في نهاية سبتمبر (أيلول) 2015 تدخلت روسيا عسكرياً في حرب سوريا التي بدأت عام 2011. قبل ذلك، كان التدخل السياسي عبر الرعاية الأميركية – الروسية لمسار جنيف من أجل التسوية السياسية بإشراف الأمم المتحدة، وهو مسار عملت موسكو بالتقسيط على إهماله لحساب مسار أستانا، ثم مسار سوتشي، حيث هي سيدة اللعبة.
حين دعاها النظام وإيران، التي عجزت عن حمايته، إلى التدخل، لم تتسرع. انتظرت حتى تأكد الرئيس فلاديمير بوتين من أن الولايات المتحدة لن تتدخل بعدما ألغى الرئيس باراك أوباما ضربة عسكرية للنظام مقررة مع فرنسا رداً على استخدام الأسلحة الكيماوية في غوطة دمشق. كان النظام “مهدداً بالسقوط خلال أسبوعين”، كما قال وزير الخارجية سيرغي لافروف، عندما بدأ القصف الجوي الروسي. ولم تكن الأولويات الروسية لضرب “داعش” وجبهة “النصرة” التابعة لتنظيم “القاعدة”، بل لضرب المعارضين وإخراجهم من المناطق التي سيطروا عليها تاركين للنظام نحو 20 في المئة من مساحة سوريا.
والسؤال الآن هو كيف حال روسيا “السورية” بعد خمس سنوات من التدخل العسكري؟ كيف حال سوريا عشية دخول الحرب سنتها العاشرة؟ وماذا عن أميركا وإيران وتركيا وإسرائيل والمعارضين وتنظيمات الإسلام السياسي الإرهابية؟
روسيا ربحت ما كان حلم القياصرة: الوصول إلى المياه الدافئة، وأسطول وقواعد عسكرية على شاطئ البحر المتوسط الذي كان “بحيرة أميركية” للأسطول السادس “اختبار 316 طرازاً من الأسلحة وتعلم القتال بطريقة مختلفة”، حسب وزير الدفاع سيرغي شويغو، واستعادة دور القوة العظمى في الشرق الأوسط والعالم، وضمان صفقات اقتصادية مهمة، وإدارة علاقات على طريقة لاعب الأكروبات مع قوى متصارعة: النظام، والمعارضة، وتركيا، وإيران، وإسرائيل. وكل ما جعل أميركا سعيدة بدفع روسيا إلى “المستنقع السوري” لم يحرج بوتين، إذ لا محاسبة هناك للقيصر. وهي حافظت على النظام، ولكن في خراب بلد نزح نصف شعبه في الداخل وإلى الخارج، وبقي 11.7 مليون مواطن في حاجة إلى المساعدة الإنسانية، وتقدر الأمم المتحدة خسائره بـ442 مليار دولار، وتتقاسمه جيوش تركيا وإيران وأميركا وروسيا، وتضربه إسرائيل جواً بداعي ضرب الوجود الإيراني. تركيا تحتل قسماً من الشمال السوري بالتفاهم مع روسيا وأميركا. إيران تتغلغل في النسيج الاجتماعي والثقافي وتقيم قواعد عسكرية. وأميركا اكتفت بوجود عسكري محدود يحمي الكرد في منطقة شرق الفرات التي تصل مساحتها إلى 40 في المئة من مساحة سوريا، بعد التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية في إسقاط “دولة الخلافة” الداعشية.
لكن أرباح روسيا مهددة بأن تصبح خسائر إن لم تنجح موسكو في ترتيب تسوية سياسية. فما يكرر قوله بوتين ولافروف هو أن المرحلة العسكرية النشطة انتهت، والمواجهة العسكرية بين دمشق والمعارضين انتهت وبقيت نقطتان ساخنتان: إدلب، وشرق الفرات. وما يصطدمان به هو ما جاء في مقال للسفير السابق ألكسندر أوكسينيوك من أن “النظام يرى أن تنفيذ القرار 2254 هو العودة إلى ما قبل 2011، و”لا مجال لذلك”. فلا نهاية الخيار العسكري تنهي الأزمة السياسية التي قادت إلى الحرب. ولا تسوية الأزمة هي بين السوريين في النظام والمعارضة فحسب، بل بين أميركا وروسيا وكل من تركيا وإيران وإسرائيل أيضاً. حتى متاهة اللجنة الدستورية التي راهنت موسكو عليها وإدارتها دمشق بالمناورات، فإن لافروف صار يعترف بأن “إطلاق عمل اللجنة الدستورية ليس بديلاً من المسار السياسي للتفاوض في إطار تطبيق القرار 2254”.
وكل ألعاب المسارين في أستانا وسوتشي لم تمنع الحاجة إلى مسار جنيف.
خلال الشهور الماضية، حاولت روسيا إقناع العالم بإعطاء الأولوية لإعادة الإعمار كطريق لعودة اللاجئين السوريين، لكن الموقف الأميركي والأوروبي والعربي كان، ولا يزال، ثابتاً: لا إعادة إعمار من دون تسوية سياسية. ولا تسوية من دون تغيير في النظام، لا تخفيف عقوبات من دون فك الارتباط مع إيران وميليشياتها. وهكذا، عاد لافروف إلى الاعتراف بأن “روسيا لا تستطيع وحدها ترتيب التسوية السياسية”. وهي بالطبع لا تستطيع أن تضمن إعادة الإعمار من دون المال الأميركي والأوروبي والعربي. واللعبة تتكرر: كل ما ربحه بوتين في جورجيا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم وسوريا كان بالقوة العسكرية. وأي تمتع بالأرباح من دون تفاهمات سياسية مع أميركا وأوروبا صعب. فلا تفاهمات من دون أثمان. والمثل الروسي يقول: “إذا وسعت خُطاك، فإنك تمزق سروالك”.
رفيق خوري
اندبندت عربي