تحتفل الأمم المتحدة، اليوم الاثنين، بمرور خمسة وسبعين عاماً على تأسيسها. وتأتي هذه الاحتفالات في ظروف غير عادية بسبب جائحة كورونا وتبعاتها الصحية والاقتصادية والاجتماعية. وستنعكس هذه الظروف الاستثنائية على الاجتماعات في مقر المنظمة الرئيسي في نيويورك، حيث سيقدم أغلب قادة الدول مداخلاتهم عبر فيديوهات مسجلة مسبقاً في الغالب، وأخرى يقدمها سفراء تلك الدول لدى الأمم المتحدة في نيويورك بأنفسهم. وما أبعد اليوم عن أمس، أو العام الماضي على وجه الدقة، في الفترة نفسها. في العادة، تغلق الشوارع المحيطة بمقر الأمم المتحدة وسط مانهاتن بشكل شبه كامل، ولقرابة أسبوع، بسبب توافد قادة العالم إلى المدينة لحضور اجتماعاتها رفيعة المستوى، ولا يسمح إلا لسيارات الشرطة والسيارات الدبلوماسية بالمرور بجانب المبنى الضخم. كما يمنع مرور أي شخص غير المعتمدين من الصحافيين والدبلوماسيين ومنظمات غير حكومية لحضور الاجتماعات. وحتى تلك التحركات تكون مقيدة للغاية مع تفتيش مستمر وحواجز داخل المبنى وحوله. مئات من عناصر الشرطة والآلاف من الوفود تتحرك في تلك المنطقة مما يزيد من أزمة المرور في وسط مانهاتن المزدحمة أصلاً. كل هذا الازدحام سيغيب ويستبدل بآخر عن بعد، وعبر الشبكة العنكبوتية حيث ستعقد الاجتماعات والقمم.
وستعتمد الدول الأعضاء بالأمم المتحدة اليوم رسمياً، إعلاناً للاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين للأمم المتحدة. كما ستصدر نتائج تقرير مبادرتها تحت اسم “حوار UN75″، الذي يلخص نتائج الحوارات العالمية التي باشرتها الأمم المتحدة منذ يناير/كانون الثاني الماضي حول العالم، وتطلب في شق منه من الناس الإجابة عن بعض الأسئلة حول المستقبل الذي يريدونه للأمم المتحدة والدور الذي يريدون أن تلعبه.
اجتماعات هذه السنة ستعقد عن بعد في أغلبها
إلا أنّ اجتماعات هذه السنة والتي ستعقد عن بعد في أغلبها، تأتي في ظلّ تحديات فيروس كورونا. وليست الجائحة السبب لما وصل إليه العالم اليوم من تشرذم وتراجع اقتصادي، على الرغم من وفاة قرابة مليون شخص نتيجة الإصابة بها. بل إنّ ردود فعل الدول، خصوصاً الغنية منها كالولايات المتحدة، هي التي عرّت الثغرات الشديدة في النظام العالمي من النواحي الاقتصادية والصحية والاجتماعية، وعرّت بذلك الفروق الطبقية الشاسعة. وهنا، تواجه الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة تحدياً قد يكون واحداً من أكبر التحديات منذ تأسيسها، وهو محاولة تهميش أي دور تلعبه دولياً حتى على مستوى التنمية المستدامة وأهدافها أو توفير اللقاح لفيروس كورونا للجميع وبأسعار شبه مجانية، وخصوصاً للدول الفقيرة.
المعركة المقبلة، والتي يجري الإعداد لها، ستبدأ لحظة الإعلان عن التوصّل للقاح آمن لكورونا ومروره بالمعايير الدولية للسلامة. ولعل السؤال الأهم هو من سيتوصل إليه؟ في أكثر من مناسبة أكد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، ضرورة أن يتوفر ويتاح أي لقاح للجميع، لكنّ عدداً من الدبلوماسيين عبروا في أكثر من مناسبة عن مخاوفهم من أنّ ذلك قد لا يحدث. ومن ضمن هؤلاء، منير أكرم، السفير الباكستاني لدى الأمم المتحدة ورئيس “المجلس الاقتصادي والاجتماعي” (إيكوسوك) التابع للأمم المتحدة في دورته الحالية، خلال لقاء حصري مع “العربي الجديد” في نيويورك. وعبّر أكرم عن مخاوفه من وجود إشارات متناقضة من الدول المختلفة النافذة كالولايات المتحدة حول مسألة لقاح كورونا. وكانت كل من روسيا والولايات المتحدة قد أعلنتا أنهما لن تشتركا بمجهودات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية بتوزيع وتوفير اللقاح عالمياً عن طريق المنظمة، مما يعني غالباً عدم إتاحته بأسعار معقولة أو مجانية للدول الفقيرة، في حال توصّلت شركات تلك الدول لإنتاج لقاح.
