تقوم الصين، التي هي أساسًا رائدة عالمية في مجال البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس، باستثمارات ضخمة في مجموعة أوسع نطاقًا من التكنولوجيات المتقدمة وتسعى إلى نشرها في العالم كوسيلة لاكتساب نفوذ اقتصادي أكبر حتى. وكانت بكين صبّت تركيزها على 3 مجالات تكنولوجية أساسية – الذكاء الاصطناعي، والمدن الذكية والآمنة والطائرات بدون طيار – في إطار استراتيجيتها الأكبر القائمة على التكنولوجيا المتقدمة.
ومن بين تطبيقات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تحسين إدارة البنية التحتية المُدنية في المدن “الذكية” (أو الآمنة) حيث تُستخدم الأنظمة المعتمدة بدءًا بإشارات المرور وصولًا إلى أجهزة استشعار جودة الهواء تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لتحسين السلامة العامة في المدن من خلال أنظمة تعقب ومراقبة متكاملة. كما رفعت الصين بشكل بارز إنتاج وتصدير الطائرات بدون طيار. وخلال السنوات الخمس الماضية، زادت بكين مبيعاتها من الطائرات بدون طيار التي تتمتع بجودة أفضل وأفضل إنما بسعر معقول إلى مجموعة من العملاء.
ولغاية الآن، تمّ استخدام الذكاء الاصطناعي كأساس لاستثمارات الصين التكنولوجية في صربيا ودول الخليج. ومن المتوقع أن يدر قطاع المراقبة القائمة على الذكاء الاصطناعي 62 مليار دولار بحلول العام 2023. وتستخدم بكين نموذجًا ابتكرته في صربيا لتوسيع مصالحها التكنولوجية والعسكرية في الخليج العربي. فالصين تحتكر باطراد أسواقًا جديدة، كما أن دول الخليج هي الميدان المهم التالي الذي ستضطر فيه الولايات المتحدة إلى مواجهة نفوذ الصين المتنامي.
النموذج الصيني في صربيا
وفّرت المشاريع التي نفذتها الصين مؤخرًا في صربيا نموذجًا لكيفية الاستفادة من عمليات نقل التكنولوجيا المتقدمة لتوسيع النفوذ كي يطال قطاعات أخرى. وبدأت الحكومة الصربية وشركة “هواوي”، أحد أبرز اللاعبين الصينيين في مجال الذكاء الاصطناعي، التعاون عام 2011، مع خطط لبناء شبكة “مدينة ذكية” تشمل كاميرات مراقبة في المدن الصربية، على أن تليها مشاريع مراقبة إضافية قائمة على الذكاء الاصطناعي بعد فترة قصيرة. كما تعاونت الشركات الصربية والصينية في إطار تبادلات المكاتب على غرار افتتاح شركة “هواوي” مركز ابتكار في بلغراد.
وتمثلت الخطوة التالية ضمن استراتيجية الصين في تعزيز التعاون العسكري. فبين عامي 2018 و2020، اشترت بلغراد 3 مقاتلات صينية بدون طيار: “وينغ لونغ 1″، و”CH-92A” و”سيا هونغ”. وعام 2019، أكدت بلغراد أن بكين بدأت بنقل الخطط والمعدات لإنتاج طائرات عسكرية بدون طيار في صربيا. وبمساعدة من الصين، كانت صربيا بدأت بتصنيع طائرة “بيغاسوس” المسلحة بدون طيار، لتصبح أول بلد أوروبي يشتري طائرات عسكرية صينية من هذا النوع.
بكين تضع الخليج نصب أعينها
يشكل الخليج إحدى المناطق الأسرع نموًا التي تعتمد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في العالم. ومنذ العام 2013، أصبحت الصين المستثمر الرئيسي في القطاع الاقتصادي وقطاع التكنولوجيا المتقدمة في الشرق الأوسط. وبحلول العام 2030، تشير التقديرات إلى أن انتشار الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط قد يدر أرباحًا بقيمة 320 مليار دولار على أن تكون السعودية وقطر والبحرين والإمارات في الطليعة.
