح إلى استعادة فرنسا دورها في شرق البحر الأبيض المتوسط في ظرف الأزمة التي يعيشها لبنان فرصةً لتعزيز مواقع بلده في التنافس الذي أخذ يحتدم حول شرق المتوسط وثرواته الطبيعية
وقد اقترن ذلك بتنامي الحضور العسكري والاستخباراتي الفرنسي في بيروت منذ حادثة انفجار المرفأ؛ إذ أرسلت فرنسا إلى بيروت حاملة المروحيات “تونير” التابعة للبحرية الفرنسية مُحمَّلةً بنحو مائة طن من المساعدات الغذائية والمعدّات الطبية وتجهيزات البناء، فضلًا عن نحو 750 جنديًّا فرنسيًّا. وبعد عدة أيام، وصلت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورنس بارلي، إلى بيروت، وطالبت في أثناء زيارتها المرفأ بضرورة الإسراع في تشكيل حكومة قادرة على اتخاذ ما وصفتها “قرارات شجاعة”. وأخيرًا، ومع وصول ماكرون إلى بيروت، برز دور مدير المخابرات الفرنسية، برنار إيمييه، في ترويج خطة الإصلاحات الفرنسية، ولا سيما من خلال دوره في حثّ السياسيين اللبنانيين على ضرورة الإسراع في تنفيذ الخطة التي يُشرف عليها الرئيس الفرنسي، وأهمها تشكيل حكومة جديدة.
وقد بدا لافتًا، قيام مسؤولين عسكريين واستخباراتيين بهذا الدور، بدلًا من سياسيين ودبلوماسيين فرنسيين، وهذا يعني أن الوجود الفرنسي في لبنان يحمل دلالاتٍ أبعد من كونها مساعدةً لِلُبنان على تجاوز أزمته السياسية والاقتصادية، وتقديم مساعدات إغاثية إلى اللبنانيين. وما يعزّز هذا الاحتمال أن الوجود العسكري الفرنسي في لبنان يأتي في سياق محاولات فرنسا تعزيز وجودها في منطقة شرق المتوسط. لذا، يسعى ماكرون إلى تثبيت النفوذ الفرنسي في لبنان من بوابة تأمين الاستقرار السياسي فيه. أمّا “الثمن”، فهو الاعتراف الفرنسي بدور حزب الله ووزنه داخل لبنان؛ من جهة أنّ الاستقرار يساعد في تأكيد حضور فرنسا باعتبارها ضامنًا لهذا الاستقرار، وذلك بعد أن احتكرت هذه الأدوار من قبلُ كلٌّ من سورية، والسعودية، وإيران، والولايات المتحدة. ويُبيِّن الاعتراف بدور حزب الله أنّ فرنسا تُقدِّم الخلاف، أو الصراع، مع تركيا على الخلاف مع إيران.
العقدة الأميركية
في مقابل محاولة فرنسا الاستفادة من الوضع اللبناني المأزوم لفرض نوع من الوصاية على البلد، يبرز موقف أميركي يرى في حادثة انفجار المرفأ فرصةً لفَرْض مزيد من الضغوط على إيران، وما تعتبره الولايات المتحدة ذراعًا لإيران في لبنان، “حزب الله”. ويمثل هذا الموقف الأميركي تهديدًا لخطة الإصلاح الفرنسية التي يعتمد نجاحها على تعاون إيران وحزب الله. ولتجنب الاصطدام بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وكسب تأييدها الضروري من أجل الحصول على قروض ملحّة من صندوق النقد الدولي لمساعدة لبنان، أخذت فرنسا تقترب من الموقف الأميركي بخصوص طبيعة الحكومة اللبنانية الجديدة، فبعد دعوته إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية عقب زيارته الأولى بيروت، بدا ماكرون كأنه يدفع في اتجاه حكومة انتقالية تشتمل في صفوفها على “تكنوقراط”، بدلًا من شخصياتٍ حزبية وسياسية. والحقيقة أنّ تشكيلَ حكومة وحدة قد تعثَّر لبنانيًّا.
يحاول ماكرون، الاستفادة من ظروف الأزمة التي يواجهها لبنان، ومِن حاجة اللبنانيين إلى المساعدة، إضافةً إلى فشل نظام المحاصصة الطائفي الذي أنشأته فرنسا نفسها
كان ماكرون قد التقى، خلال زيارته الأولى بيروت، رئيس الكتلة النيابية لحزب الله اللبناني، محمد رعد، في محاولةٍ منه لفتح الطريق أمام مشاركة الحزب في خطة الإصلاح الفرنسية، وهو أمرٌ لم يترك أثرًا إيجابيًّا لدى الولايات المتحدة. وقد صرّح مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، خلال زيارته بيروت، في 2 أيلول/ سبتمبر 2020، أنّ الإدارة الأميركية تفكّر في فرض عقوباتٍ على الشخصيات اللبنانية المتعاونة مع حزب الله، وأنّ بلاده وإنْ كانت تثمّن الجهود الفرنسية، فإنها “لا تعتبر حزب الله تنظيمًا سياسيًّا مشروعًا، ولا ترى أنه يميل إلى الإصلاح”. ومن غير الواضح إنْ كانت فرنسا ستسعى إلى التفاهم مع الولايات المتحدة، حتى تتمكّن من إنفاذ خطتها لـ “إنقاذ” لبنان، أو أنها ستستغل مرحلة الانتخابات الأميركية للمضي في خطتها.
خاتمة
يحاول الرئيس الفرنسي، ماكرون، الاستفادة من ظروف الأزمة التي يواجهها لبنان، ومِن حاجة اللبنانيين إلى المساعدة، إضافةً إلى فشل نظام المحاصصة الطائفي الذي أنشأته فرنسا نفسها قبل خروجها من لبنان (عام 1943)، لإعادة فرض نوعٍ من الوصاية على لبنان واللبنانيين. ولتحقيق ذلك، يسعى ماكرون إلى توظيف النفوذ الثقافي والتاريخي لفرنسا في لبنان، في حين أنّ دافعه الحقيقي هو تعزيز مواقع بلاده في الصراع الدائر في شرق المتوسط، وهو يجد في لبنان فرصته الوحيدة ليصبح طرفًا في هذا التنافس. لكن هذا الأمر سيزجّ لبنان في قلب الاستقطاب الإقليمي الذي يتشكل، وسيأخذه بعيدًا عن المطالب الفِعليّة التي يسعى اللبنانيون إلى بلوغها. وتتمثّل هذه المطالب في تمكين الدولة، والقضاء على الفساد والزبائنية ونظام المحاصصة الطائفية، كما تتمثّل في الاستفادة من الثروات الباطنية، لتحسين أوضاع اللبنانيين الاقتصادية وتحقيق التنمية الوطنية.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات