كيف نحافظ على الزراعة والريف، ونجعل منها جاذبة للناس والأجيال؟ كيف نحافظ على مواردنا وأساليبنا التقليدية والمتاحة والممكنة في العمل والحياة ونجعلها ملائمة للتطلعات الجديدة والمتجددة للحياة واللحاق بالآخرين واقتباس ما لديهم من فرص وتقنيات، من غير أن ندمر ما لدينا؟
اتخذ تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2013 عنوان «نهضة الجنوب.. تقدم بشري في عالم متنوع» وهو تقرير عالمي مهم ويحظى بالقبول والاهتمام في جميع أنحاء العالم، بل إن بعض مجالس الوزراء تخصص اجتماعات لمناقشته، ويمكن الموافقة على وصف التقرير لنفسه بأنه مساهمة قيمة في الفكر الإنمائي، إذ يصف عوامل محددة كانت بمثابة محرك للتحول في التنمية، ويقترح أولويات على صعيد السياسة العامة، يمكن أن تساعد على الاستمرار بزخم الماضي في المستقبل، ومن الرسائل الرئيسية التي يطلقها هذا التقرير وقبله التقارير السابقة للتنمية البشرية، أن النمو الاقتصادي وحده لا يحقق تقدما تلقائيا في التنمية البشرية.
السؤال ببساطة وبعيدا عن تقرير التنمية وتوجيهاته هو: كيف نحقق النمو الاقتصادي؟ وكيف نحول الدخل والنمو المطلوب إلى رفاه؟ وقد أصبحت أزمتنا في الدول العربية والنامية وحلولها واضحة وبسيطة ومتداولة في الجدل والحوار القائم، ثمة ركود اقتصادي وتضخم وبطالة مرتفعة، وبخاصة بين الشباب المتعلمين، ويصحب ذلك تغول الواردات على الصادرات الذي يطيح بالمكتسبات والفرص الاقتصادية ويحول دون تحويل الدخل إلى رفاه، والمسألة ببساطة كيف ننشئ بيئة اقتصادية ضمن الموارد والفرص المتاحة للنمو الاقتصادي وتخفيف الواردات وزيادة الصادرات وتوليد فرص عمل واسعة وكافية؟
يمكن ربط الأزمة الاقتصادية وأزمة الفقر والبطالة بمجموعة من السياسات وأساليب الحياة القائمة، ويمكن أيضا اقتراح مجموعة من الأفكار والبرامج التي تحسن الحياة وتحقق التنمية من غير موارد إضافية، ما يؤكد أن الإصلاح الاقتصادي والتنموي ليس هدفا بعيد المنال، وأن الموارد والفرص القائمة بالفعل تكفي بنسبة جيدة للتقدم، ولم تعد هذه المقولة فكرة رومانسية، ولكن تجارب قائمة بالفعل في دول عدة تؤيدها وتجعلها واقعية وممكنة التطبيق والنجاح، وهذا هو الدرس رقم 1 لتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية.
خلق بيئة محفزة
الدور المطلوب من الدولة هو إنشاء بيئة من التشريعات والمؤسسات التي تشجع الإنتاج والعمل، والمجتمعات تتحمل مسؤولية المشاركة، وإن كانت البرامج الإنمائية والإدارية والتحديثية قد أضعفتها، فيمكن وبسرعة إطلاق دور المجتمعات ومنحها الولاية على المجالات والخدمات المفترض أنها تخصها، وأنه لا يمكن لغير المجتمعات إنجاحها وتفعيلها. لا بد من البدء بتخطيط المدن والبلدات والمرافق الأساسية التي تجعل البلديات وحدة اجتماعية تملك وتدير احتياجاتها وخدماتها الأساسية وتتيح للأفراد الالتقاء والحوار والعيش والعمل معا.. وهكذا تبدأ المجتمعات في الانطلاق والتفكير والمبادرات.
في ظل هذا التشكل الاجتماعي تنشأ بيئة مشجعة على مشاركة الناس بمختلف فئاتهم وطبقاتهم على التعبير والتأثير، وبالطبع ثمة حاجة كبرى وملحة للتعديل في محتوى العملية التعليمية لتعلم الأطفال مهارات الحياة والإبداع الثقافي والفني والرياضي والاجتماعي والمهني والحرفي، فمن شأن ذلك أن يحقق بناء علاقات اجتماعية وروابط حول المكان والمهن والأعمال تشجع على التجمع والعمل والاستثمار.
وقد عادت الزراعة من جديد لتكون القضية الرئيسة الكبرى للعالم، ورأينا بوضوح كيف أن الغذاء يمثل التحدي الرئيس للعالم، وأن الزراعة والصناعات الغذائية تحولت لتكون مدخل التقدم والإجماع الوطني والثقافة والفنون والآداب، باعتبارها القضية الوطنية الكبرى الجامعة للناس والتقدم والتراث، وكانت مدخل التقدم الهائل لدولة مثل تشيلي، وهي تشبه في مواردها وظروفها معظم الدول العربية.
ويمكن بوضوح ملاحظة أن التصحر يلتهم الأرض والموارد، ذلك أنه رغم إمكان تحويل البحار والبوادي والجبال العربية إلى غابات ومراع وحقول توفر الغذاء لجميع العرب ولجزء كبير من العالم، وأن تكون هذه الموارد المعطلة مصدرا للتنمية والتقدم وتوفير الغذاء والدواء… والصادرات أيضا.