يُذكر أن ثمة الكثير من النقاط المشتركة بين صربيا والسعودية والإمارات في ما يتعلق بالعلاقات مع الصين. فبالمقارنة مع الدول المجاورة لها، تُعتبر صربيا والسعودية والإمارات غنية ويمكنها تحمّل تكلفة شراء أحدث التكنولوجيا في مجال الذكاء الاصطناعي. كما تتمتع هذه الدول الثلاث بموارد طبيعية (النفط والغاز في الخليج؛ والفحم والنفط والغاز في صربيا) وتمثل نقاط دخول مثالية للمنتجات الصينية في انتشارها في جنوب شرق أوروبا والشرق الأوسط.
هذا وتستفيد الصين من الدروس التي تعلمتها في عملية التفاعل مع صربيا من أجل تحسين مقاربتها إزاء الشرق الأوسط، أولًا من خلال إقامة بنية تحتية أساسية (مثلًا جسور وسكك حديدية) ومن ثم إضافة أنظمة التكنولوجيا، وأخيرًا إطلاق تعاون عسكري ثنائي. هذا هو تحديدًا التقدّم الذي اتبعته الصين في صربيا، وبالتالي هي العملية نفسها التي يتمّ تنفيذها في السعودية والإمارات.
وكان تجديد بلغراد لأنظمة أسلحتها، الذي انطلق على مقربة من العام 2018، قد أدّى منذ ذلك الحين إلى تسيير دوريات الشرطة المشتركة بين صربيا والصين والتدريب العسكري بقيادة الصين للقوات الصربية. ويُظهر هذا التقدّم استراتيجية الصين باستغلال رغبة دولة ما بامتلاك تكنولوجيا عسكرية متقدمة كوسيلة لترسيخ وجود عسكري ملموس في تلك الدولة. وتكرّر الصين الاستراتيجية نفسها في التعاون العسكري المشترك السعودي-الصيني. واستأنف البلدان التدريبات العسكرية المشتركة بعدما أشرفت بكين سابقًا على تدريب الجنود السعوديين.
ومن بين تلك الدول الخليجية، أصبحت الإمارات واحدة من أسرع الدول التي تعتمد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، حيث أطلقت دبي مشاريع مراقبة قائمة على الذكاء الاصطناعي، على غرار “شرطة بلا أفراد”، و”عيون” (وهو برنامج للتعرف على الوجوه والمراقبة)، وروبوتات أمنية تعمل بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي من أجل مكافحة الجريمة في المدن. تجدر الملاحظة أن رؤية “شرطة بلا أفراد” مدعومة من “هواوي”، وفي حين أن برنامج “عيون” لا يرتبط بشكل مباشر بأي شركة صينية محددة، يحاكي استخدامه للمراقبة القائمة على الذكاء الاصطناعي من أجل ضمان أمن المساحات العامة في المدن التطورات التكنولوجية الحديثة في الصين. وقد استحوذ هذا النشاط في مجال الذكاء الاصطناعي على اهتمام المستثمرين الصينيين. وعلى غرار مركز الابتكار الجديد الذي افتتحته “هواوي” في بلغراد، أعلنت “سانس تايم” العملاقة القائمة على الذكاء الاصطناعي عن انتقالها إلى أبوظبي.
