شهدت العلاقات بين الأتراك والعرب مرحلة من الفتور، بعد الدولة العثمانية، لكنها سرعان ما استعادت زخمها في ثلاثينيات القرن الماضي، بفضل الصداقة التي كانت قائمة بين مصطفى كمال أتاتورك وملك العراق فيصل. وبعد وفاة أتاتورك عام 1938 واستلام عصمت إينونو مقاليد الحكم، انقطعت علاقات تركيا من جديد مع العالم العربي. وقد استمر الانقطاع هذه المرة لفترة طويلة، لكن الجانب التركي أرسل وفدًا في الستينيات إلى البلدان العربية، بغية تطوير العلاقات معها. وكان على رأس الوفد آنذاك العقيد سعدي كوتشاشْ، وهو سياسي بارز شغل منصب وزير الدولة ونائب رئيس الوزراء في تلك الفترة. أفرد سعدي كوتشاشْ، مساحة واسعة في مذكراته «منذ أتاتورك وحتى 12 مارس» لجولات قام بها في شهر رمضان إلى العراق والكويت ومصر والأردن وفلسطين وسوريا والسعودية ولبنان، وكانت مليئة بالعِبر والدروس.
لقي الوفد التركي حفاوة ومحبة كبيرة للغاية في جميع البلدان العربية التي زارها، حتى أن الشوارع امتلأت بالمواطنين، الذين يريدون رؤية الوفد، وسط محاولة من البعض للتحدث باللغة التركية، بكلمات متواضعة كانت في أذهانهم. لا شك في أن هذا المشهد كان يجسّد في الحقيقة الشوق الكبير تجاه الدولة العثمانية.
تشكل الخلافات بين الأتراك والعرب مصدر حزن كبير للغاية ولا شك بأن انقطاع العلاقات ألحق أضرارًا كبيرة بالطرفين
بعد فترة وجيزة من عودته إلى أنقرة، كتب كوتشاشْ مقالًا في مجلة «الشرق الأوسط» يلخّص فيه هدف جولاته على النحو التالي: «في الأيام الأولى من عام 1965 قمنا بزيارة للشرق الأوسط مهمتها إبلاغ البلدان العربية المسلمة الصديقة والشقيقة، برغبة الشعب التركي في إقامة علاقات أفضل، وتحقيق الرغبات الصادقة لدى شعوبنا التي تتمتع بروابط تاريخية وتقليدية ودينية، بصفتنا نمثل الدولة». يزود كوتشاشْ الرأي العام التركي في مقاله بالملاحظات التالية التي شاهدها خلال جولاته: «كانت انطباعاتنا إيجابية جدًا. فقد مددنا يد الصداقة إلى البلدان العربية الشقيقة، ورأينا كذلك مشاعر الصداقة تجاهنا، من جميع العرب الذين التقينا بهم، وليس فقط من رؤساء الدول والحكومات ورجالات الدولة. إن الاهتمام الذي أظهروه لوفدِنا، والعبارات التي قالوها لا تزال تحافظ على كامل حيويتها وإخلاصها، ومازلت أشعر بحماسة وسعادة تلك اللحظات، رغم مرور 10 أشهر». والآن، تخيلوا المعاني التي يحملها الحوار التالي المفعم بالحيوية في مذكرات كوتشاشْ: «أحد رجالات الدولة القدامى، أمسك يدي والنور يشع من وجهه، ثم وضعها في كفه وقال بلغة تركية سلسلة، وهو يذرف الدموع: «لا أصاب الله بمكروه هذه الأيدي التي تسعى لتوحيد قومين شقيقين فقدا بعضهما بعضا، منذ 50 سنة. أرجو أن تكون كل خطوة تخطونها بمثابة سنة من العبادة، وأن يرضى الله والرسول عنكم». لا يمكنني إلا وصف هذا الكلام بأنه لطف شخصية دبلوماسية ونتيجة لمشاعر وحماسة مسلم نقي ومخلص. سوف أحتفظ بهذه الكلمات الصادقة باعتبارها أعظم ذكرى ومكافأة في حياتي وخدماتي».
عندما زار الوفد التركي الأراضي الفلسطينية استقبله حشد كبير من السكان بحماسة وهتافات ترحيب، رغم الطقس الممطر في ذلك اليوم. وتقدم العالم الفلسطيني اللطيف ذو اللحية البيضاء الشيخ محمد علي الجابري، باسم الشعب، من أجل استقبال أعضاء الوفد التركي ليحضُنهم ويقبّلهم جميعًا، حتى يروي بذلك شوقه تجاه الأتراك، ثم يلتفت الجابري نحو مئات الفلسطينيين القادمين لاستقبال الوفد، ويقول لهم: «أيها الناس! هؤلاء أتراك. أليس واضحًا؟ فهذه الرحمة لا تأتي سوى بأقدام الأتراك المباركة، لا حدود للدماء التي قدموها ضد أعداء الدين في هذه الصحارى حتى لا يتركونا نحن والروضة المطهرة والكعبة والمسجد الأقصى وقبة الصخرة والأمة العربية، التي يقولون عنها قوم نجيب، لولا قلعة القدس التي بناها الأتراك لما بقي مسلم حي واحد في السنوات الماضية». يؤكّد كوتشاشْ أنه عندما نظر في وجوه الفلسطينيين رأى دموعهم أثناء استماعهم للخطاب الطويل الذي ألقاه الشيخ الجابري. ويقول إن هذا الشيخ لم يفارقهم لغاية انفصال فلسطين والأردن عن بعضهما، وإنه عندما عاد إلى تركيا أراد دعوته إليها عام 1966 لكن لم يستطع التواصل معه بسبب الحرب العربية – الإسرائيلية. ويصاب بالدهشة عندما يقرأ خبرًا في إحدى الصحف: «شاهدت في أحد الأيام صورة منشورة في صحيفة أولوس. ارتجفت عندما أمعنت النظر في الصورة التي تظهر رجل دين مسنا يرتدي جبّة وعمامة ويحمل بندقية، وصدره وأمعَاؤه مكشوفة بين جنود في أفواههم سجائر. هذا الشخص كان الشيخ الجابري، والحراس كانوا جنودًا لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي. شعرت وقتها بحزن كبير».
خلاصة الكلام، تشكل الخلافات بين الأتراك والعرب مصدر حزن كبير للغاية ولا شك أن انقطاع العلاقات ألحق أضرارًا كبيرة بالطرفين. لقد بدأت العلاقات التركية – العربية بالارتقاء في عهد الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال، وبلغت ذروتها مع الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، وأظهرت التطورات الأخيرة في المنطقة بشكل واضح مدى حاجة الأتراك والعرب لبعضهم بعضا، رغم التوتر الذي شاب العلاقات مؤخرًا. من المؤكد أن الانفصال المؤسف للعالم العربي عقب انهيار الدولة العثمانية مليء بقصص يمكن أن تكون موضوعًا رئيسيًا لمجلدات ضخمة. لذلك، دعونا نبني المستقبل معًا حتى لا تتكرر تلك الأيام المحزنة مرة أخرى..
القدس العربي