هل يتحول الجنوب السوري إلى منطقة صراع إقليمي

هل يتحول الجنوب السوري إلى منطقة صراع إقليمي

تدفع تعقيدات الأزمة في سوريا وغياب ملامح تسوية واضحة لها وخاصة في ما يتعلق بمناطق جنوب البلاد إلى ترجيحات يسوقها المراقبون تشي بتحول تلك البقعة من الأراضي السورية إلى منطقة صراع إقليمي في ظل تمسك روسيا بخطتها وعدم ترك المجال لنظام بشار الأسد والميليشيات الإيرانية الموالية له للسيطرة بالكامل على حدوده مع الأردن.

دمشق – تتواتر التقارير، التي تتحدث عن حصول اشتباكات في الجبهة الجنوبية لسوريا بشكل كبير خلال الأشهر الماضية بين قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية، التي تقاتل معه من جهة، وبين قوات المعارضة السورية وعناصر تنتمي إلى جهات غير معلومة من جهة أخرى، بينما لا تحرك روسيا ساكنا هناك حتى أن البعض وصفها كـ”الإطفائي”.

وتصاعدت العمليات ضد نظام الأسد، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، في درعا والقنيطرة القريبتين من الجولان المحتل أين تتواجد إسرائيل، فضلا عن السويداء في الجنوب الشرقي، وهي نتاج طبيعي لسياسة الكرملين التي فرضها في عام 2018 حينما منعت قوات الأسد والميليشيات الإيرانية السيطرة بالكامل على الجنوب، الأمر الذي زاد من قلق الأردن وإسرائيل.

وتعد السياسات المحلية في محافظات درعا والقنيطرة والسويداء مرتبطة ارتباطا وثيقا باعتبارات إقليمية ولاعبين خارجيين كما أن مصير الشخصيات المعارضة السابقة يرتبط بالتزامات روسيا في المنطقة. ولكن المخاوف تتزايد كل يوم من أن تدخل المنطقة في توتر أكبر قد يجعلها على فوهة بركان.

وتشهد قرى ريف السويداء الحدودية مع درعا توترا كبيرا وخوف الأهالي من توسع رقعة المعارك حتى أن حركة تطلق على نفسها “رجال الكرامة”، وهي معارضة للحكومة السورية دفعت بالمئات من مقاتليها إلى بلدة القريا تحسبا لتقدم عناصر اللواء الثامن التابع للجيش السوري.

وخرج أحمد العودة قائد اللواء الثامن ضمن الفيلق الخامس المدعوم من روسيا ببيان مصور يتحدث فيه عن الأحداث الدامية التي وقعت على حدود المحافظتين، متهما إيران وحزب الله اللبناني بدعم عصابات مسلحة من “أبناء السويداء” لنشر الفوضى وتنفيذ مشروعها في المنطقة الجنوبية. وأنهى كلمته بقوله “لن نكون إلا سيفا يقطع يد كل من يؤجج الفتنة والاقتتال”.

لا يزال الجنوب السوري منطقة ملتهبة، وربما سيبقى كذلك لسنوات، وسيكون مصيره رهنا بالسياسات الإقليمية لا بإرادة الحكومة في دمشق، فاللاعبون على أوتار هذه الأزمة لديهم رؤية مختلفة لما يراه نظام الأسد، والكل يلعب على حبل التوازنات مع الفاعلين المهمين لما يحدث في الشرق الأوسط وهما إيران وإسرائيل.

ولقد حوّلت الأزمة السورية جنوب البلاد من منطقة حدودية تمتلك جبهة غير نشيطة مع إسرائيل واقتصادا حيويا عابرا للحدود مع الأردن، إلى منطقة مضطربة باتت نقطة محورية للتنافسات الإقليمية. ومن شأن التطوّرات، التي توجّهها جهات فاعلة محلية وإقليمية ودولية، أن تكون لها تداعيات تصل إلى أبعد من هذه المنطقة.

ويخشى كل من الأردن وإسرائيل أن تُسهّل عودة النظام إلى الجنوب السوري تموقع القوات الإيرانية والقوات الحليفة لها قرب الأراضي التي تسيطران عليها، حيث يؤثر الموقع الجغرافي لمحافظتي درعا والقنيطرة تحديدا بقوة على الطريقة التي عادت بموجبها قوات نظام الأسد إلى هناك قبل عامين.

وتلفت الأوساط السياسية إلى أن دعم الأردن لفصائل المعارضة في إحدى الفترات واحتضانه لغرفة “موك” لا يمكن أن ينظر إليهما على أنهما خيار ذاتي بل هناك إكراهات، خاصة وأن موقفه الذي بدا مؤيدا للعراق في غزو الكويت خلال تسعينات القرن الماضي كلفه الكثير حيث تعرض لـ”عزلة” عربية، أفضت إلى صعوبات اقتصادية قبل أن ينجح في استثمار الوضع الإقليمي في تلك الفترة ويعيد وصل نفسه سريعا بمحيطه.

ويقول أرميناك توكماجيان الباحث غير المقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت إنه بسبب منع إسرائيل والأردن ولاعبين آخرين من عرقلة عودة النظام عمدت روسيا إلى وضع استراتيجية استبعدت فيها مشاركة إيران وسهّلت ولادة مسارات الحوار النسبي والقوة الناعمة والتسويات وأدّت طبيعة العملية التي قادتها روسيا إلى منع استعادة سيطرة النظام الكاملة على الجنوب السوري، وأحلّت مكان التمرّد المفتوح صراعا منخفض الوتيرة.

