يضاعف انتشار معدل الجريمة في تونس التحديات والصعوبات الأمنية في بلد يكافح على أكثر من جبهة لمقاومة جرائم لا تقل خطورة وهي جرائم الإرهاب والجريمة المنظمة والتهريب، ويجمع خبراء ومتابعون على أن مقاومة هذه الظاهرة تضع الحكومة أمام معادلة صعبة؛ بين ضرورة تشديد القبضة الأمنية لردع المجرمين وبين المساس بالحريات وما سينجم عنه من تضييق وانتهاكات.
هزت جريمة قتل مروعة راحت ضحيتها الشابة رحمة (29 عاما) الرأي العام التونسي وسط دعوات بتسليط أقسى العقوبات والعودة إلى خيار تنفيذ الإعدام للحد من الجرائم الاجتماعية التي ازدادت وتيرتها بشكل مقلق في الآونة الأخيرة.
وفيما قسمت المطالب بتطبيق الإعدام التونسيين بين مؤيد ورافض له، إلا أن الطيف الشعبي والسياسي يجمع على أن الحكومة ونخبها أمام تحدي الحفاظ على الأمن العام في ظل استشراء جرائم العنف والاغتصاب والسرقة. ويسلط الخبراء والمتابعون الضوء على حجم الصعوبات التي تواجهها الحكومة في ظل حالة من الانفلات المجتمعي وبروز جيل جديد من المجرمين الذين يقترفون الجرائم لـ”أسباب تافهة”.
وصنف الباحث في علم الاجتماع محمد الجويلي الجرائم البشعة التي شهدها المجتمع التونسي مؤخرا ضمن النوع الجديد من الجرائم. وأشار في تصريحات لإذاعة محلية خاصة إلى أن “من سمات هذه الجرائم سرعة التنفيذ واستعمال أدوات جديدة وأسبابها في أغلب الأحيان ‘تافهة’ على غرار نشل هاتف جوال أو إهانة صغيرة أو عدم الإيفاء بتعهدات مالية على سبيل الاقتراض وغيرها من الأسباب التافهة”.
وبيّن أن المسافة بين دوافع الجرائم البشعة وتنفيذها أصبحت مسافة قصيرة جدا بمعنى أن أتفه الأسباب بإمكانها أن تؤدي إلى جرائم كبيرة وبشعة. ويضاعف هذا النوع من الجرائم الذي فجر قلقا واسعا لدى التونسيين المتوجسين من تراجع الأمن، المتاعب والتحديات أمام الحكومة وأجهزة الدولة التي تكافح على أكثر من جبهة لمقاومة جرائم لا تقل خطورة وهي: الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة.
ويتساءل الخبراء عن مدى قدرة الحكومة التونسية على استرجاع الأمن العام وبالتالي استعادة ثقة الشارع في أجهزة الدولة وهي برأي الكثيرين ضعيفة ومغيبة منذ اندلاع ثورة يناير 2011، وعلى صعيد آخر يتساءل هؤلاء عن مدى القدرة على التوفيق بين المعادلة الأمنية وما تقتضيه من صرامة في ملاحقة المجرمين وبين عدم المساس بالجانب الحقوقي في ظل المخاوف من استغلال ارتفاع منسوب الجريمة كذريعة للتضييق على الحريات واقتراف انتهاكات، وما سينجم عنه تبعا لذلك من تراجع حقوق الإنسان في بلد لا يريد العودة بهذا الملف إلى الوراء.
معادلة صعبة
شهادات
لا تكاد تمر فترة قصيرة على اقتراف جريمة حتى تكرر جريمة أخرى ولا تقل قساوة وبشاعة عن سابقتها. وتشكل النساء والأطفال عادة ضحايا هذه الجرائم.
وحسب تقرير المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية صدر في يونيو الماضي فإن منسوب الجريمة المنظمة في الفضاءات العامة في تونس شهد ارتفاعا ملحوظا من مجموع حالات العنف المرصودة تجاوزت عتبته الـ52 في المئة.
وذكر التقرير الذي صدر تحت عنوان “الاحتجاجات الجماعية والانتحار والعنف”، أن حوادث الجريمة تنوعت بين السرقة وجرائم القتل، وذلك استنادا لعينة الرصد المتكونة من مجموع الصحف اليومية والأسبوعية المحلية والمواقع الإلكترونية.
وتصاعدت وتيرة العنف بجميع أشكاله في فترة ما بعد الحجر الصحي الشامل والموجه، إذ سجل العنف الأسري حوالي 22 في المئة من مجموع حالات العنف المرصودة، إلى جانب استشراء العنف الانفعالي الذي مثّل 23.7 في المئة من حالات العنف المرصودة.
ومثّلت النساء والقصر إحدى أكثر الفئات تضررا من العنف الجنسي الذي تجاوزت نسبته 18.5 في المئة من المجموع العام للعنف المرصود وتواصل نسقه التصاعدي على غرار الأشهر السابقة.
واحتضن الفضاء السكني أكثر حوادث العنف المسجلة بنسبة 40 في المئة تليه في ذلك الطرقات والفضاءات العامة بحوالي 50 في المئة بصفة مجتمعة. وتميزت حالات العنف في شهر يونيو بكونها حالات فردية بنسبة 69 في المئة، في حين مثل العنف الجماعي نسبة 31 في المئة.
وحسب ما ذهب إليه الباحث محمد الجويلي، فيما تعد الكحول والمخدرات والفقر والتهميش أسبابا لارتكاب جرائم بشعة، إلاّ أن القراءة التفاهمية للجريمة وتطورها تبين ارتباطها بالدخول في مرحلة من الاستهلاك المتوحش والفاحش. وبرأيه فإن “البعض أصبحوا يدخلون في المنظومة الإجرامية من أجل تلبية حاجيات استهلاكية يعتبرونها عنصرا من هويتهم وغياب هذه الحاجيات يضعهم على هامش المجتمع، بالإضافة إلى النقمة على المجتمع بسبب الفقر والتهميش والإحباطات الموجودة لدى مقترفي الجرائم وكل ضحية لديها إمكانيات ليست لديهم يرون أنه من الضروري القضاء عليها بهدف افتكاك هاتف أو أموال أو ممتلكات والتقليص من النقمة الدفينة لديهم”.
ويحذر الخبراء من مخاطر إقصاء الطبقات المهمشة الذي يقود إلى ارتفاع معدل العنف والجريمة بسبب شعور هذه الطبقة بالنقمة الاجتماعة والغضب إزاء سياسات التمييز بحقها. وزادت الأزمة الاقتصادية الخانقة من حالة الاستياء الشعبي خاصة في صفوف المهمشين والعاطلين عن العمل في ظل عجز الحكومات المتعاقبة عن الإيفاء بوعودها بتوفير مواطن شغل جديدة ونصيب عادل من التنمية.
كما أثرت أزمة كوفيد – 19 على اقتصاد البلاد المهدد بانكماش قد تبلغ نسبته 6.8 في المئة وبخسارة أكثر من 130 ألف شخص وظائفهم، حسب تقديرات رسمية. بينما يقدر اقتصاديون أن الأرقام ربما تتجاوز المعلن عنه بكثير في حال تواصل غياب الاستقرار الحكومي.
وتحمل الأوضاع الاقتصادية الصعبة تداعيات اجتماعية وخيمة، وفي مواجهة ارتفاع منسوب الجريمة يقترح الخبراء دورا أكبر للعناصر الأمنية. ويشير مهدي مبروك أستاذ علم الاجتماع ووزير الثقافة السابق في حديثه لـ”العرب” إلى المعادلة الصعبة التي تبدو أمامها تونس بين التحدي الأمني وحماية المجال الحقوقي.
وأعرب مبروك عن خشيته في ظل غياب إصلاح حقيقي للقوات الأمنية أن يقع الإقدام على المزيد من الانتهاكات. وتابع “أخشى تحت ضغط الجريمة الاجتماعية أن تتم مرة أخرى ممارسة انتهاكات وأن تكون ذريعة لمواصلة الاعتداءات على حقوق الإنسان باسم مقاومة الاغتصاب والجرائم المستشرية”. ويؤكد أنه بالنسبة للدول الديمقراطية فإن ضرب الجريمة بيد من حديد وفي نفس الوقت احترام حقوق الإنسان بمثابة المعادلة الصعبة.
وسلط مبروك الضوء على تحد آخر في مواجهة الجرائم الاجتماعية المستشرية، وهو استغلال الجماعات الإرهابية التشتت الأمني في القيام بهجمات جديدة، ما يعني بالضرورة إعادة تنظيم الأولويات الحكومية.
ويشرح بالقول “منذ اندلاع الثورة هناك جبهتان مفتوحتان وهما كيفية التصدي للجماعات الإرهابية ولجماعات الجريمة المنظمة (المتاجرة بالبشر، الهجرة غير الشرعية) تضاف إليها الجريمة الاجتماعية”. ويعلق “أخشى أن تشتت الجريمة الاجتماعية جهود قوات الأمن التونسي”.
وعلى صعيد آخر، وعلى رغم ترسانة القوانين والتشريعات التي تحمي من ظاهرة العنف مثل القانون عدد 58 للتصدي للعنف المسلط ضد المرأة والطفل، بدا جليا ارتفاع الجرائم بشكل مخيف. ويكثف المجتمع المدني جهوده في تونس لمكافحة هذه الظاهرة.
وتعزو نعمة نصيري العضو بجمعية النساء الديمقراطيات ارتفاع الجرائم خاصة في حق النساء، في تصريح لـ”العرب”، إلى “العقلية الذكورية المتفشية في المجتمع”.
وترى نصيري أن الدولة بعد ثورة يناير باتت مغيبة وأداؤها ضعيفا ما جعلها غير قادرة على التصدي لهذه الظاهرة. كما تلاحظ استخفافا بالعنف في شبكات التواصل الاجتماعي. وتعتقد أن الدور الأمني غير كاف ولم يكن فاعلا في مواجهة الجرائم، خاصة أن أجهزة الأمن غير قادرة على التدخل في بعض الجرائم التي تشمل العلاقات الشخصية. وتقترح أن يكون العنصر الأمني شريكا فعليا في التصدي للعنف إضافة إلى تفعيل دور مؤسسات الدولة والتمكين الاقتصادي للنساء الذي بقي، حسب تعبيرها، حبرا على ورق.
سياسة مواجهة
العنف
يشير متابعون إلى أن دوافع ارتفاع الجريمة في تونس تتجاوز الأسباب الاقتصادية وتعكس قضية أعمق تشمل أداء المؤسسة الأمنية التي باتت في قلب الصراع الحزبي وفي قلب التجاذبات السياسية.
ويلفت السياسي التونسي عبدالحميد الجلاصي في تصريح لـ”العرب” إلى أن “الجريمة مرتبطة أيضا بمناخات وسياقات وسياسات”. وبرأيه فإن “حالة الحيرة بخصوص المستقبل، والفشل المدرسي وضعف رقابة الأسرة واختلالات المنظومة التربوية وضعف التأطير الديني وعدم الاستقرار على الحدود كلها أسباب ومناخات مساعدة على نمو الجريمة”.
ومن جهة أخرى، حسب ما ذهب إليه الجلاصي، فإن “عدم الاستقرار المؤسساتي والتغييرات المتسارعة على رأس وزارة الداخلية والصراع حولها والتغييرات في مواقع حساسة كلها تضعف من قدرة الجهاز الأمني على التصدي”.
ويتابع “لا يمكن التقليص من نسبة الجريمة إلا باعتماد سياسة وقائية تذهب إلى جذورها واعتماد سياسة مواجهة أول شروطها استقرار المؤسسة الأمنية وإبعادها عن الصراعات والتجاذبات
وتوفير كل المرافق والمستلزمات التي تعينها على القيام بدورها ومن ذلك الموارد البشرية الكافية والتدريب والتجهيزات وخاصة الإسناد السياسي والمعنوي”. وانعكست مرحلة الانتقال الديمقراطي على رغم نقاط الضوء التي تميزها على صعيد الحريات والتعددية، سلبا على الواقع المجتمعي، حيث ظهرت موجة من الجرائم والبلطجة مع استغلال المجرمين حالة اللااستقرار السياسي والتخبط الحكومي في ترويع الناس.
