على الرغم من تدهور الأوضاع المالية والاقتصادية في لبنان، أوضحت النخبة السياسية في البلاد أنها لن تنفّذ الإصلاحات التي أعدّها المجتمع الدولي كشرط مسبق لخطة الإنقاذ. فمن وجهة نظرها، إن التغييرات التي حدّدها “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي” ومؤتمر “سيدر” الذي ترعاه فرنسا قد تعني الانهيار النهائي لطبقتها السياسية، التي يحمي «حزب الله» فسادها وتعاملاتها التجارية غير المشروعة ويشجّعها أيضاً. وبالفعل، فإن ظهور طبقة سياسية علمانية أكثر استقلالية تعكس مبادئ تظاهرات تشرين الأول/أكتوبر 2019 يمثل مصدر قلق شديد للميليشيا وحلفائها في الحكومة، ولذلك آثر هؤلاء إدارة الأزمة بدلاً من حلّها.
وحتى الآن، تفوقت جهود «حزب الله» في إدارة الأزمة بكثير على جهود كل حزب سياسي آخر، ومنظمات المجتمع المدني، وقناة المساعدة الأجنبية. فالهيكل العسكري للحزب، وخبرته التنظيمية، وقدرته على الوصول إلى المصادر البديلة، جميعها عوامل تتيح له اتباع استراتيجيات مؤقتة لتخطي الأزمة الراهنة، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه على استقلاليته عن مؤسسات الدولة، والحفاظ على قدر من الدعم من نواة مجتمعه الشيعي، وثني الشيعة عن الانضمام إلى أي جولات أخرى من الاضطرابات العامة. وعلى المدى الطويل، يبدو أن «حزب الله» يأمل في حدوث تحوّل إقليمي – ربما اتفاق نووي جديد بين الولايات المتحدة وإيران أو شراكة أمريكية – أوروبية مؤاتية بشأن لبنان – يسمح له بحل أزمته المالية الخاصة واستعادة القدرة على الوصول إلى العملة الصعبة، إما من النظام الإيراني أو من خلال آليات المساعدة الدولية.
ومع ذلك، حتى لو بدا «حزب الله» في وضع جيد إلى حد ما لمواجهة العاصفة، فإن الشعب اللبناني – ومعه قاعدة الحزب الشعبية – ليس كذلك. ووفقاً لتقرير جديد لـ “البنك الدولي”، يعيش نصف السكان تحت خط الفقر، وسينضم إليهم المزيد قريباً إذا توقف “المصرف المركزي” عن دعم الأدوية والوقود والقمح والضروريات الأخرى بعد شهرين من الآن كما هو متوقع.
الخطة الصيدلانية
قبل نشوب الأزمة المالية في خريف 2019، كان «حزب الله» يستخدم بالفعل سيطرته على وزارة الصحة للتنسيق مع الصيدليات في جنوب لبنان والبقاع وضواحي بيروت الجنوبية، وذلك بهدف تزويد أفراده وموظفيه بالأدوية بأسعار منخفضة. لكن منذ ذلك الحين، عانت العديد من هذه الصيدليات من عجز وزارة الصحة عن دفع نفقاتها، ومن شح الأدوية الذي بدأ عندما لم يعد المستوردون قادرين على الوصول إلى العملة الصعبة.
ولحل هذه المشاكل، بدأ «حزب الله» في استخدام الدولارات الأمريكية لشراء الصيدليات المتعثرة مالياً، خاصة تلك الواقعة في المدن الكبرى مثل صور والنبطية. ثم أغرق الحزب صيدلياته ومراكز الرعاية الصحية التابعة له بالأدوية السورية والإيرانية المهرّبة عبر الحدود وعن طريق المطار. ومكّنت هذه الأساليب تجار «حزب الله» من تجنّب دفع ضرائب الاستيراد وبيع التجار الآخرين بأقل من السعر الحقيقي. علاوة على ذلك، يجب أن يكونوا قادرين على الحفاظ على هذا النهج حتى بعد توقف “المصرف المركزي” عن دعم التجار الآخرين. وبعد ذلك، بإمكان «حزب الله» قتل عصفورين بحجر واحد – بحيث يواصل جني الأموال من الأدوية الإيرانية مع الحفاظ في الوقت نفسه على دعمه الشعبي.