من بين التحديات التي تواجه المنظمة، محاولة تهميش أي دور تلعبه دولياً
ليس صدفة أنّ الشعار الذي اختارته الأمم المتحدة في احتفالها بذكرى تأسيسها هو “المستقبل الذي نريده، الأمم المتحدة التي نحتاجها: إعادة التأكيد على الالتزام الجماعي بالتعاون متعدد الأطراف”. ولعل هذا العنوان يلخص الأزمة التي يواجهها العالم والاستقطاب الذي ينعكس على عمل الأمم المتحدة ومؤسساتها المتشعبة. هذه المنظمة الضخمة تقف الآن أمام مفترق طرق بين إعادة تجديد دمائها أو الدخول بشيخوخة تقوّض دورها لعدد من الأسباب. ومهما كان هناك من إشكاليات في عمل مؤسسات الأمم المتحدة وبنيتها التي خرجت من كنف نظام عالمي يعكس ميزان القوى بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنّ عملها لا يمكن اختزاله بمواقف واستقطابات داخل مجلس الأمن الدولي فقط، على الرغم من كونه المؤسسة الأهم في ما يخصّ المسؤولية عن الأمن والسلم الدوليين. لكن المنظمة الدولية تلعب دوراً مهماً في عدد من المجالات، من بينها التنمية والصحة وحقوق الإنسان والبيئة وغيرها. ولعل مدى قوتها أو ضعفها تعكسه قدرة الدول متوسطة الحجم والصغيرة على تنظيم نفسها والاتحاد وعدم الرضوخ، والوقوف بوجه الدول الكبرى والنافذة، إذ تتيح نظرياً مؤسسات الأمم المتحدة ذلك، خصوصاً الجمعية العامة التي يحسب التصويت فيها بصوت لكل دولة عضو ولا يستخدم أي فيتو. كما تتخذ قراراتها بأغلبية بسيطة أو أغلبية الثلثين بحسب نوع القرار.
تقارير دولية
الأمم المتحدة تنتقد التقاعس في مساعدة الدول الفقيرة لمواجهة كورونا
لكن مجلس الأمن، وخصوصاً الدول دائمة العضوية فيه؛ الصين وروسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، كما دول أخرى نافذة وعضو في الأمم المتحدة، تقوم بشكل مستمر بخرق قرارات الأمم المتحدة والمجلس من دون أي عواقب. ولعل استمرار تصدير السلاح لجميع أطراف الصراع في ليبيا من دون أي محاولة للتستّر هو آخر تلك الأمثلة فجاجة. لكن ربما المثال الأهم والتحدي الأكبر هو انسحاب الولايات المتحدة من عدد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة. آخرها تقديمها طلب انسحابها من منظمة الصحة العالمية ووقف تمويلها في وسط الجائحة. وسبق ذلك انسحابها من عدد من مؤسسات المنظمة، بما فيها مجلس حقوق الإنسان و”يونسكو” ووقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” وغيرها. وتحاول الولايات المتحدة تقويض عمل الأمم المتحدة وأطرها المختلفة، وفي الوقت نفسه استغلال تلك المؤسسات لخدمة سياساتها، مثل انسحابها عام 2018 من الاتفاق النووي الإيراني وعودتها أخيراً للمطالبة بفرض عقوبات شاملة على إيران وإلزام المجتمع الدولي بذلك وطلب تفعيل جميع العقوبات الأممية على طهران. وحتى اللحظة لم تتمكن الولايات المتحدة من حشد أي تأييد يذكر لسياستها وفرض تلك العقوبات، فالأغلبية الساحقة من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، حتى تلك الفقيرة أو التي تعتمد على اتفاقيات ومساعدات من الولايات المتحدة بعثت برسائل للأمين العام تقول إنه لا يحق لأميركا فرض تلك العقوبات، لأنها لم تعد جزءاً من الاتفاق النووي بعدما انسحبت منه. غير أنّ الولايات المتحدة ليست وحدها في مسألة الالتفاف الدائم على قرارات الأمم المتحدة واستعراض عضلاتها، فروسيا والصين، من بين دول أخرى، تستغلان كذلك قوتهما وحق النقض “الفيتو” لفرض سياستهما.
التحدي الأكبر هو انسحاب الولايات المتحدة من منظمات تابعة للأمم المتحدة
وسيقدم قادة الدول اليوم الاثنين مداخلات قصيرة تركز على رؤيتهم حول دور الأمم المتحدة والتعددية الدولية. وفي اليوم التالي، أي غداً الثلاثاء، سيبدأ ماراثون من المداخلات رفيعة المستوى تستمر لأسبوع، يقدّم فيها قادة الدول مواقف بلادهم ويحددون من خلالها أهم الملفات بالنسبة له، خصوصاً في القضايا الدولية. ومن المتوقع سماع الكثير عن جائحة كورونا وتبعاتها والملف الإيراني والمناخ، والحرب التجارية وغيرها من الأمور الإقليمية والدولية.
لا شك في أنّ الأمم المتحدة في عيدها الخامس والسبعين في موقع لا تحسد عليه إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الضغط الشديد الذي تتعرض له من الدول الفاعلة. لكن هذه المحنة تشكل فرصة لمحاولة النهوض بها مجدداً إذا ما أدركت الدول الأقل نفوذاً قوتها واتحدت. ولا بدّ من استرجاع ما قاله الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، كوفي عنان، في أحد خطاباته متوجهاً لرؤساء الدول: “الأمم المتحدة ليست مؤسسة مثالية ولها أخطاء كثيرة، لكنها أداة ثمينة يمكن تحسينها، والأهم استخدامها كما أُريد لها عند تأسيسها، أي أن تستخدم لإنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب والتأكيد على حقوق الإنسان وتهيئة الظروف الأساسية للعدالة وسيادة القانون والمساواة وتعزيز التقديم الاجتماعي وتحسين مستويات الحياة والحرية حول العالم”.
ابتسام عازم
العربي الجديد