الحدود البحرية… بين التفسير الإسرائيلي والشروط اللبنانية

الحدود البحرية… بين التفسير الإسرائيلي والشروط اللبنانية

المحادثات التي بدأت حول ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، قبل شهرين تقريباً، مع تفاؤل حذر في الطرف الإسرائيلي، تبدو الآن وكأنها تواجه طريقاً مسدوداً. تنسب إسرائيل التجميد للمقاربة المتصلبة للطرف اللبناني، وتعدّ سلسلة من التناقضات في المواقف التي طرحتها بيروت في السنوات الأخيرة. حكومة لبنان التي تمر في أزمة اقتصادية وسياسية شديدة، علقت آمالاً كبيرة على التوصل إلى اتفاق يمكنه تسريع بداية الفحوصات بمخزونات الغاز في البحر المتوسط. ولكن يبدو أن الاتفاق ما زال بعيداً في هذه الأثناء.

المحادثات بين الطرفين، التي بادرت إليها الولايات المتحدة، تجري في مجمع للأمم المتحدة برأس الناقورة، في الجانب اللبناني من المعبر الحدودي. حتى الآن تم عقد أربعة لقاءات، كل منها استمر مدة 3 – 5 ساعات. على رأس البعثة الإسرائيلية الصغيرة يقف المدير العام لوزارة الطاقة، أودي اديري، وفي عضويتها هناك أيضاً ممثلون عن مكتب رئيس الحكومة ووزارة الخارجية والجيش. على رأس البعثة اللبنانية يقف نائب رئيس الأركان، الجنرال باسم ياسين.

يشارك في المحادثات أيضاً الوسطاء الأمريكيون وممثلو الأمم المتحدة كجهة مستضيفة. تجري هذه المحادثات في خيمة كبيرة، تحت قيود التباعد بسبب الوباء. توصف الاتصالات بأنها موضوعية وسليمة – وعالقة تماماً. خوف لبنان من أي مظهر بسيط للتطبيع ومن كورونا أيضاً، لا يسمح في هذه الأثناء بحوار غير رسمي خارج طاولة المفاوضات.

تحولت مسألة الحدود البحرية إلى مسألة أكثر إلحاحاً مقابل الأزمة الداخلية التي تعمقت في لبنان هذه السنة، خاصة بعد الانفجار القاتل والتدميري بميناء بيروت في آب الماضي. اعتبرت إسرائيل الاتفاق موضوعاً بسيطاً نسبياً. مساحة المنطقة المختلف عليها الأصلية تبلغ 850 كم مربعاً، أي 2 في المئة من مياه إسرائيل الاقتصادية. في هذه المنطقة التي تبدو مثلثة الشكل، خزان غاز يعنى به اللبنانيون، في حين سبق لإسرائيل أن بدأت قبل سنوات في استغلال مخزونات الغاز التي في منطقتها.

طريقة الاحتساب التي سيستند إليها ترسيم الحدود تبدو معقدة جداً ومعرفة في مواثيق دولية. المشكلة الأساسية هي غياب حدود برية دولية متفق عليها، فالدولتان تستندان فقط على اتفاقات هدنة من العام 1949 وعلى خط رسمه ضباط بريطانيون وفرنسيون في العام 1923، استمراراً لاتفاقات سايكس بيكو. ولكن الضابطين اللذين حددا الخط في منطقة الشاطئ وضعا البرميل التأشيري الأخير على بعد 150 متراً شرق المياه، في منطقة هي الآن موقع لسلاح البحرية في رأس الناقورة.

هذه الحقيقة تثير حتى الآن نقاشاً على مكان النقطة الثابتة على الشاطئ مع فجوة تبلغ 30 متراً بين موقف الطرفين. ولأن هناك خلافاً على تحديد زاوية الخط فيما بعد، وجد المثلث الذي يناقشونه الآن.

في العام 2007 قام لبنان وقبرص ببلورة اتفاق لترسيم الحدود البحرية الاقتصادية بينهما. لبنان غير ملتزم بالاتفاق بالكامل لأن حكومته لم تصادق عليه بسبب ضغط تركيا (التي لها تطلعات خاصة بها، ولها نزاع مع قبرص اليونانية). النقطة التي تقع أقصى الجنوب في الاتفاق بين لبنان وقبرص تسمى نقطة رقم 1. أودعت إسرائيل لدى الأمم المتحدة بياناً عن هذه النقطة في العام 2010 وصادقت عليها بقرار حكومي. بهذا هي ترى هذه النقطة الحدود المعلنة مع لبنان. وفي السنة نفسها، ومن خلال تجاهل الاتفاق مع قبرص، أودع لبنان خطاً خاصاً به يبدأ في النقطة 23 الأكثر جنوباً. وعندما أصدرت إسرائيل مناقصات لخزانات غاز في مياهها الاقتصادية، أخذت في الحسبان الخلاف ولم تتطرق في المناقصات إلى المنطقة الواقعة بين النقاط 1 وحتى 23.

في العام 2013 أثناء مفاوضات غير مباشرة بين الدولتين، أزاح اللبنانيون طلباتهم بخصوص الخط إلى نقطة أكثر جنوباً، بصورة أضافت لمنطقة الخلاف 1450 كم أخرى، وطالب بملكية أيضاً على حوالي نصف خزان الغاز الإسرائيلي (كريش). في الفترة نفسها، عرض الأمريكيون اقتراحاً توافقياً تطرق لمنطقة الخلاف الأصلية، 850 كم مربعاً، وأرادوا تقسيمه بصورة متساوية تقريباً، 55 في المئة للبنان و45 في المئة لإسرائيل. الجهود الأمريكية فشلت. وعددت إسرائيل ما لا يقل عن سبع تغييرات في الخط الذي رسمه اللبنانيون طوال 13 سنة حتى المفاوضات الحالية.

