نشر موقع “فورين بوليسي” تحقيقا من ثلاث حلقات أعده زاك دورفمان حول استخدام الصين بيانات مسروقة لفضح عملاء الاستخبارات الأمريكية، سي آي إيه في كل من أفريقيا وأوروبا.
وفي الحلقة الأولى يقول دورفمان إن العملية بدأت في 2013 حيث أخذت المخابرات الأمريكية تلاحظ أشكالا من التصرفات مثيرة للقلق وهي تعرف الصين وبنجاح على عملاء المخابرات الذين كانوا يسافرون إلى أوروبا وأفريقيا للقيام بمهام حساسة. وبدأت عملية مراقبة المخابرات الصينية لعملاء السي آي إيه بعد فحص جوازاتهم مباشرة. وكانت عملية الرقابة واضحة في بعض الأحيان لدرجة أن الأمريكيين كانوا يشعرون أن الجانب الصيني أراد إرسال رسالة عن معرفته بالعمليات الاستخباراتية وتخريبها له. وفي مرات أخرى كانت العمليات خفية ولم يتم اكتشافها إلا عبر الأجهزة التكنولوجية المتقدمة لدى سي آي إيه. وبدأ الأمريكيون بالتعرف على النشاط الصيني في الخارج عبر محاولات تجنيد عملاء أو مقابلة المصادر. وقال مسؤول أمريكي “لا نستطيع الوصول إليهم في بيجين ولكننا نستطيع في جيبوتي وخريطة الحزام والطريق” وهي المبادرة الطموحة للصين لبناء بنية تحتية تعزز التأثير الصيني في الخارج. ويعتقد أن الجهود الصينية الجديدة هي رد محتمل على هذه الجهود الأمريكية. وأثارت هذه النشاطات الشاذة قلقا لدى مدراء محطات سي آي إيه والفرق كما قال مسؤول و” كان على الصينيين عدم معرفة” من هؤلاء وأين كان هؤلاء الجواسيس. ولم يكن لدى المسؤولين دليلا قاطعا حول كيفية اختراق الصين للاستخبارات الأمريكية.
ففي زمن سابق كان يمكن البحث عن جاسوس زرعته الصين داخل المؤسسة الأمنية أو فشل ما في عملية التواصل. وبدلا من ذلك ركز المسؤولون انتباههم على عمليات السرقة الإلكترونية التي حصلت فيها الصين على البيانات الشخصية من سجلات صحية وترتيبات سفر وسجلات حكومية. ويعتقد المسؤولون الأمريكيون أن الصينيين قاموا بعملية تمشيط وترتيب للمعلومات المسروقة للكشف عن هوية المسؤولين الأمنيين الأمريكيين. وقال مسؤول سابق إن “الذكاء والحرفية لاستغلال قاعدة البيانات” كان سببا محتملا وراء تحديد عملاء سي آي إيه. ويرى المسؤول “هذه ليست عملية عشوائية أو عامة” وهي “مشكلة بيانات كبيرة”. وتعتبر المعركة حول البيانات، من يسيطر عليها ومن يؤمنها ويستخدمها للأغراض الاقتصادية والأمنية في مركز النزاع الدولي بين واشنطن وبيجين. ولعبت البيانات دورا مهما في تشكيل مسار السياسة الصينية وتلعب دورا في تغيير مسار السياسة الخارجية الأمريكية وعمليات جمع المعلومات الأمنية حول العالم. وكما حاول الصين استخدام البيانات كسيف ودرع ضد الولايات المتحدة حاولت وكالات الاستخبارات الأمريكية اختراق مسار تدفق البيانات الصينية واستخدام القدرات التكنولوجية الهائلة لتحديد ما تعرفه الصين عن العملاء الأمريكيين وعملياتهم.
وقام الكاتب دورفمان بمقابلة عدد من المسؤولين الاستخباراتيين السابقين والحاليين ومسؤولي الأمن القومي الذين كشفوا عن معركة المعلومات والبيانات بين الصين والولايات المتحدة والتي يظل فيها التفوق لبيجين، نظرا للرقابة المركزية التي تمارسها على سكانها وشركاتها وشبكات التجسس الدولية والتي تضم على عدة عمليات سرقة معلومات وأرصدة معلوماتية من الولايات المتحدة. بالإضافة لقدرة الصين على تركيب وترتيب وتحويل المعلومات إلى سلاح.
