سجّل يوم 10 أيلول/سبتمبر ذكرى مرور 30 عاما على «استئناف العلاقات الدبلوماسية» بين العراق وإيران (التي استؤنفت بعد وقت قصير من الغزو العراقي للكويت عام 1990)، فيما يسجّل يوم غد الثلاثاء الذكرى 40 لاندلاع أطول حروب القرن العشرين بين البلدين، التي استمرت 8 سنوات، وتركت وراءها قرابة مليون قتيل من الطرفين وخسائر ماليّة قدّرت بأربعمئة مليار دولار.
تجمع بين البلدين الجارين صلات تاريخية سحيقة، وقد تبدّلت أشكال هذه الصلات خلال أحداث كبرى يسجّل ظهور الإسلام وانتشاره فيهما نقطة تاريخية فاصلة تفرّعت عنها أشكال من الاشتباك العسكري وتبادل المواقع مع تبدّل أحوال الخلافتين الأموية والعباسية وما جرى بعدهما من أحداث اختلطت فيه القضايا الدينية والمذهبية بقضايا السياسة والثقافة والتجارة والاجتماع، وصولا إلى اتفاقية «قصر شيرين» بين الدولتين العثمانية والصفوية عام 1636 والتي رسمت حدود العراق الحالية.
يعود التوتّر بين البلدين في عصر ما بعد الاستقلال إلى قضايا داخلية وخارجية، فقد كانا قريبين خلال العهد الملكي وعضوين في ما يعرف بحلف بغداد، وحلّ بعد ذلك التوتر والخلاف حول شط العرب بعد انقلاب عام 1958 وانسحاب بغداد من الحلف المذكور، وأخذ الشقّ بين البلدين بالاتساع بعد الثورة الإسلامية عام 1979 انتهاء بالحرب المهولة التي اندلعت عام 1980.
تظهر أوضاع العراق الحاليّة اختلالا بنيويا هائلا في العلاقة مع إيران، التي تحوّلت إلى علاقة تبعية وسياسية واقتصادية، ونفوذ سياسي وأمني طاغ يلعب فيه العنصر الطائفي دورا كبيرا، حيث نجحت طهران في مراكمة استثمارها في دعم القوى الشيعية التي استوطن أكثرها في إيران أثناء الحرب بين البلدين، وعادت قياداتها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 مستغلة انهيار الدولة وفرط الجيش العراقي، وسرعان ما انخرطت في عملية تمكّن من أجهزة الدولة الجديدة الناشئة دفع العراقيون، وخصوصا في المناطق السنّية والشيعية التي قاومت الاحتلال، ضريبته الباهظة، وفيما احتل قدامى المحاربين الإيرانيين مناصب عسكرية عليا، فقد اشترك الأمريكيون والإيرانيون وميليشياتهم في مطاردة كوادر الجيش العراقي، وخصوصا الطيارين منهم.
بينت المظاهرات العراقية المستمرة منذ العام الماضي بعضا من تداعيات هذا الاختلال الهائل بين البلدين والذي لم يعد العنصر الطائفيّ كافيا لتبريره، فتبعية بغداد لطهران لا تتعلّق بالسياسة والقضايا العسكرية والأمنية فحسب، فرغم أن أوضاع إيران العامة قد تدهورت بسبب العقوبات الدولية والأمريكية عليها، فإن الميزان التجاري ما زال مختلّا بشكل كبير لصالحها، حيث يستورد العراق كافة أنواع المواد والأغذية والسيارات والكهرباء بحيث أصبح العراق أكبر سوق للمنتجات الإيرانية ووصلت قيمة صادرات طهران إلى 9 مليارات دولار بين آذار/مارس 2019 والشهر نفسه من العام 2020.
عكست الشعارات التي رفعها الحراك العراقي عن نفاد صبر المحتجين من تحكّم طهران وميليشياتها العراقية بشؤون العراق، وقد أدت التصريحات الرسميّة الإيرانية المنددة بالاحتجاجات العراقية وإهانة مطالب المتظاهرين بوصفهم بالمتآمرين مع إسرائيل وأمريكا إلى زيادة الغضب العامّ، فالعراقيون الذين تمرّسوا منذ ثورة العشرين في القتال ضد قوى احتلال تحاول كسر سيادة البلاد واستغلال اقتصادها لا يستطيعون تقبّل حجم الفساد الهائل الذي حاق ببلادهم على أيدي «النخب» السياسية التي تتحكم فيها طهران (وأمريكا إلى حد أقل)، وقد تاقوا، مثل الشعب الإيراني نفسه الذي خرج أكثر من مرة للمطالبة بحقوقه السياسية المهدورة ومكافحة الفساد، للخروج من ربقة الاستبداد، وهو الأمر الوحيد الذي يمكن أن ينهي هذه الحرب التي لا تنتهي بين البلدين.
القدس العربي