تدور معظم المخاوف التي يسوقها معارضو الاتفاق النووي الإيراني من العرب، حول أن رفع العقوبات الدولية، الأميركية خصوصاً، سوف يتيح لإيران الوصول إلى ما لا يقل عن 80 مليار دولار من أموالها المجمدة في بنوك غربية (قدرها وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بما بين 50-60 مليار دولار)، وأن ذلك سوف يسمح لإيران بضخ مليارات الدولارات في عروق حلفائها في سورية والعراق ولبنان واليمن، ما يوفر لهم مقومات الصمود، ويدفعهم نحو مزيد من التشدد والتمدد.
وعلى الرغم من أن سياسات تقليص منابع التمويل الإيرانية وتجفيفها، شكلت، وما تزال، أهم الأدوات التي استخدمتها إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، لدفع إيران إلى التخلي عن برنامجها النووي، إلا أن من المهم الانتباه إلى أن الصراع الذي تخوضه إيران لتثبيت دعائم مشروعها الإقليمي، الممتد من جبال هندوكوش في أفغانستان وحتى شواطئ البحر المتوسط، لا يتم بالتدخل العسكري المباشر، وهو لا يتطلب من ثم موازنات ضخمة أو تكاليف باهظة. على العكس، يعد الصراع الذي تخوضه إيران في المنطقة من الصراعات قليلة التكلفة، من الناحيتين المادية والبشرية.
خلال القرن الماضي، توصلت إيران، وهي المحاطة بقوى كبرى، أو على تماس مع نفوذ قوى كبرى (روسيا والدولة العثمانية، فيما بعد تركيا، فضلاً عن الوجود البريطاني، ثم الأميركي، في مناطق الخليج وأفغانستان وشبه القارة الهندية) إلى صعوبة توسيع نفوذها بشكل مباشر. لذلك، اعتمدت سياسة اختراق مجتمعات الدول المجاورة، عبر استمالة فرق وأقليات مهمشة من الشيعة وغيرهم، واستغلال “مظلوميتهم”، لتنصيب نفسها حامياً لهم ومدافعاً عن مصالحهم. وقد استخدمت إيران هذه السياسة في عهد الشاه، كما في عهد الولي الفقيه، حيث جرى اختراق شيعة لبنان والعراق وباكستان والخليج، منذ خمسينيات القرن الماضي (قدم الإمام موسى الصدر من قم إلى لبنان عام 1959).
وباستثناء الحرب العراقية –الإيرانية، والتي يدور خلاف كبير بشأن من بدأها وكيف ومتى، لم تدخل إيران في مواجهة عسكرية مباشرة مع أي قوة خارجية ذات شأن خلال القرن الماضي، بما فيها إسرائيل وأميركا اللتان تفننت إيران في ابتداع مفردات وخطابات العداء لهما، بل استخدمت، بدلاً من ذلك، قوى محلية (شيعة وفرق إسلامية أخرى) لتحقيق أهدافها في الدول والمجتمعات المعنية، وبأقل التكاليف السياسية والمالية والبشرية، فحاربت نظام الرئيس صدام حسين بدم الشيعة العراقيين في انتفاضة 1991 (تفعل الشيء نفسه اليوم في مواجهة تنظيم الدولة) وأثخنت أميركا بدم العراقيين بعد عام 2003، وأوجدت موطئ قدم لها على شاطئ المتوسط، وفي الصراع العربي-الإسرائيلي بدم الشيعة اللبنانيين، وتواجه السعودية، اليوم، في اليمن بدم الحوثيين الذين هناك من يتهمهم بالتحول عن الزيدية إلى الشيعية الإمامية، وتحارب للحفاظ على نفوذها في سورية بدماء السوريين، من جميع المذاهب والطوائف، وترسل لهم المدد مليشيات شيعية من قوميات مختلفة عربية وأفغانية وباكستانية وغيرها.
ما ما يقال عن سيل الدعم المالي الذي تجريه إيران على حلفائها، فهذا أيضاً غير مثبت، وفيه كلام مرسل كثير. لا شك أن إيران تقدم دعماً مالياً لحلفائها، خصوصاً حزب الله، وكذا النظام السوري، لكن الحقيقة التي كشفت عنها صحيفة نيويورك تايمز في العام 2012، هي أن معظم الدعم المالي الذي تلقاه النظام السوري بعد الثورة كان يأتي من أموال النفط العراقية، وليس من إيران، وإنْ بطلب إيراني. ففي ذلك العام، كانت إيران قد بدأت تئن تحت ضغط العقوبات التي فرضتها عليها إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، خصوصاً المتعلقة بحظر تصدير النفط، أي أن إيران كانت فعلياً تخوض الصراع في سورية بدم الشيعة، العرب خصوصاً (العراقيين واللبنانيين) وبأموال عربية أيضاً (عراقية)، ما يجعل التكلفة عليها صفرية تقريباً.