وحتى الآن، منع الوضع القائم في جنوب سوريا، رغم أوجه قصوره، اندلاع تصعيد إقليمي خطير، ما يجعل استمراره أمرا مرغوبا فيه رغم الجهود الروسية للحد من عودة إيران إلى الجنوب، وتبدو قدرتها على ذلك محدودة، ولكن وثمة دلائل على أن القوات المسلحة الموالية لإيران ومعها وحدات أمنية من الجيش السوري، تبحث عن وسائل لتوسيع نطاق تواجدهما في الجنوب.

وللتعويض عن سلطته المحدودة في المناطق التي استعاد السيطرة عليها في الجنوب، سعى نظام بشار الأسد إلى إحياء دور الدولة كمزوّد للسلع والخدمات في مقابل الولاء بيد أن موارد الدولة الشحيحة تعرقل هذا المنحى.

ولا يبدو حتى الآن أن إيران تريد تقويض الوضع الراهن في الجنوب، لكن هذا لا يعني أنها سعيدة بالقيود المفروضة على سلوكها هناك وهذا يضيف بعدا آخر إلى طبيعة علاقاتها مع روسيا في مجال بلورة المصالح الاستراتيجية في سوريا وهذا ما يجعل الاحتمال مفتوحا حول قيام طهران بتحدي الواقع، ما قد يفاقم آفاق المجابهة الإقليمية.

وبحسب تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية، لدى إيران 800 عنصر منتشرين في جميع أنحاء سوريا، وهي تعمل من خلال جماعات متحالفة معها.

ولدى الفرقة الرابعة المدرعة التابعة للجيش السوري وإدارة المخابرات الجوية علاقات وثيقة مع إيران وهذا لا يعني التبعية الكاملة، لكن العلاقات قائمة وقد تلعب هذه القوات السورية اللعبة الإيرانية، إلا أن هؤلاء ليسوا جنودا متطرفين يدعمون أجندة إيرانية، وغالبا ما تنطوي دوافعهم على الرفع من مداخيلهم أو تعزيز أمنهم الشخصي.

ماذا عن إسرائيل
منع الوضع القائم في جنوب سوريا، رغم قصوره، اندلاع تصعيد إقليمي خطير، ما يجعل استمراره أمرا مرغوبا فيه

يؤكد توكماجيان أن الجيل الجديد الذي يعيش في الجنوب السوري ليس لديه فكرة واضحة عن الحرب السورية -الإسرائيلية، التي حصلت قبل أربعة عقود تقريبا ومع ذلك، فقد أثّر هذا النزاع المعلّق على الحياة اليومية لسكان المنطقة الحدودية بطرق عديدة.

ويتجسد ذلك بشكل واضح في الترتيبات الأمنية بجنوب سوريا، التي تمّ تبريرها على أنها ضرورية على ضوء الصراع مع إسرائيل، فالقانون الصادر قبل 16 عاما ينص على جعل المعاملات العقارية في المناطق الحدودية من بناء أو نقل ملكية أو تأجير عقار لأكثر من ثلاث سنوات رهنا بموافقة مسبقة من الأجهزة الأمنية.

وبرزت دعوات إلغاء هذا القانون كأحد المطالب الأولى للمتظاهرين بدرعا في مارس 2011 والسبب في ذلك هو أن المسؤولين الأمنيين أساؤوا استخدامه لانتزاع الأموال من السكان المحليين. ولكن حتى الآن لا يوجد ما يؤكد أن النظام قام بخطوات أخرى لتفادي وقوع هذا الأمر على الرغم من أن المناطق الجنوبية خارجة عن سيطرته.

ويبدو أن التعقيدات الحاصلة في الوقت الراهن في ما يتعلق بإسرائيل تقزّم تلك التي كانت موجودة سابقا فقد بات الوجود الإيراني نقطة الخلاف الرئيسية ففي نوفمبر 2017 أي قبل أن تعاود قوات النظام السيطرة على الجنوب، وقد وقّعت كل من الأردن وروسيا والولايات المتحدة اتفاقا ينصّ على عدم السماح للمقاتلين والقوات الأجنبية بالدخول إلى منطقة تغطي معظم محافظتيْ درعا والقنيطرة.

ومع أن إسرائيل لم تكن من الأطراف الموقّعة، لكن هذا الشرط بالتحديد رسم صراحة خطا أحمر للكيان العبري في المنطقة وعلى هذا الأساس، يُمنع على إيران والقوات المدعومة منها مثل حزب الله اللبناني، الانتشار في مناطق واسعة من الجنوب بالقرب من مرتفعات الجولان المحتلة، ووضع أسلحة موّجهة هناك، وبناء قواعد ثابتة أو أي نوع من البنى التحتية التي تسمح بشنّ هجمات ضد إسرائيل.

وينطبق الأمر نفسه على الأردن، فانتشار الإيرانيين على مقربة من حدوده يثير المشاكل بالنسبة إلى المسؤولين في عمّان، وكدليل على ذلك عبّر الملك عبدالله الثاني قبل الاتفاق مع الولايات المتحدة عن مخاوفه وتعهّد بالدفاع عن حدود بلاده الشمالية ضد ما أسماها “الميليشيات الأجنبية”، وذلك في إشارة إلى القوات الموالية لإيران.

وكل ذلك لا يعني أن حدوث تصعيد خطير أمر مستبعد، فالمراقبون يرون أن إيران لا يمكن أن ترضى بأن يكون هامش مناورتها مقيّدا من روسيا وباتفاقاتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين تُعتبران عدوّتيها الأساسيتين في الشرق الأوسط.

العرب