بخُطى ثابتة، وبثقل سياسي، وبدبلوماسية متزنة يقودها محمد بن عبد الرحمن آل ثاني وزير خارجية قطر، أوجدت قطر للغة الحوار والتفاوض مكاناً بين الدول، من خلال سعيها لعقد لقاءات تُنهي القتال والتصعيد والخصومات.
وتعد الدبلوماسية القطرية بين الدول الكبرى لوقف الحرب بينها عملاً مألوفاً بالنسبة للدوحة؛ فتاريخها السياسي المعاصر يشهد على حضورها في كثير من القضايا الإقليمية والدولية الشائكة، ولا يخفى على أحد تعاظم دور الدبلوماسية القطرية في تقريب وجهات النظر وإيجاد الحلول اللازمة بين الدول والفصائل المتخاصمة، وتحول الدوحة إلى طاولة لفض النزاعات في المنطقة ككل، حيث توسطت قطر فيما يقارب عشرة ملفات وقضايا إقليمية ودولية في غاية الصعوبة، واستطاعت حلها في أقل من ثماني سنوات، في لبنان ، واليمن ، ودارفور ، وأفغانستان ، والعراق وأزمة الممرضات البلغاريات المعتقلات في ليبيا، وبين فتح وحماس، والعلاقات بين السودان وتشاد، وبين فرنسا وسوريا ، وإطلاق سراح 13 راهبة أرثوذكسية في سوريا مقابل إطلاق سراح 153 معتقلة سورية من سجون النظام السوري، وعملية تبادل الأسرى بين الحكومة اللبنانية وجبهة النصرة، إلى جانب استضافتها لمفاوضات بين طالبان والولايات المتحدة وأخيرا أزمة مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، واستضافتها المفاوضات الأفغانية الأفغانية التي انطلقت في 12 أيلول / سبتمبر الحالي بالدوحة. وكل هذه الملفات قامت بها قطر بطلب من الأطراف المعنية، ودون التدخل في الشأن الداخلي للدول.
وبذلك أصبحت الدبلوماسية الحصيفة السمة الأبرز لهوية قطر السياسية، مما جعل الكثيرين يطلقون عليها لقب ” جنيف الشرق”، حيث تحولت الدبلوماسية إلى عنصر رئيس من عناصر السياسة الإقليمية المستقلة لقطر الأمر الذي جعلها متميزة عن دول المنطقة، كما أن هذه الدبلوماسية باتت معلما بارزا في الدستور القطري الذي أقر في نيسان 2003، ونصت المادة السابعة منه على أن السياسة الخارجية القطرية ”تقوم على مبدأ توطيد السلم والأمن الدوليين عن طريق حل المنازعات الدولية بالحوار والطرق السلمية”.
تمتلك الدوحة إمكانيات وعلاقات فريدة لا تتوفر في كثير من دول العالم، فقد أشار تقرير للقناة الخامسة الفرنسية، أن هناك عوامل وإمكانيات تؤهل قطر تحديداً دون غيرها للعب دور الوساطة بين واشنطن وطهران، أولها العامل الجغرافي حيث أن طهران جارة للدوحة، ثانيا العامل الاقتصادي حيث تشترك الدوحة مع طهران في أكبر حقل غاز في العالم، وثالثا أن لقطر علاقة استراتيجية ومهمة مع الولايات المتحدة، كل هذه العوامل جعلت الدوحة طرفا مهما ومهما في حل الخلاف بين طهران وواشنطن.
فمنذ اللحظات الأولى لمقتل قاسم سليماني الذي فاقم الأزمة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، برزت قطر بدور الوسيط الذاتي من أجل تخفيف حدة التوتر بين البلدين، والوصول إلى الهدوء وإنهاء الخلافات.
كما أسهمت الدبلوماسية القطرية في تحقيق السِّلم والأمن الدوليَّين بين الدول، وكان أبرزها استضافة عدد من جولات المحادثات بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في أيار/مايو 2019، من أجل مناقشة انسحاب القوات الأمريكية وقوات التحالف من أفغانستان، وصولاً إلى اتفاق الدوحة، أواخر شباط/ فبراير 2020.
ونص الاتفاق، على إنهاء الحرب الدائرة في البلاد منذ 19 عاماً بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، مع إعلان واشنطن خفض وجودها العسكري في كابل إلى 4 آلاف جندي (من أصل 12 إلى 13 ألف جندي)، بحلول شهر نوفمبر المقبل. ونجحت قطر في جلب قادة حركة طالبان إلى طاولة المفاوضات بعد سنوات طويلة من الحرب وإراقة الدماء، بهدف إيجاد حل سياسي للصراع الأفغاني، وإنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة.