أما السعودية، وهي مستثمر بارز آخر في مجال الذكاء الاصطناعي، فتصبح أكثر فأكثر سوقًا جذابًا بالنسبة للصين نظرًا إلى احتياطات الطاقة التي تكتنزها وموقعها الجيو-استراتيجي الأساسي في الشرق الأوسط. وإنّ مراقبة بكين للمسلمين الصينيين الذين يؤدون فريضة الحج قد ارتبطت بأجهزة تعقب الحجاج المصممة لتعزيز الأمن في الأماكن المقدسة وخلال رحلات الحج. وتتعاون الحكومة السعودية، بعدما علّقت خططها العملاقة للمدينة الذكية “نيوم” هذا العام – على الرغم من المصالح الصينية في الاستثمار في المشروع – مع “هواوي” لتنفيذ مشروع آخر قائم على تكنولوجيا المدينة الذكية في مكان آخر. وكانت “هواوي” روّجت لتكنولوجيا المدينة الذكية استراتيجيًا في السعودية باعتبارها وسيلة متطورة وسهلة لمكافحة التطرف وتعزيز أمن المدن، وهو هدف أساسي للحكومة السعودية.
وإضافةً إلى المدن الذكية، تولي كل من الإمارات والسعودية أولوية إلى استعمال الطائرات بدون طيار، مع تفضيل النماذج المسلحة. وكانت الإمارات اشترت الطائرات الصينية بدون طيار من نوع “وينغ لونغ 1” في 2016 وانتقلت إلى نوع “وينغ لونغ 2” في 2018 بعدما امتنعت الولايات المتحدة عن بيع أبوظبي أحدث طائراتها بدون طيار المستخدمة كسلاح. وفي 2017، أعلنت الصين أن السعودية مهتمة بشراء ما يصل إلى 300 طائرة بدون طيار من نوع “وينغ لونغ 2”. فضلًا عن ذلك، شهد العام 2017 أيضًا منح رخصة لتصنيع طائرات بدون طيار من نوع “CH-4” وإبرام اتفاق لإقامة مصنع لهذا الغرض. وتمّ استخدام نوعيْ “وينغ لونغ” و”CH” في الصراعات في اليمن والعراق وليبيا. وخلال العام الفائت، واصلت الصين جهودها لبيع طائرتها المتطورة بدون طيار في السعودية مع تقديم عروض خاصة بطراز “بلوفيش إيه 3” (Blowfish A3)، وهي مروحية بدون طيار مزودة بسلاح آلي يمكنها على الأرجح استخدام قدراتها في الذكاء الاصطناعي لاستهداف أفراد.
توطيد العلاقات أولوية بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة
ثمة بعض الاختلافات بين المقاربتين الصينيتين إزاء كل من صربيا والخليج، ما يمنح الولايات المتحدة مجالًا لإعادة التفاوض بشأن العلاقة التي تتشكل حاليًا. فتاريخ صربيا بالآراء المعادية للولايات المتحدة تتناقض مع المواقف المؤيدة للولايات المتحدة والتحالفات القائمة معها في الخليج. ورغم توغل بكين في الشرق الأوسط، فإن انخراط الولايات المتحدة القائم منذ فترة طويلة والمشاعر الموالية لأمريكا والشراكات القوية مع الحكومات المحلية، يمنحها ميزة في الحدّ من نفوذ بكين في المنطقة.
وناهيك عن المنفعة التي تعود بها الروابط السياسية القائمة، يمكن للولايات المتحدة الاستفادة من تجربة الصين في صربيا كنموذج لرصد المخاطر وقيادة المحفزات في سوق التكنولوجيا وصدّ انخراط الصين في الخليج. ويجدر بالولايات المتحدة التركيز على تنويع المنتجات وأمن البيانات والجودة التكنولوجية خلال مساعيها لكبح النفوذ الصيني في الخليج.
تجدر الملاحظة أن روابط الشركات الصينية بالحزب الشيوعي الصيني والقروض المدعومة والتكاليف المنخفضة والإجراءات البيروقراطية المحدودة، تمكنها من ضرب المنافسين الدوليين في سوق التكنولوجيا القائمة على الذكاء الاصطناعي. ويمكن للولايات المتحدة وحلفائها محاولة منافسة أسعار بكين الرخيصة بأسعار أرخص حتى، لكن هذه الخطوة قد تطرح تحديًا أمامها، ولا سيما على المدى القصير. غير أنه بإمكان الولايات المتحدة توفير نفاذ إلى مجموعة أشمل وأكثر تنوعًا من شركات التكنولوجية الأمريكية والتابعة لدول حليفة، كما بإمكانها تقديم منتجات بجودة أعلى إلى العملاء الذين يريدون خيارات أكثر أمانًا وشفافيةً وفعاليةً.
