في ظلّ التعقيدات وحال الضعف التي يمرّ فيها العراق هذه الأيّام، جاء افتتاح معبر عرعر الحدودي مع المملكة العربية السعودية ليبعث نوعا من الأمل بوجود ضوء ما في نهاية نفق مظلم. تكمن أهمّية شعاع الأمل هذا في أنّه يبعث ببعض التفاؤل بأنّ العراق ما زال يقاوم. يقاوم عبر قنوات عدّة من بينها إعادة ترميم علاقاته العربيّة بفضل تصميم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
وضع الكاظمي نصب عينيه إعادة التوازن إلى السياسة العراقية، داخليا وإقليميا وخارجيا. يدرك أنّ مثل هذا التوازن الذي قد يُستعاد يوما شرط ضروري في حال كان العراق يريد إيجاد موقع له في المنظومة الإقليمية التي ينتمي إليها والتي هو أصلا جزء لا يتجزّأ منها.
تبدو عملية إعادة التوازن هذه، التي تمرّ في نزع سلاح القوى غير الشرعية مثل ميليشيات إيران، في غاية الصعوبة. يزيد من صعوبتها الإصرار الإيراني على اعتبار العراق مجرّد مستعمرة تدار من طهران. لعلّ أكثر ما يدلّ على مدى الإصرار الإيراني على منع العراق من إعادة ترميم علاقاته العربيّة الحملة التي انطلقت من جيوب موالية لإيران تركّز على أن الاستثمارات السعودية في العراق نوع من “الاستعمار”.
هل وصل التخلّف في أوساط عراقية معيّنة، مرتبطة عضويا بالمشروع التوسّعي الإيراني، إلى اعتبار من يوظّف في مشاريع داخل العراق يمتلك عقلية المستعمر؟ إنّه بالفعل تسخيف لكلّ القواعد التي تقوم عليها العلاقات بين الدول في القرن الواحد والعشرين، فكيف الأمر بين دولتين جارتين عضوين في جامعة الدول العربية، وبين المؤسّسين لها، يربط بينهما تاريخ طويل وتواصل على كلّ صعيد، بما في ذلك بين العشائر والعائلات العراقية والسعودية؟ الأكيد أن رئيس الوزراء العراقي في وضع لا يحسد عليه. لكنّ الأكيد أيضا أنّه يحاول.
ليس إعادة فتح المعبر، بعد ثلاثة عقود على إغلاقه إثر اجتياح للكويت في العام 1990، سوى دليل على وجود رغبة عراقية في تفادي فقدان الأمل كلّه والدخول في مرحلة اليأس… اليأس من أن هناك مستقبلا أفضل للعراق وأن مصيره لن يكون أفضل من مصير سوريا ولبنان واليمن.
ما يدعو إلى المحافظة على الأمل أن العلاقات الجديدة، أو المتجدّدة، بين السعودية والعراق ليست ذات طابع عاطفي. جاءت العلاقات، بما في ذلك إعادة فتح معبر عرعر، بعد زيارات متبادلة عدّة بين وفود من البلدين. ضمّت هذه الوفود اختصاصيين يعرفون تماما ما الذي يمكن عمله وما الذي يجب تفاديه. كان الهمّ الأوّل للمشاركين في هذه الوفود العثور على مشاريع مشتركة قابلة للحياة ومنتجة يستفيد منها البلدان من جهة وتخدم مصلحة العراق الذي يعاني من أزمة اقتصادية عميقة من جهة أخرى. أين العيب في ذلك، أين العيب في خلق فرص عمل للعراقيين؟ العيب الوحيد في أن العراق يريد أن يكون بلدا منفتحا على كلّ دول المنطقة، بما في ذلك إيران. يعتبر أن ذلك في مصلحته، مثلما أن في مصلحته محاربة الفساد والسعي إلى إقامة تعاون في العمق مع إقليم كردستان على الرغم من الضائقة المالية التي يعاني منها البلد.
حرص الكاظمي على الذهاب إلى طهران في إطار جولة كان مفترضا أن تشمل الرياض أيضا. لكن زيارة رئيس الوزراء العراقي للسعودية تأجلت في حينه لأسباب مرتبطة بإجراء الملك سلمان جراحة لاستئصال المرارة. تأجلت الزيارة. ما لم يتأجل هو المشاريع المشتركة مع السعودية وذلك في سياق البحث عن التوازن المنشود للعراق.
طبيعي اشتداد الحملة الإيرانية على التقارب السعودي – العراقي. هناك في الوقت الحاضر نظام إيراني أكثر عدوانية تجاه دول المنطقة. يخشى هذا النظام إفلات العراق منه. هذا ما يفسّر إلى حد كبير إطلاق صواريخ في اتجاه السفارة الأميركية في بغداد عشية افتتاح معبر عرعر بكلّ ما يرمز إليه من إصرار عراقي على البعد العربي للبلد بمواطنيه الشيعة والسنّة.
لا يمكن وضع الروح العدوانية لإيران، التي ازدادت هذه الأيّام، خارج إطار فشل دونالد ترامب في الفوز بولاية ثانية وبدء العمل من أجل تشكيل إدارة جديدة برئاسة جو بايدن. من الواضح أن إيران تنوي التفاوض مع الإدارة الجديدة من موقع قوة وعن طريق تأكيد أنّها تمسك بأوراقها العراقية والسورية واللبنانية واليمنية بطريقة جيدة وبإحكام شديد.
ليس العراق وحده المكان الذي تكشف فيه إيران مدى عدوانيتها من خلال مشروعها التوسعي. تصرّ إيران على تأكيد أنّ وجودها في سوريا أبدي وأنّ خطتها الهادفة إلى تغيير طبيعة التركيبة السكانية لسوريا مستمرّة. هذا ما يفسّر الوجود الكثيف لميليشيات إيرانية في مختلف أنحاء سوريا، خصوصا في محيط دمشق وعلى طول الحدود مع لبنان.
ما ينطبق على سوريا ينطبق على لبنان حيث تمنع إيران عبر “حزب الله”، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، تشكيل حكومة لبنانية. تطرح إيران صراحة تغيير طبيعة النظام اللبناني عبر تفكيك مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى. تستخدم “حزب الله” وسلاحه الموجّه إلى صدور اللبنانيين بطريقة فعالة… “حزب الله” يستخدم بدوره حليفه المسيحي، أي “التيّار الوطني الحر” الذي يرأسه جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية ميشال عون بأفضل طريقة ممكنة. يحصل ذلك كلّه كي يتبيّن أن لبنان ليس سوى جرم يدور في الفلك الإيراني، خصوصا بعدما صار “حزب الله” يقرّر من هو رئيس الجمهورية المسيحي في هذا البلد.
يبقى اليمن حيث يمارس الحوثيون (أنصار الله) سياسة هجومية أكثر من أي وقت. بعد وصول سفير إيراني جديد إلى صنعاء حديثا، لم يعد من شكّ في أن “الجمهورية الإسلامية” استطاعت تطويع الحوثيين كلّيا ووضعهم في خدمة مشروعها. لم يعد هناك في العاصمة اليمنية، التي وضع “أنصار الله” يدهم عليها، من يستطيع القول إن لدى الحوثيين أي هامش، ولو ضيّق، يسمح بأي اختلاف من أيّ نوع مع إيران.
إلى أيّ حدّ يستطيع العراق المحافظة على مقاومته للمشروع الإيراني؟ الكثير سيعتمد على الإدارة الجديدة في واشنطن. ليس معروفا بعد هل سيكون جو بايدن ذا سياسة خاصة به… أم يكون باراك أوباما آخر!
العرب