خفضت جائحة فيروس كورونا التي تجتاح العالم من النشاط الدبلوماسي العالمي، وتراجعت الزيارات الثنائية والقمم الدولية وعوضتها القمم عبر فيديو كونفرانس. لكن المفارقة أن شمال إفريقيا وغربها يشهدان دينامية خاصة بزيارات أوروبية متعددة، لا ترمي إلى تعزيز التعاون والمساعدة بل الضغط لإيقاف الهجرة غير القانونية.
وهكذا، شهدت عواصم الرباط وتونس والجزائر ونواكشوط وداكار خلال المدة الأخيرة موجة من الزيارات التي قام بها وزراء خارجية وداخلية أوروبا، وبالخصوص إسبانيا وفرنسا لبحث ملف الهجرة غير المنتظمة التي تنطلق من شمال إفريقيا وشواطئها الغربية نحو الشواطئ الأوروبية، وساهمت بدورها المفوضية الأوروبية في تكثيف مباحثاتها مع العواصم المذكورة حول الهجرة. وهذه المباحثات تهدف إلى تحقيق هدفين، الأول وهو إقناع الدول الجنوبية بتشديد الحراسة في شواطئها لمنع انطلاق قوارب الهجرة والتي تسمى كذلك بقوارب الموت لما تخلفه من مآسي الغرق والفقدان في البحر، والثاني هو استقبال مواطنيها المقيمين بطريقة غير قانونية في الديار الأوروبية.
وتطبق الدول الأوروبية سياسة العصا والجزرة، فمن جهة، تعرض على هذه الدول برامج وآليات ومعدات لتعزيز حراسة الشواطئ لمنع قوارب الهجرة، ومن جهة أخرى تهدد بوقف المساعدات ومنع التأشيرات عن مسؤولي هذه الدول إذا تقاعسوا في محاربة الهجرة، إذ سيصبح منح التأشيرة مرتبطا بترمومتر خاص وهو: مستوى التزام مسؤولي أي بلد بمحاربة الهجرة. وليس بغريب أن مقترح التهديد والوعيد تقدم به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى دول الاتحاد، وهو الذي أصبحت قراراته ومقترحاته تضرم النار في العلاقات الدولية وتشبه الحرائق التي تعصف بأستراليا أو كاليفورنيا كل موسم صيف.
وعموما، هذه الزيارات المرفقة بالتهديدات لن توقف ظاهرة هجرة القوارب. فهي الظاهرة التي تجاوزت العقد الثالث وستستمر، وهي نتاج الخلل بين عالم غني واغتنى بفضل تقدمه العلمي، ولكن كذلك بفضل نهب خيرات وموارد المستعمرات، وعالم فقير بسبب الاستعمار والتخلف العلمي وزاد من فقره سوء الأنظمة والإدارة.
ولا بد من التنبيه إلى ظاهرة خطيرة تكشف أنانية أوروبا هي استمرار لسياسة النهب وإن كانت بطريقة غير مباشرة يمارسها الاتحاد الأوروبي وتعرقل التنمية في الدول الواقعة جنوب المتوسط، وهي هجرة الأدمغة التي تشجعها الدول الأوروبية ولا تحاربها عملا بشعار «مرحبا بالمهاجر الغني والمهاجر الخبير والطرد للمهاجر الفقير». فقد فقدت الجزائر خيرة أطرها إبان الحرب الأهلية غير المعلنة في التسعينيات، هاجر مهندسون وأطباء وخبراء إلى أوروبا وأساسا فرنسا. وخلال منتصف شهر تشرين الثاني /نوفمبر الماضي، جاء في تقرير لمنظمة أوكسفام أن «السياسات التجارية التي يتبعها الاتحاد الأوروبي نحو دول شمال إفريقيا، خصوصاً في المغرب وتونس، ساهمت في فقدان الوظائف واستنزاف وهجرة العقول». ولنتأمل مدى تأثير ما أشارت إليه أوكسفام على التنمية في دول الجنوب.
ومع الجائحة، سترتفع ظاهرة قوارب الهجرة كما يحدث الآن، فدروس التاريخ تخبرنا أنه لا يمكن بناء سياجات وأسوار ضد الفقر والحرمان. لن تنفع الرادارات المتقدمة والزوارق النفاثة لحرس الحدود في وقف الظاهرة. فدول جنوب البحر المتوسط ومعها إفريقيا تعيش مع جائحة كورونا أسوأ السنوات الاقتصادية منذ عقود، ويتطلب الأمر مساعدة حقيقية.
لقد استطاعت أوروبا إعادة بناء أوطانها بعد الحرب العالمية الثانية المدمرة بفضل مشروع مارشال الأمريكي. وحبذا، بدل التهديد، لو خصص الاتحاد الأوروبي برامج مالية حقيقية لمساعدة دول جنوب المتوسط وباقي إفريقيا لمواجهة هذه الجائحة التي لديها مفعول حرب مدمرة.
التعاون الدولي هو الطريق الأنجح والصائب لمواجهة ظاهرة متشابكة ومعقدة مثل الهجرة السرية وليس سياسة الأسوار والتهديد والنفاق.
القدس العربي