مواجهة المشروع الإيراني الذي يمزق نسيج المجتمعات العربية، ويقوّض أركان دولها وينشئ كيانات موازية نقيضة لفكرة الدولة، يتطلب استراتيجية مواجهة متكاملة، تقوم على ثلاثة أركان أساسية، أولها انتزاع الأداة (المدية) التي تستخدمها إيران لضرب مجتمعات المنطقة، أي انتزاع الشيعة العرب وغيرهم من الفرق الإسلامية من يد إيران، واستعادتهم إلى أحضان دولهم ومجتمعاتهم، وهذا لا يكون إلا بقيام دولة وطنية جامعة لكل أبنائهم، يسودها القانون الذي لا يفرق بين الناس، إلا بما كسبت أيديهم، علماً أن دولة الظلم التي سادت ومازالت في أنحاء العالم العربي لا تفرق في غشمها بين المذاهب والطوائف، عندما تستميت في الدفاع عن مكاسب نخبها ومصالحهم، بدليل ما يجري في العراق اليوم، حيث لا يبدو لنا أن الشيعة أفضل حالاً كثيراً من أخوانهم السنة، في ظل دولة الفساد والاستبداد والمحاصصة التي رعتها إيران، شراكة مع من أطلقت عليه اسم “الشيطان الأكبر”.
ثانياً، دعم المرجعية الشيعية العربية في استعادة دورها، وتقديم كل ما من شأنه تمكينها من الصمود في وجه المحاولات الإيرانية المستمرة لتحجيمها وإلغائها، وما يجري اليوم من محاولات لتصعيد دور مرجعية قم على حساب النجف، إنما يجري في هذا السياق، ويمثل بالنسبة لكثيرين صراعاً حقيقياً بين مرشد الثورة الإيرانية، علي خامنئي، ومرجعية النجف العربية التي يمثلها علي السيستاني، بين ولاية الفقيه التي يشكل تيار نوري المالكي رأس حربتها السياسية في العراق ودعاة الدولة المدنية التي تدعمها الحوزة العلمية النجفية.
ثالثاً، الكف عن استخدام أي خطاب طائفي أو مفردة طائفية، خصوصاً في وسائل الإعلام، فالصراع الذي يجري اليوم في حقيقته عربي-إيراني، وليس سنياً-شيعياً، فالشيعة العرب، كما السنة العرب، هم ضحايا صراع لا طائفي، جرى تحويله إلى صراع طائفي، استثمر فيه كثيرون، وفي مقدمتهم إيران التي لم يعنها يوماً مصير الشيعة العرب أو مستقبلهم، دع جانباً السنة العرب. ما يعنيها مصالحها، وليكن معلوماً أن إيران مستعدة أن تكف عن لعب دورها المحبب “حامية للمذهب الشيعي”، إذا تطلبت مصالحها ذلك، وهي التي ساندت، بالمال والسلاح، أرمينيا المسيحية في مواجهة أذربيجان الشيعية في نزاعهما على إقليم ناغورنو كرباخ في تسعينيات القرن الماضي، وسنراها على الأرجح، في وقت ليس بعيداً، تدعم بعض الشيعة العراقيين في مواجهة شيعة عراقيين آخرين.
هذه هي الأركان الثلاثة التي يجب العمل عليها لمواجهة الاستراتيجية الإيرانية، لا أن نحاول تعطيل الاتفاق النووي، خشية أن يسمح ذلك لإيران باستخدام الأموال المفرج عنها في تصعيد الوضع الإقليمي، لأن إيران، كما ذكرنا، لا تنتظر هذه الأموال لتنفقها على صراعها معنا، فهي تحارب بدمائنا وتنفق من أموالنا، وما كان هذا ليكون، لولا أن الدولة العربية اختارت أن تتخلى عن بعض أبنائها لإيران، لتستخدمهم ضدها، ولولا أن المرجعية الشيعية العربية اختارت أن تتخلى عن ممارسة مسؤولياتها، وأن تصمت عن محاولات إيران تحجيم دورها.
مروان قبلان
صحيفة العربي الجديد