يسعى الباحثون في ديناميكيات السياسات الدولية إلى تفسير ما إذا كان الوقت قد حان بالفعل للقوى الكبرى لإعادة التفكير في صياغة منطق استراتيجي عالمي جديد لمجاراة التحولات الجيوسياسية المتسارعة، وذلك بالنظر إلى حجم الصراعات العسكرية والتجسسية والسيبرانية المنتشرة في كل نقطة من الأرض لأن طبيعة التوترات تغيّرت بشكل كبير عما كانت عليه قبل قرن من الزمن.
باريس – يجادل المفكر الاستراتيجي العسكري الأميركي إدوارد لوتواك تماما مثل العديد من الباحثين السياسيين الآخرين بأن المنطق العالمي للاستراتيجية ينطبق في مساواة تامة على كل ثقافة في كل عصر، وهذا يعني أن هناك بالفعل منطقا واحدا متأصلا في هذا التمشي منذ عقود طويلة.
وهذا المنطق لم تستطع القوى العظمى التحايل عليه خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تشكلت بعدها قوى جديدة تجسدت في عالم ذي قطبين وهما الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة- دخلت في حروب باردة وصراعات جيواستراتيجية ليصل العالم إلى ما هو عليه اليوم لاسيما بعد ظهور العولمة التي جعلت الجبهات مفتوحة أمام الجميع.
ويدعم ذلك الأسلوب فكرة “عالمية منطق الاستراتيجية” بالحجة القائلة إن “الحرب نشاط بشري وأن الطبيعة البشرية لم تتغير على مر الزمن”، بيد أن بعض المحللين يقولون إن هناك وحدة أساسية لجميع الخبرات الاستراتيجية في جميع فترات التاريخ لأنه لا يوجد شيء حيوي لطبيعة ووظيفة الحرب للحفاظ على المصالح.
وثمة أمثلة كثيرة للصراعات المنتشرة على رقعة واسعة من الأرض، والتي لم يتم حلها بالاستراتيجيات الراهنة، ويبرز من خلالها كيف أن القوى الكبرى، في مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا والصين، وحتى القوى الناشئة الأخرى، مثل تركيا وإيران، التي ظهرت وفق سياقات معينة تعمل على استفزاز كل منها الآخر خدمة لأجنداتها السياسية الخارجية.
فالأزمات المتعددة في الشرق الأوسط، ومن أبرزها سوريا واليمن والعراق وليبيا، والأماكن المختلفة التي تشهد نزاعات في قارة أفريقيا وكذلك ما يحصل في القوقاز يعطي لمحة كيف أن أبرز الفاعلين على الساحة الدولية لم يجدوا الوصفة المثالية لتأكيد صواب استراتيجياتهم الخارجية.
وعلى سبيل المثال، إذا تم استعراض نطاق تغول إيران عبر دعم ميليشياتها الشيعية في لبنان وسوريا والعراق واليمن، يمكن أن يحصل المتتبع لتلك الديناميكيات نظرات متعمقة وكاشفة حول المنطق الاستراتيجي الذي يوجه عملية صنع القرار في طهران. ونفس الأمر ينطبق على تركيا التي تتدخل في سوريا وليبيا.
وترى الباحثة ساندرا ج. بانديمر المتخصصة في التاريخ والعلوم السياسية في جامعة أل.أم.يو في ميونخ في تقرير نشرته مجلة “موديرن دبلوماسي” الأوروبية أنه يبدو من الطبيعي إلى حد ما قبول حتمية معينة من الاستنتاجات الاستراتيجية في خضم ما يحصل. وترى أنه استنادا على ذلك فإنه من الضروري طرح السؤال الجوهري حول ما هي الآثار المترتبة على وجود منطق عالمي جديد للاستراتيجية.
وإذا تم افتراض وجود مثل هذا المنطق الصالح عالميا، فإن أولئك الذين يفهمون أو بالأحرى يتقنونه بشكل أفضل ويتمكنون من الكشف عن الآليات المعرفية الأساسية الخاصة به سيكونون الفاعلين الأكثر نجاحا داخل النظام العالمي حيث سيكونون أكثر قدرة على التنبؤ، وبالتالي مواجهة استراتيجيات المعارضين المحتملين.
وفضلا عن ذلك، فإن التحقيق في فكرة منطق الاستراتيجية مهم بالنظر لاحتمالات الحروب المستقبلية وإذا كان كذلك، فلن يكون لسيناريو الفضاء الخارجي العسكري ولا اختراع أسلحة بيولوجية شديدة الفتك ولا التغلب عليها أو التطوير والاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي أي تأثير كبير ومتغير.
وتتطابق هذه المقاربة مع نظرية الكاتب البريطاني الأميركي في الجغرافيا السياسية وأستاذ العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية في جامعة ريدينغ، كولين غراي، الذي يزعم أنه سيكون من المغالطة الكبرى الوقوع فريسة لافتراض أن اختراع أنظمة لأسلحة أكثر حداثة قد يغير الاستمرارية المفترضة المتأصلة في الاستراتيجية.
وانطلاقا من ذلك، تؤكد بانديمر أنه يجب التأكيد على أن هناك ثقة معينة في المنطق الاستراتيجي بشكل عام تبين أنه صالح عالميا ويجب التعامل معه بعناية لأنه يُلمح بوضوح إلى ممارسة الاستراتيجية ذاتها.
وتطور مصطلح الاستراتيجية بمرور الوقت، وقد اكتسب معنى مختلفا قبل الحرب العالمية الأولى عما هو عليه اليوم، وقدم الباحث البريطاني لورانس فريدمان رؤيته عن ذلك في كتاب أصدره في العام 2007 بعنوان “معنى الاستراتيجية: قصة الأصل”، والذي طرح من خلاله التجربة التي أدت إلى توسيع ذلك المفهوم وإلى عدة محاولات لإعادة تعريف ذلك.
وتلك الرؤية فرضت تباعدا عن المفاهيم السابقة لما تعنيه الاستراتيجية في السياسات الدولية على النحو، الذي قدمه كارل فون كلاوزفيتز، وهو جنرال ومؤخر حربي بروسي ظهر في القرن الثامن عشر، حيث تركت كتاباته حول الفلسفة والتكتيك والاستراتيجية وخاصة في مؤلفه بعنوان “من الحرب” أثرا عميقا في المجال العسكري في البلدان الغربية حتى اليوم.
ويعتبر البعض أنه عند الاقتراب أكثر من مفهوم منطق الاستراتيجية، فمن الضروري الانتباه لعاملين أساسيين لذلك، أولها الاعتراف بفائدة استخدام القوة العسكرية كأداة مهمة في فن الحكم، أما العامل الثاني فيجب على المرء أن يأخذ في الاعتبار التصور العام الشامل للسياسة الدولية الذي يكمن وراء مجال الدراسات الاستراتيجية على نطاق واسع.
وهنا تفسر الباحثة بانديمر ذلك حينما تقول إن أي فكرة لنظام المساعدة الذاتية الفوضوي مع وجود دول مستقلة في مركزه، وكلها مسلحة إلى حد معين سوف تجد نفسها في معضلات أمنية ضمن هذا الإطار، وبالتالي فإنه على صناع السياسة إعادة ترتيب أولويات دولهم ومصالحها الخارجية وفقا للمتغيرات المتسارعة التي بدأت تسود خلال العقود القليلة الماضية.
العرب