خطة المساعدة الاجتماعية
في الأسابيع القليلة الماضية، أنشأ «حزب الله» سلسلة جديدة من محلات البقالة أُطلق عليها اسم “مخازن النور”، وافتتح ثلاثة فروع لها في الجنوب، واثنان في البقاع، واثنان في ضاحية بيروت. وكل فرع مليء بالمنتجات الإيرانية والسورية التي تباع بأسعار أقل من أسعار السلع المستوردة في المتاجر المنافسة. وبدخول «حزب الله» هذا القطاع، سيتمكن من جني الأرباح بالليرة اللبنانية، والتي يمكن أن يحوّلها لاحقاً إلى دولارات أمريكية في السوق السوداء.
بالإضافة إلى ذلك، وضع الحزب لأعضائه وموظفيه نظاماً جديداً للضمان الاجتماعي مع “بطاقة الساجد” التي يمكن استخدامها لشراء السلع والحصول على خصومات في “مخازن النور”. وتتم إعادة تعبئة البطاقة بمبلغ 300000 ليرة شهرياً، وهو مبلغ يعتبر قليلاً نظراً لأسعار الصرف الحالية (حوالي 200 دولار أمريكي)، إلا أنه يكفي لإحداث تأثير كبير، لا سيما في المجتمعات الفقيرة. ووفقاً لمصادر «حزب الله» التي استشهدت بها وسائل الإعلام اللبنانية، سيتم توزيع البطاقة في النهاية على العائلات الشيعية الفقيرة، التي يتلقى أساساً الكثير منها البذور، والمعدات، وغيرها من الإمدادات الزراعية من مؤسسة “جهاد البناء” التابعة للحزب.
وبصرف النظر عن تحقيق أرباح إضافية، فإن هذا الجزء من استراتيجية «حزب الله» مصمم بشكل أساسي لإبقاء المجتمع الشيعي تحت السيطرة. فتركيبة البلاد الاجتماعية والاقتصادية قد تنهار سريعاً بمجرد توقف الدعم بالكامل. وبالتالي، فإن الطبقة السياسية قلقة من موجة أخرى من الاحتجاجات من قبل المواطنين الغاضبين الذين قد يكونون أكثر استعداداً لمواجهة العنف بالعنف. ومن خلال جعل الشيعة يعتمدون على مساعدات «حزب الله»، يهدف الحزب إلى ضمان بقاء جماعة ناخبين واحدة على الأقل هادئة.
البديل المصرفي
حين بدأت المصارف اللبنانية في وضع حد للسحوبات بالدولار الأمريكي في تشرين الأول/أكتوبر 2019 وفرض ضوابط غير رسمية على رؤوس الأموال، قرر العديد من المودّعين سحب أكبر قدر ممكن من الدولارات. ومنذ ذلك الحين، سحب اللبنانيون من المصارف ما يقدَّر بنحو 6 مليارات دولار نقداً، وسعى «حزب الله» إلى الاستفادة من هذا الاحتياطي النقدي العام غير الرسمي. ومن جملة التكتيكات التي لجأ إليها، شجّع الشعب على استخدام مؤسساته المالية لتبادل أموالهم وإيداعها – لا سيما مؤسسة “القرض الحسن” التي صنفتها الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب وأصبحت مركز الصيرفة الرئيسي لـ «حزب الله» والبديل عن المصارف لناخبيه الشيعة.
وفي الآونة الأخيرة، قامت مؤسسة “القرض الحسن” بتركيب أجهزة الصراف الآلي في فروعها في الضاحية الجنوبية لبيروت، مما سمح لسكان المنطقة، وفقاً لبعض التقارير، باستلام الدفعات النقدية والقروض من «حزب الله» دون القيود المفروضة في المصارف الأخرى. وهذه المؤسسة ليست مصرفاً أو مؤسسة مالية، لذا فهي لا تتلقى الأموال من “المصرف المركزي” أو من أي جهاز رسمي آخر من أجهزة الدولة. ويسمح لها هذا الترتيب بوضع قواعدها الخاصة، وعقد صفقاتها الخاصة، إضافةً إلى تعزيز اقتصاد «حزب الله» ونظامه المالي الموازيين. وفي المستقبل، يأمل «حزب الله» في استعادة إمكانية الوصول إلى العملة الصعبة، لا سيما المبالغ النقدية الكبيرة التي كانت تصل من طهران قبل العقوبات. وإذا حدث ذلك ومتى يحدث، يهدف «حزب الله» إلى أن يكون الطرف الوحيد في لبنان الذي يملك مبالغ كبيرة من الدولارات الأمريكية، وأن يحوّل بالتالي مؤسسة “القرض الحسن” إلى النظام المصرفي الوحيد الصالح في البلاد.