تجد إسرائيل صعوبة في تفسير الخط المتصلب الذي يعرضه اللبنانيون الآن. أحد التفسيرات هو أن لبنان غير معني حقاً بالاتفاق، بل طلب فقط أن يظهر لإدارة ترامب بأنه مستعد للتفاوض كي لا يعرض نفسه لخطر التشاجر مع الأمريكيين. القيادة في لبنان تدرك أيضاً التغطية الإعلامية الكثيفة للمفاوضات في الدولة، التي تعرض البعثة كمن تناضل بشجاعة من أجل حقوقها الشرعية. تفسير آخر يدعي أن اللبنانيين جاءوا بأسلوب البازار الشرق أوسطي، الذي يقول “خذ بقدر ما تستطيع”: سنعرض خطاً متشدداً بقدر الإمكان، وفي النهاية سنتنازل بطريقة ما. وربما تكمن أسباب التصلب في الديناميكية الداخلية أمام حزب الله الذي اضطر إلى الموافقة على بدء المفاوضات، لكنه غير متحمس تماماً منها. أما إيران فتحافظ على الصمت بصورة مثيرة للاهتمام.

مشكلة لبنان هي أن الجمود في المفاوضات يعيق بدء التنقيب عن الغاز، الذي بخصوصه وقعت على عقود مع شركات فرنسية وإيطالية وروسية. هذه الشركات لن تبدأ بالتنقيب طالما لا توافق عليه إسرائيل. هذه هي أيضاً الرسالة التي نقلت من القدس للشركات. وتعتقد إسرائيل أن اللبنانيين قد اجتازوا العقبة الكأداء بمجرد موافقتهم على إجراء محادثات مباشرة حول ترسيم الخط. قرار السماح للغاز بالبقاء في الأرض بدون استخدام لا يبدو منطقياً بنظرة من الجانب الإسرائيلي، خاصة عندما يدور الحديث عن إمكانية كامنة لضخ عشرات مليارات الدولارات في الاقتصاد اللبناني المتعثر.

في الأسبوع الماضي مكث مندوب أمريكي في بيروت، في محاولة لتحديد موعد لاستئناف المفاوضات. ألغى الأمريكيون جولة مفاوضات خُطط لها في بداية كانون الأول الحالي بعد أن تبين لهم حجم الفجوة بين مواقف الطرفين. الخوف الآن هو أنه على خلفية تبدل الإدارات في واشنطن سيتم تجميد الاتصالات لفترة طويلة، سوقد تتضاءل احتمالية حل الخلاف بصورة ملحوظة. تقدر إسرائيل أن هناك إمكانية لربح الطرفين اتفاقاً يخدمهما، لكن احتمالية ذلك في هذه الأثناء تبدو أقل مما كانت في تشرين الأول الماضي.

صورة تُرى من هناك
بدأ الجيش الإسرائيلي في هذا الأسبوع بوضع إجمال للسنة الحالية التي ستنقضي، حيث يظهر استبدال ترامب ببايدن كعنصر مركزي سيشكل الواقع الدولي في السنة القادمة. ويلاحظ جهاز الأمن التزاماً قوياً عمره سنوات طويلة للرئيس الجديد حول أمن إسرائيل، لكنه يفهم أيضاً بأن أسلوبه ومواقفه ستكون مختلفة عن أسلوب ترامب ومواقفه.

إذا قمنا باستبعاد كورونا التي هزت إسرائيل مثل جميع العالم، فقد مرت على إسرائيل سنة أمنية مريحة جداً، حيث إن عدد المصابين الإسرائيليين في أحداث عسكرية وعمليات كان حتى الآن منخفضة جداً بصورة نسبية. ويبدو أن تحويل نظر الحكومة ونظر الجمهور إلى مشكلات ملحة، صحية واقتصادية، التي وقعت بالطبع أيضاً في الدول المجاورة، خفف على الواقع الأمني. تلك أفضلية جاءت من خلال نقص، وهناك تحفظات بارزة إلى جانبها. أولاً، الظروف الاقتصادية ستملي ميزانية أمنية أقل وستضر بتنفيذ برنامج التسلح الطموح لرئيس الأركان افيف كوخافي. ثانياً، يكفي هجوم مفاجئ واحد لإيران أو حتى استفزاز أصغر من قطاع غزة لزعزعة الشعور بالأمان في أوساط الجمهور الإسرائيلي وتبديد الرضى في هيئة الأركان العامة.

ولكن مثلما هو دارج في التقديرات الأمنية، فإن العام 2021 ما زال يخفي في طياته إمكانية كامنة كبيرة نسبياً من عدم الاستقرار وانعدام اليقين. وحتى في فترة ركود اقتصادي، فإن حزب الله وحماس سيواصلان تطوير قدرتهما الهجومية. إن مفهوم “جيوش الإرهاب”، الذي اجترحه كوخافي للمرة الأولى عندما كان قائد المنطقة الشمالية في العام 2015، يبدو الآن مناسباً تماماً. قد يحدث التصعيد نتيجة عدة سيناريوهات – عملية إسرائيلية كثيفة جداً في المعركة بين حربين والتي ستجر الأعداء إلى رد شديد، وجهود حزب الله لتقييد استمرار طيران سلاح الجو الإسرائيلي في سماء لبنان، أو ذلك الاندلاع الموسمي في قطاع غزة والذي يرتبط بشكل كبير بالوضع الاقتصادي والإنساني هناك.

بقلم: عاموس هرئيل