ويقول مصطفى عبدالكبير رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان “منذ 2011 وبسقوط النظام الذي كان يعرف بالنظام البوليسي واقتحام المراكز والمقرات الأمنية وهروب رجال الأمن وتمزيق وإتلاف الملفات وسرقتها وحرقها كسر حاجز الخوف عند المواطن التونسي، لكن في البداية كنا نعتقد أننا كسياسيين ومعارضين ونقابيين ونشطاء حقوق الإنسان أننا انتصرنا على الدكتاتورية البوليسية”، مستدركا “حصل هذا فعلا ولكن ظهرت بمرور الزمن دكتاتوريات جديدة متمثلة في انتشار الجريمة”.
ولبسط سلطة القانون واستتباب الأمن، يقترح عبدالكبير “تنقيح القوانين وملاحقة المجرمين والقضاء على سياسة الإفلات من العقاب وحماية رجال الأمن والعمل على ضمان استقلالية القضاء”. ويضيف “علينا أيضا وضع إستراتيجية طويلة الأمد ضمن خطة وطنية للقضاء على الجريمة والعمل على تكوين الكوادر الإدارية وتمكينهم من الوسائل المادية اللازمة لمواكبة تطور أداة الجريمة والحد من تدخل السياسيين في التستر على المجرمين باختلاف جرائمهم”.
أما بالنسبة للشارع، فمقاومة الجريمة لن تتأتى دون عقوبات قاسية ومشددة. وأعادت جريمة الشابة رحمة إلى دائرة الضوء عقوبة الإعدام. وحسب رأي طيف واسع الذي استنكر صمت الدولة وضعف أدائها، فإن العقوبات المشددة التي تصل حد الإعدام الحل الأنجع للتقليص من الجرائم واسترجاع الاستقرار.
على رغم ترسانة القوانين والتشريعات التي تحمي من ظاهرة العنف مثل القانون عدد 58 للتصدي للعنف المسلط ضد المرأة والطفل، بدا جليا ارتفاع الجرائم بشكل مخيف
وطالب أبو الضحية في تصريح إذاعي بالقصاص وتطبيق عقوبة الإعدام في حق المتهم، كما نظم العشرات غالبيتهم من النساء وقفة احتجاجية أمام قصر الرئاسة بمنطقة قرطاج مطالبين الرئيس قيس سعيّد بتطبيق الإعدام.
ويصدر القضاء التونسي أحكاما بالإعدام خصوصا في حق المتهمين بتنفيذ هجمات “إرهابية”، لكن لا يتم تنفيذها منذ ثلاثين عاما وتحديدا منذ العام 1991. ويقرّ الدستور التونسي للعام 2014 “الحق في الحياة” ولا يلغي جريمة الإعدام. وفيما يرى الشارع أن الإعدام هو الحل يعتقد حقوقيون أن “الإعدام لا يردع ولا يحد من تفشي الجريمة”.
وبدل تطبيق الاعتقاد، دعا جمال مسلم رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان في تصريح لـ”العرب” إلى فتح حوار وطني شامل حول هذه العقوبة والعقوبات التي من الممكن أن تحد من الجرائم مستقبلا، محمّلا السلطة مسؤولية الجرائم داعيا إياها إلى البحث عن الأسباب الحقيقية التي قادت إلى انتشار الجريمة وهي بلا شك أسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية. في المقابل، يخالفه الرأي السياسي التونسي صحبي بن فرج، الذي أبدى تأييده لعقوبة الإعدام وتنفيذها في مواجهة الجرائم البشعة لكن مع استكمال مراحل التقاضي وتوفير شروط المحاكمة العادلة. وأردف “أرى أن الإعدام من العقوبات المؤسفة والمؤلمة لكن يجب أن تكون موجودة مع ارتفاع منسوب الجريمة”
العرب