عودة الزراعة
والمطلوب لتحقيق ذلك واضح وعملي وبسيط أيضا، الاهتمام بالزراعة لتشكل نسبة معقولة من الاقتصادات الوطنية العربية، ولتستوعب قطاعا كبيرا من العاملين من المزارعين والعمال والمهندسين والتقنيين الزراعيين، وتستطيع الحكومات أن توفر الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي للمزارعين والعمال، وبذلك تثبتهم في مزارعهم وبلداتهم، وتمنحهم أمانا صحيا واجتماعيا، وتستطيع جموع الشباب والمتطوعين والشركات الكبرى التي تربح الكثير ولا تشارك إلا بالقليل في المسؤولية الاجتماعية تنظيم حملات كبرى للتشجير في الجبال والبوادي لتتحول إلى غابات ومراع.
نسبة الغابات في الوطن العربي تراوح حول واحد في المائة، وهي في السويد 70 في المائة وتنتج شركة إيكيا السويدية من الصناعات الخشبية أكثر مما ينتج العرب جميعهم، وليس ما يمنع أن تتحول الغابات في الوطن العربي إلى بيئة من الأعمال والصناعات، وتطور المراعي لتشكيل بيئة من الثروة الحيوانية تكفي الاحتياجات الغذائية والتصديرية أيضا.. والمؤسسات والقطاعات والاحتياجات.
القطن..نبات الاماكن الحارة
هناك بالطبع إنجازات وقفزات تنموية كبرى في بعض الدول العربية، ولكنها للأسف الشديد نجاحات محدودة تكون كبيرة عند النظر إلى مستوى دولة ما، ولكن بالنظر إليها على مستوى إقليمي فإنها تضيع، وأعتقد أنه لا مفر من النظر إلى المنطقة العربية باعتبارها إقليما جغرافيا متواصلا ومتشابكا مع بعضه، بل إن أوروبا ترى نفسها شريكة مع دول المتوسط لأجل الأسواق والمصالح والأمن والاعتدال.
موارد لا تنشئ التقدم
لا شك في أن الاستثمارات الأجنبية هي موارد إضافية للبلاد والمجتمعات، ولكننا في أحيان كثيرة نحولها إلى أداة للنزف وهدر الموارد بدلا من زيادتها، وبخاصة إن لم ترتبط بالاحتياجات والأولويات الحقيقية، وهي في حالتنا الراهنة تحويل الصحارى والجبال والسهول إلى بيئة اقتصادية وإنتاجية، يتجمع فيها الناس وليس السياح حول مصالحهم، وإقامة غابات ومراع لا لتكون مجمعات من الفيللات والمنتجعات السياحية، ولكن لتقوم حولها صناعات غذائية ودوائية وخشبية، تقلل من الواردات الغذائية، وتعيد صوغ أساليب البناء لتكون أقل تكلفة وبموارد متاحة ومتجددة، فالصحراء قدرنا، ويجب أن نفكر كيف نعمرها، ونحولها إلى بيئة تجتذب معظم المواطنين مثلما هي تشكل معظم مساحة البلاد.
نتحدث في الأردن – وهو مثال قابل للتعميم – عن الطاقة النووية بما تحتاج إليه من موارد وتقنيات مستوردة ومياه غير متوافرة، ونحن نملك موارد هائلة من الشمس يمكن أن تعوضنا معظم – جميع ما ننفقه على الطاقة، ويشكل معظم واردات البلد ويستنزف معظم ناتجه القومي، ونتحدث عن الاستثمارات الأجنبية ونحن نملك فرصا متاحة لنهضة قائمة على الغابات والبوادي والزراعة، وبخاصة أن الأردن يستورد أكثر من 90 في المائة من احتياجاته الغذائية، بل تحول الأراضي الزراعية الخصبة وأحواض المياه الجوفية إلى أحياء سكنية وطرق ومبان، وتترك أراض أخرى تصلح للبناء والسكن.
يمكن بقدر قليل من البداهة والنظر في مشكلتنا الاقتصادية والمائية ملاحظة أن الأزمة ليست متعلقة بندرة المياه ولكن بإدارتها، وبأسلوبنا في تشكيل حياتنا وعلاقاتنا بمواردنا، فيمكن مثلا بالاعتماد على مياه الأمطار فقط إقامة زراعات حقلية وشجرية مثمرة وحرجية وعلفية واسعة في مناطق كثيرة جبلية وسهلية وصحراوية أيضا، ويمكن بإدارة وتجميع هذه المياه توفير فرص كافية للري والشرب للتجمعات السكانية والاقتصادية.
وهناك رغم الأزمة المائية هدر مائي كبير، ويمكن بالمحافظة على هذه الموارد وإدارتها توفير مجالات واسعة للري والشرب أيضا، ويمكن أيضا بحماية المصادر والأحواض المائية والأودية والسيول وتجنيبها الطرق والبيوت والمباني، حماية هذه المصادر والمحافظة عليها، ويمكن بمعالجة مياه الصرف الصحي معالجة أفضل ومتقدمة إعادة تدوير استخدامها.
إبراهيم غرايبة
ملركز الدراسات الاستراتيجة-الجامعة الاردنية