قوى أجنبية تتنصل من مسؤوليتها وترمي الكرة في ملعب الليبيين

قوى أجنبية تتنصل من مسؤوليتها وترمي الكرة في ملعب الليبيين

الأطراف الخارجية المتهمة بتوتير الوضع في ليبيا تسعى لإظهار دعمها لمفاوضات الانتقال السياسي التي تجري في أكثر من مكان، وذلك تمهيدا للحفاظ على مصالحها، وإضفاء شرعية على الاتفاقيات المبرمة مع حكومة الوفاق، لكن المبعوثة الأممية بالنيابة فجرت قضية الوجود الأجنبي بهدف إجبار دول مثل تركيا وروسيا وإيطاليا على سحب قواتها.

أصبحت فجأة كل القوى الأجنبية المسؤولة في نظر دوائر كثيرة عما وصلت إليه الأزمة الليبية من تدهور وتعقيدات، بريئة من ذنوبها وجرائمها، ولديها نوايا مخلصة في التوصل إلى حل سياسي عاجل، ولا علاقة لها بالأوضاع الحالية المخجلة، وقد حاول البعض نفض أياديهم من المشكلات التي تغولت ونفي التناقض الظاهر في المصالح، كأنهم يريدون تحميل تراكمات الأزمة وتبعاتها للقوى الليبية فقط.

خاطب وزير الخارجية الإيطالي، لويجي دي مايو، الجمعة، المشاركين في منتدى حوارات المتوسط في روما، بأن دورهم كممثلين عن دول في الاتحاد الأوروبي ودول البحر المتوسط، هو حماية العملية السياسية التي انطلقت في الأسابيع الأخيرة من “التدخلات الأجنبية”، في محاولة للإيحاء بأن تدخلات روما السابقة وتمركز قوات تابعة لها في مستشفى بمصراتة، ووقوفها في بعض الأوقات مع طرف على حساب آخر، توهمات ولم تكن موجودة أصلا، أو هي على سبيل الاتهامات المغرضة.

تقارير دولية عديدة تؤكد وجود قوات أجنبية على الأراضي الليبية، وعمليات تهريب مرتزقة وأسلحة ومعدات ، وكلها لعبت دورا رئيسيا في تغذية الصراعات وانحازت إلى فئات معينة

قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، الجمعة أيضا، إن بلاده لها دور مهم في “الهدوء الحالي في ليبيا، وذلك نتيجة مباشرة لتنسيقها الجهود مع تركيا”، لافتا إلى أنه “سيكون من الغباء القول إن روسيا تدعم خليفة حفتر، وتركيا تدعم فايز السراج”، وهكذا منح لافروف صك البراءة لبلاده من إرسال قوات “فاغنر” للقتال في ليبيا، وبرّأ أنقرة من إرسال آلاف المرتزقة هناك.

وتحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وعدد من أعضاء فريقه السياسي والعسكري عن الدور المحوري الذي لعبته أنقرة في مساندة حكومة السراج، وتفاخروا بالاتفاقيات المغرضة التي عقدت معها، على غير إرادة البرلمان الليبي، وأسهمت في إحداث خلل كبير على الساحة، ومع ذلك يعتبرون كل هذه التصرفات تتسم بالشرعية، ويحاولون تكريسها مستقبلا.

قبل هذه التصريحات، تعمدت أطراف عديدة الحديث بتفاؤل عن التسوية الموعودة، ودعم المسارات التي مضت فيها على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، لكن اعتراف المبعوثة الأممية بالنيابة إلى ليبيا ستيفاني ويليامز مؤخرا، بأن هناك نحو 10 قواعد عسكرية في ليبيا، وحوالي 20 ألف مرتزق، قلب الطاولة على رأس القوى الخارجية التي تريد التنصل من أدوارها، وكشف وجود ترتيبات لخلق أمر واقع، في الوقت الذي تبذل فيه الأمم المتحدة جهودا كبيرة لضبط العملية السياسية.

التسوية الموعودة
حملت إفادة ستيفاني المفاجئة جملة من المعاني، أبرزها أنها تريد أن تحرج الدول التابعة لها القوات الأجنبية، وتفضح تواطؤ بعض الأطراف الداخلية، وترمي إلى إعفاء نفسها من أي مسؤولية، وهي التي يمكن أن تلملم أوراقها قريبا وتترك مهمتها لمبعوث آخر.

إذا كانت القوى الأجنبية تريد حث الليبيين على العمل لحل الخلافات بينهم، والتي ظهرت ملامحها في ملتقى تونس للحل السياسي، فهذا جيد ويشي بتثبيت الهدوء لفترة أطول، أما إذا كانت تريد أن تعفي نفسها من المسؤولية الأخلاقية لاحقا، فهذا يحتاج إلى تقديم تفسيرات واضحة لما ارتكبه كل طرف من تجاوزات وخروقات.

هناك تقارير دولية عديدة تؤكد وجود قوات أجنبية على الأراضي الليبية، وعمليات تهريب مرتزقة وأسلحة ومعدات في وضح النهار، وكلها لعبت دورا رئيسيا في تغذية الصراعات وانحازت إلى فئات معينة، وحاولت الحصول على مكاسب للجهات التابعة لها، بصرف النظر عن المصير الذي يمكن أن تصل إليه الأزمة الليبية.