ويمكن لأسواق التكنولوجيا القائمة على الذكاء الاصطناعي الاستفادة من المنافسة التي تؤدي إلى انخفاض الأسعار وتحفز الابتكار وتوسّع الخيارات أمام المشترين. وباستخدام المجموعة المتنوعة من مزودي التكنولوجيا في السعودية كمثال، يمكن لواشنطن وحلفائها تشجيع حكومات خليجية أخرى على البحث عن بدائل عن المزودين الصينيين. كذلك، تسمح الشراكة مع رواد في عالم التكنولوجيا على غرار الشركتين الإسكندنافيتين “نوكيا” و”إريكسون” – اللتين تتمتعان بميزة في قطاع البنية التحتية للاتصالات وتعتمدان سياسات شفافة – بالحدّ من احتكار الصين لسوق التكنولوجيا القائمة على الذكاء الاصطناعي.
وبغية تقديم مجموعة أكبر من المنتجات، على الولايات المتحدة معالجة القيود المفروضة على التصدير التي تؤثر على الدول الخليجية. فشراء طائرات أمريكية بدون طيار عملية معقّدة، وعلى دول الخليج الاكتفاء بشراء طائرات أمريكية بدون طيار لا يمكن استخدامها كسلاح على غرار “بريداتور إكس بي” (Predator XP). ومن الضروري أن تشدّد واشنطن على أهمية شراكاتها مع الخليج وغيره من الدول الحليفة من خلال التوصل إلى حل أسرع لمشكلة القيود على مبيعات الأسلحة وإلا تخاطر بالخضوع لبكين في الشرق الأوسط.
والأهم أنه على الولايات المتحدة أيضًأ التركيز على المخاطر الأمنية المحدقة بإقامة شراكة مع الشركات الصينية. فالقانون الإلزامي الصادر عن الصين في 2017 – الذي يتعين بموجبه على الشركات الصينية على غرار “هواوي” تقديم المعلومات الاستخباراتية إلى الحكومة الصينية إن طلبت ذلك – كشف عن الاندماج المقلق بين الشركات الخاصة الصينية والحكومة الصينية. وفي الحالات التي تستخدم فيها دول على غرار السعودية عدة مزودين في مجال الذكاء الاصطناعي إلى جانب التكنولوجيا المتقدمة الصينية، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أن يضمنوا أن تكنولوجيتهم مضمونة بأكبر قدر ممكن للحدّ من البيانات المكشوفة.
أضف إلى ذلك، يتعين على الولايات المتحدة استخدام الجودة كوسيلة لمنافسة المنتجات الصينية. وتُعتبر الطائرات الأمريكية بدون طيار موثوقة على نحو أكبر إذ تتمتع بتقنيات نقل وأجهزة رصد وصواريخ أفضل من نظيراتها الصينية، وسيختار العملاء التكنولوجيا الأمريكية، إن كانت متوافرة. وكي تتمكن من منافسة الصين، على الولايات المتحدة التخفيف من بعض القيود لتعزيز تنافسيتها في الخليج العربي. فالشركات الأمريكية تملك أساسًا مقومات النجاح: كانت “أي بي أم” من أوائل الشركات التي ابتكرت مفهوم “المدينة الذكية”. وفي حين أنه حاليًا، تضم “أي بي أم” و”بلانتير” و”سيسكو” نسبة صغيرة من الشركات المتواجدة في السوق العالمي للمراقبة القائمة على الذكاء الاصطناعي، تبقيها مصداقيتها شريكًا ممكنًا.
ويندي روبينسون
معهد واشنطن