التحديات والفرص
على الرغم من العقبات التي أسفرت عنها الضغوط والعقوبات الأمريكية الخاصة بتوفر العملة، إلّا أن إيران لا تزال قادرة على إرسال البضائع إلى «حزب الله» من أجل تعزيز نفوذه ووضعه المالي. ومع ذلك، هناك تحديات أخرى قد تقلب استراتيجية «حزب الله» للخروج من الأزمة المالية في لبنان والتمسك بقاعدة دعمه الشعبي رأساً على عقب.
أولاً، حتى إذ تمكّن الحزب من التعويض عن مكامن النقص الوطنية من خلال تزويد مؤيديه ببعض الأطعمة والأدوات المنزلية والأدوية من إيران وسوريا، إلّا أن هذه الخطة لا تغطي الاحتياجات الوطنية الملحة الأخرى مثل الكهرباء، وخدمة الإنترنت، والاستشفاء، والعمل. وقد شعر الشيعة بالتدهور السريع في مستوى معيشتهم ويعلمون أن أسباب ذلك هي بالدرجة الكبرى الفساد والمحسوبية اللذين يدافع عنهما «حزب الله» بثبات.
ثانياً، أدت الأزمة المالية الداخلية لـ «حزب الله» إلى الحد من إمكانية وصوله إلى العملة الصعبة، مما أرغمه على دفع رواتب موظفيه المدنيين بالليرة اللبنانية – التي فقدت نحو 80 في المائة من قيمتها مقارنةً بالدولار الأمريكي. ويؤدي هذا إلى خلق فجوات مالية واجتماعية خطيرة بين موظفي الحزب العسكريين والمدنيين، بينما يوسّع الفجوة أيضاً بين أعضاء «حزب الله» والمجتمع الشيعي الأوسع. وفي الواقع، فقد معظم الشيعة وظائفهم أو أصبحوا يتقاضون جزءاً يسيراً من رواتبهم، في حين لم تعد الدولة توفّر لهم الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية التي لا يزال عناصر «حزب الله» يتلقونها. وعلى الرغم من أن هذه الخدمات قد تساعد الحزب على الحفاظ على الولاء بين أقرب أوساطه وأهم موظفيه، إلا أن هذا الشعور بعدم المساواة يؤدي إلى تفاقم السخط بين المجتمع الشيعي الأوسع، كما يتضح من استطلاع حديث لـ “منتدى فكرة” الذي أظهر انخفاض الدعم لـ «حزب الله» بين جميع الفئات.
باختصار، إن الأدوات التي يستخدمها «حزب الله» لتوفير المساعدة الاجتماعية والإنسانية مشوبة، وغير كافية، وتهدف إلى حد كبير إلى ضمان بقائه. ولاحتواء «حزب الله» وجعل الإصلاح السبيل الوحيد للخروج من الأزمة، يجب على المجتمع الدولي التفكير في استراتيجية ذات شقين لتقديم المساعدات الإنسانية للشعب اللبناني: (1) التنافس مع «حزب الله» في القطاعات التي بدأ فيها بتنفيذ مخططاته، و (2) سد الثغرات التي لا يستطيع «حزب الله» معالجتها. ولا يجب أن تكون المبالغ المخصصة لهذه الجهود كبيرة – إذ تستطيع الجهات المانحة تحقيق نجاح كبير في إضعاف قبضة الحزب على الشيعة من خلال القيام باستثمارات توفر الأدوية المناسبة والمواد الغذائية الأساسية والخدمات التي لا يستطيع «حزب الله» توفيرها بشكل كافٍ، مثل العلاج في المستشفيات، والرعاية الطبية، والوصول إلى الإنترنت. أما البديل – أي إجبار اللبنانيين على الاعتماد على «حزب الله» من أجل البقاء – فلن يؤدي إلا إلى تقوية الحزب وعناصره التمكينية مع تقليص الدفع نحو إصلاحات طويلة الأمد.
حنين غدار
معهد واشنطن