المثير أن أصابع الاتهام أشارت إلى تدخلات فاضحة من الدول الثلاث التي ارتفع صوتها مؤخرا، إيطاليا وروسيا وتركيا، ولم يتحدث أحدهم عن علاقته بالقواعد العسكرية العشر التي أشارت إليها ستيفاني، ولم يشر إلى مصير القوات التابعة لهم مباشرة أو من خلال شركات أمن متخصصة.

ويمثل التخلص من التدخلات مطلبا مهما لاتفاق وقف إطلاق النار الموقع بجنيف في 23 أكتوبر الماضي، وشارفت المهلة الممنوحة (45 يوما) لخروج هذه القوات على الانتهاء، فماذا عن مضي هذه الفترة دون خروج القوات الأجنبية؟

هنا تكمن العقدة المركزية، فغالبية القوى الدولية تحاول التنصل من هذا السؤال، وترفض تقديم إجابة شافية له، فالحديث عن التدخلات الأجنبية تحول إلى عنوان فضفاض تتطرق إليه جهات عدة دون أن تعمل على تفعيل الآلية اللازمة لوقفها.

تؤكد هذه النقطة عمق الازدواجية التي يعاني منها المجتمع الدولي حيال ليبيا، فالكل يريد الهدوء والحل السياسي نظريا، ويبخل في تقديم المساعدة التي تعكس هذه الرغبة عمليا، بما يعني أن الإرادة القوية للتسوية لا تزال تتلمس خطاها أو غائبة.

البحث عن مسار عملي

قطعت التسوية شوطا كبيرا في الاجتماعات الأخيرة التي عقدت في تونس والمغرب عبر الملتقى السياسي في الأولى، ولقاءات أعضاء مجلس النواب في الثانية، وهو ما يضع على كاهل الليبيين، مواطنين وسياسيين واقتصاديين وعسكريين، مسؤولية تجبرهم على التخلي عن الأجندات الخاصة، بدلا من البحث عن مزايا ضيقة.

لأول مرة يتم تثبيت وقف إطلاق النار، ولا تجرؤ إحدى الجهات على خرقه بطريقة سافرة، كذلك لأول مرة يتم التطرق جديا إلى عدد من الملفات السياسية لرسم خارطة طريق محددة، ولأول مرة تبدو فيها عزيمة الليبيين قوية تجاه التسوية، وعليهم فقط الالتفاف حول الآليات الناجعة لاختيار المناصب القيادية والخروج من نفقها المظلم.

من الواجب استثمار ملامح الأجواء الدولية والإقليمية المواتية، والمحاولات الحثيثة لتبرئة الذمة، حتى لو كانت لأهداف سياسية تخص أصحابها، فقد تعب الليبيون من الجري وراء المزايدات والمكايدات، ودفعوا ثمنا باهظا لذلك، وأُنفق جزء كبير من ثرواتهم على الميليشيات والعصابات المسلحة والرشاوى، وشركات الأمن الأجنبية.

ولذلك هناك جهات رافضة للمسار الراهن للتسوية وتعمل على تخريبه، ومنع التوصل إلى تفاهمات نهائية تضبط الأوضاع، وغير مستبعد أن تنتهز أي فرصة للعودة إلى المربع الأول من التوترات والمعارك الساخنة، وتعيد الدماء في عروق الميليشيات.

ويقول مراقبون إن نفي بعض القوى الدولية تدخلاتها في الشؤون الليبية، يحمل في جوهره تقديرات تفيد بعدم استبعاد اشتعال الموقف في طرابلس أو غيرها، في ظل توقعات بوجود تجهيزات عسكرية في أماكن مختلفة، يمكن أن تؤدي إلى اشتباكات تمنع اكتمال الخطوات التي يقوم بها برلمانيون وقوى متباينة للتسريع بالحل السياسي.

في كل الأحوال، باتت الكرة في ملعب الليبيين أكثر من غيرهم، وعليهم حسم الخلافات المزمنة، والاستفادة من التغيرات الطارئة في مواقف بعض القوى المنخرطة في الأزمة، ومهما كانت حدة التدخلات الخارجية فهي لا تعمل بعيدة عن أذرعها الداخلية، بالتالي من المهم إيجاد طريقة للفصل بين الجانبين، وتجريم من يثبت تآمره، وتفعيل التوافق حول مراجعة الاتفاقيات التي عقدت الفترة الماضية.

تكمن أهمية هذه الخطوة في أن القوى التي تحاول تبرئة ساحتها في مسألة التدخلات والتوترات، هي ذاتها (تقريبا) التي عملت على عقد صفقات معلنة وخفية مع حكومة الوفاق في طرابلس، أملا في تقنين وجودها ومنحه شرعية قد تمنع إزالته في المستقبل، الأمر الذي يستوجب النظر إلى هذه الزاوية بجدية، حتى لا يأتي الحل السياسي المنتظر مبتورا أو مكبلا بقيود تفقد ليبيا جانبا من استقلال قرارها.

العرب