ويقول ويليام إيفانينا، المسؤول البارز في مجال مكافحة الاستخبارات إن الصين هي “واحدة من أكبر جامعي الكتل البيانية حول العالم واستخدامها بطرق قانونية وغير قانونية “فمن خلال الهجمات الإلكترونية استطاعت الجمهورية الشعبية الصينية حصد بيانات شخصية عن معظم السكان في أمريكا، بما في ذلك بيانات عن الصحة والمالية والسفر والمعلومات الحساسة”. وتظل الحرب على البيانات مهمة للوكالات الاستخباراتية الأمريكية والصينية. ففي عالم الاستخبارات “المعلومات هي الملك وكلما كان هناك معلومات أحسن كان أفضل” كما يقول ستيف ريان الذي عمل حتى 2016 نائبا لمدير مركز عمليات التهديد في وكالة الأمن القومي وبشغل الآن منصب المدير التنفيذي لشركة خدمات الأمن الإلكتروني “ترينتي أوبريشنز”. وعلى خلاف الحرب الباردة فقد كانت المعلومات تأتي بشكل متقطع وجزئية، تنصت إلكتروني هنا أو معلومات من مصادر بشرية. أما اليوم فيمكن تصيد كتلة كبيرة من المعلومات وبحركة واحدة. وتستطيع الصين استخدامها لاستهداف ضباط الاستخبارات الأمريكيين أو تقوية التجارة الصينية. ويرى المسؤولون الأمريكيون الحاليون والسابقون أن الصين تتعامل مع المعلومات كحزام للأمن من التهديدات الداخلية والخارجية وتضمن استقرار الحزب الشيوعي الصيني الحاكم. وكان هذا وراء العملية القوية وراء الحملة الصينية للحصول على بيانات من الولايات المتحدة. ولم تعلق لا سي آي إيه أو السفارة الصينية في واشنطن على تقرير المجلة. وبدأت قصة حرب الاستخبارات الأمريكية- الصينية عام 2010 وبداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فقد عبرت بيجين عن غضبها من النشاط الاستخباراتي الأمريكي الذي اخترق كل ملامح الحياة الصينية من الحكومة إلى الحزب الحاكم والاستخبارات و”تردد الغضب إلى قمة الحكومة الصينية” كما يتذكر مسؤول استخباراتي سابق. وبدأت باستغلال عيوب عمليات الاستخبارات الأمريكية التي اكتشفتها أولا إيران وأشركت فيها بيجين في الفترة ما بين 2010- 2012 مما سمح لها لسحق كل شبكات المخابرات الأمريكية في الصين عبر القتل والسجن. وفي داخل سي آي إيه فلم يكن الرد الصيني الغاضب مفاجئا “عادة ما كنا نناقش داخليا كيفية رد صناع السياسة على اختراق سي آي إيه في الصين” وهذا ما سيكون رد المسؤولين الأمريكيين على اختراق صيني لصفوفهم.
ولم يكن الغضب متركزا في الصين على اختراق سي آي إيه للحكومة ومؤسساتها بل على ما كشفه من فساد، فوصول رصيد تم تجنيد لمستويات القيادة العليا كان أفضل. ففي أثناء الحرب الباردة كان صعود عميل للمخابرات في صفوف القيادة السوفييتية صعبا لأن العوامل التي أدت لتجنيده مثل الجشع والأيديولوجيا والابتزاز تعتبر عائقا أمام تقدمه بالإضافة لان المال لم يكن مهما في الإتحاد السوفييتي ولا يشتري شيئا، خاصة عندما لا يعرف مصدره. ولكن في صين الألفية الجديدة كان المال القذر يتدفق بحرية ويحصل المسؤولون على أضعاف رواتبهم بطرق غير شرعية. والمسؤول الذي لا يشارك في الفساد كان يعتبر أهبلا من زملائه. وكان المال قادرا على شراء أي شيء بما في ذلك المركز. وكان لدى سي آي إيه الكثير منه. وفي تلك الفترة كانت محطة الصين من أهم المراكز المربحة ماليا ومن يعمل لصالح سي آي إيه كان يحصل على الملايين في العام وبالنسبة “للأهداف الصلبة يمكنك الحصول على الملايين في العام لو عملت معنا” كما قال مسؤول. وقصد بالأهداف الصلبة- الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية. ومن خلال تحقيق الصين في نشاطات سي آي إيه اكتشفت أنها تقدم رسوم ترفيع (رشوة) لتسلم مناصب في البيروقراطية الصينية. وبهذه الطريقة أثرت على الناس في صفوف الحكومة ولم تكن الرشوة تدفع مرة وليس للعاملين فقط في الجيش الصيني، حسب مسؤول في الكونغرس وأضاف مسؤول سابق في مكافحة الاستخبارات “دفع رشواتهم كان مثالا عن تفكير بعيد المدى بالنسبة لنا” خاصة أن “تجنيد ضباطا في جيوش أجنبية كان مستحيلا بالنسبة لنا وكانت طريقة لاستغلال الرشوة لصالحنا”.