وبعيداً عن “طالبان وسليماني”، نجحت الدبلوماسية القطرية في وقف العنف والقتال بدارفور جنوب السودان، إذ احتفلت الدوحة في أيار/ مايو 2011، باتفاقية سلام دارفور التي أرست دعائم الأمن والاستقرار هناك.
وكانت المبادرة القطرية أكثر الأساليب فاعلية واصطباراً على التفاوض الصعب، فقد استضافت الدوحة المتحاورين أكثر من عامين إلى أن تكللت جهودها بالاتفاقية المسماة “وثيقة الدوحة للسلام”، وكانت نتاج حوار شارك فيه مئات من أهل المصلحة.
وفي حينها أشاد والي ولاية شرق دارفور، بقطر وقال إنها أدت دوراً حيوياً مهماً في استدامة الاستقرار الشامل ببلاده، من خلال جهود محلية وإقليمية ودولية متواصلة، أثمرت دعماً غير مسبوق لملفات السودان في هذه المحافل، وهو ما مكَّنه من تخطي العقبات والصعاب التي كانت تحول دون إحداث الاستقرار وتحقيق الانفراج الكامل في علاقاته الدولية.
وفي الشأن الفلسطيني، لم يغِب الدور القطري عن الوساطة لإنهاء الانقسام السياسي الداخلي بين حركتي “فتح” و”حماس”، إذ استقبلت الدوحة وفوداً من الطرفين خلال 2012، نتج عنها توقيع الحركتين في 6 شباط/ فبراير 2012، اتفاقاً يهدف إلى تسريع وتيرة المصالحة الوطنية بينهما. وخلال الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، كان للدوحة دور بارز في التوصل إلى تهدئة بين الفصائل الفلسطينية و”إسرائيل”.
وفي أفريقيا كان الثقل السياسي القطري حاضراً، من خلال التوسط لإطلاق أسرى جيبوتيين، ضمن وساطة بين جيبوتي وإرتريا، ليعود الأسرى إلى بلدهم برفقة وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، على متن طائرة خاصة، في مارس 2016. ورحب مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، حينها، بوساطة دولة قطر والتي تُوِّجت بالإفراج عن عدد من الأسرى الجيبوتيين لدى إرتريا. وأشاد حينها الرئيس الجيبوتي، إسماعيل عمر جيله، بالوساطة القطرية، ودور أمير قطر في إطلاق سراح الأسرى، مشيراً إلى أن علاقات بلاده مع قطر تشهد تطوراً في المجالات كافة.
وهنا يمكن القول أن الدبلوماسية القطرية نجحت في توظيف ما يسمى ”القوة الذكية”، واستخدمتها بشكل هادئ ومتقن بعيداً عن التصريحات الصاخبة المؤيدة لطرف دون آخر وهذا بحد ذاته فن من فنون الوساطة، الأمر الذي جعلها محط أنظار العالم كوسيط نزيه وحكيم.
هذه الأمثلة الناجعة للدبلوماسية القطرية تؤكد على حقيقة ساطعة في حقل العلاقات الدولية والدبلوماسية بأن الدول لا يقاس توفيقها في المحافل الدولية بمساحتها ولا بحجم سكانها بل بالقراءة الحكيمة للأحداث وبنجاعة استراتيجية الوساطة الذكية وبسرعة التحرك باختزال الوقت واختيار اللحظة المناسبة وانتقاء اللغة والمصطلحات الملائمة لكي تشعر جميع الأطراف ذات العلاقة في أزمة من الأزمات الراهنة بأن الدبلوماسية القطرية ليست خصما ولا تمارس مناورة وليست بالخصوص طرفا منتفعا من أي حل مقترح بل هي أداة مرنة لمساعدة الجميع على تجاوز عنق الزجاجة وفتح حوار مباشر مع خصم الأمس من أجل السلام الدولي.
إن الدبلوماسية الحصيفة التي تنتهجها دولة قطر والتي يرسم معالمها محمد بن عبدالرحمن آل ثاني وزير خارجية قطر، نابعة من إرادة سياسية واستراتيجية للعب دور ناجع وحاسم، وقد أدرك تلك الدبلوماسية الرئيس ماكرون والمستشارة ميركل لأنهما وجدا في قطر شريكة أمينة وصادقة في الدبلوماسية التي يؤمنان بها، ووجدا لدى المسؤولين القطريين رغبة صادقة في مخاطبة الجميع بدون استثناء وهو التقاء في الشراكة الاستراتيجية بين قطر وزعيمين أوروبيين يتميزان بالخروج عن الطرق الجاهزة المعبدة لتحقيق مبادىء وقيم وفضائل ما أحوج العالم اليوم إليها في مرحلة الأعاصير والأنواء.
وحدة الدراسات العربية