وفي بعض المرات كان رسوم الترفيع أو الرشوة تصل إلى ملايين الدولارات. وقال “كان من المدهش مستوى الفساد الحاصل” وفي بعض الأحيان كان تعويض العملاء عن تعاونهم بدفع رسوم تعليم أبنائهم في جامعات رسومها باهظة. وأجبر الصينيون على اكتشاف مشكلتهم واستغلال أخطاء الأمريكيين، كما قال مسؤول سابق في المخابرات الأمريكية و “ساعدنا على تحقيق ثمار ما كانوا يخافون منه” و “زرعنا الخوف في نفوسهم”. وكان الفساد يمثل تهديدا على النظام بدرجة قال فيها الأمين العام للحزب في حينه هيو جينتاو ” لو فشلنا في معالجة الموضوع بطريقة جيدة فقد ينهار الحزب والدولة”. وأصبحت فضائح الفساد حالة يومية في الإعلام الذي يسيطر عليه الحزب. وبات الفساد داخل الحزب مشكلة عامة كما اعترفت قيادته. واعتقد المسؤولون الأمريكيون أن قدرة سي آي إيه على اختراق الحزب ودائرته المغلقة أخافت قيادته من مستوى الفساد في داخله و “أظهر العفن في داخل الحزب” كما قال مسؤول سي آي إيه سابق. مضيفا أن هذا أغضب قيادة الحزب التي رأت أن اختراق سي آي إيه للحزب لا يمثل تهديدا وجوديا بل وسمح لعدو بالزحف إلى الداخل. وكانت مشكلة الفساد مشكلة دولية للحزب الشيوعي الصيني، فمن لا تتم رشوته وهو في المنصب كان يلجأ للدول الغربية حيث تستفيد منه المخابرات الأجنبية. ومن هنا أعلن شي جينبينغ في نهاية 2012 عن حملة مكافحة الفساد والتي شملت على محاكمة عشرات الألاف من المسؤولين ووصلت إلى حد اختطاف مسؤولين وإجبارهم على العودة إلى الصين. وكانت الحملة كما يقول مسؤول من أجل توطيد سلطة شي ولكنها لمنع الأمريكيين الاستفادة من الفساد. وكانت تسريبات المحلل السابق في وكالة الأمن القومي إدوارد سنودين عن اختراق الوكالة لشركة واوي الصينية مدعاة لغضب القيادة الصينية التي بدأت بتعلم استخدام الإنترنت والتكنولوجيا ضدها.
وبنهاية العقد الأول من القرن الحالي لاحظ المسؤولون الأمنيون الأمريكيون زيادة في حرفية بوزارة أمن الدولة، وهي وكالة المخابرات المدنية الرئيسية. وقبل حملة تطهير شي كان الفساد واضحا في داخل المؤسسة، حيث كان الجواسيس الصينيين يحولون جزءا من أموالهم التي حصلوا عليها من عملياتهم إلى “أعشاشهم” وقراصنة الإنترنت داخل الوكالة. وأصبح هذا مستحيلا في ظل شي. ولكن اكتشاف شبكة سي آي إيه في الصين زادت من نشاطات المواجهة الصينية وأكدت على أهمية العمليات الخارجية والحرب التجسسية الإلكترونية. وقال مدير سابق في سي آي إيه “مع بداية تعلمهم هذه الأمور” اعتقد الصينيون أنهم بحاجة للدفاع عن أنفسهم. وبحلول عام 2010 بدأ الصينيون برنامجا تجسس على الرحلات الجوية. وقال مسؤولان أمريكيان سابقان إن الجواسيس الصينيين بدأوا باستخدام أساليب مكافحة الاستخبارات والهجمات الاستخباراتية و “كانت القدرات موجود وتم الاستفادة منها”، كما زادت الصين من عمليان القرصنة واستهدفت البيانات البيومترية للمسافرين من مراكز الترانزيت، بما في ذلك عملية ناجحة للبيانات البيومترية من مطار بانكوك الدولي. وكانت الصين قد سرقت معلومات هائلة قبل اكتشافها عملية اختراق الولايات المتحدة لها، لكن عملية هز الحزب ما بين 2010- 2012 أعطتها زخما لأن تقوم بعمليات فيها مخاطرة وبناء بنية تحتية قادرة على التعامل مع المعلومات. وعند هذه النقطة تحولت المخابرات الصينية من مجرد سرقة معلومات إلى تصفيتها للاستخدام.
ولاحظ مسؤول أمريكي عملية نقل مراكز الاستخبارات الصينية قرب مراكز اللغات. وكانت هذه القدرات مفيدة لعملية القرصنة التي قامت بها الصين لمكتب الإدارة الشخصية الأمريكية والتي سرق فيها القراصنة الصينيون معلومات حساسة لـ 21.5 مليون أمريكي. وتحتوي على معلومات مثل أسماء الأزواج والعمل والوضع الصحي والبصمات. وفي بعض الأحيان احتوت المعلومات على بيانات امنية مرتبطة بالحصول على الوظيفة وتاريخ الأشخاص الجنسي وإن كان أقارب الشخص في أمريكا أم في الخارج. ومع أن الولايات المتحدة لم تكشف عن الاختراق إلا عام 2015 إلا أن المسؤولين كانوا على علم به في 2012.
القدس العربي