خلال ثلاثة أشهر فقط، تحولت التوقعات الخاصة بأداء الاقتصاد العالمي بكل قطاعاته من متفائلة إلى واقع مؤلم وخسائر كارثية بسبب كورونا، وشهد العالم ركوداً عنيفاً وتراجعت المؤشرات وتحولت نسب النمو إلى أرقام مخيفة ومرعبة في شكل عجوزات وخسائر وتراجعات كبيرة.
هذا إلى جانب أن الاضطرابات غير المسبوقة في تدفقات رؤوس الأموال الدولية، والموجات البيعية، وأكبر انهيار للنفط منذ عقود، شكلت ملامح النصف الأول من العام، وعلى الرغم من التغييرات التي شهدتها التجارة العالمية منذ قدوم إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فإن محافظي البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم اتخذوا موقفاً موحداً للسياسة النقدية، وأطلقوا العنان لموجة من حزم التحفيز التاريخية.
ولم تتسبب هذه الإجراءات فقط في إنهاء الموجات البيعية وإحداث طفرة في الاكتتابات العامة، لكنها ساعدت أيضاً في صعود موجة من الديون السيادية وديون الشركات، وازدهار نماذج جديدة للاستثمار مثل شركات الاستحواذ ذات الغرض الخاص وعمليات الاستثمار الخاص في الأسهم المتداولة، ولكن ربما كانت السمة الأبرز في الأزمة هذا العام هي كيف بدأ المستثمرون أخيراً في التفكير جدياً في المناخ وفي الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية.
موجة بيع تاريخية وقاسية
وبعدما أدرك العالم أن الجائحة ستطال الجميع، فقد شهدت الأسواق المالية مرحلة من الانهيار التام في مارس (آذار) الماضي، وباع المستثمرون كل شيء وأي شيء باستثناء الدولار وأذون الخزانة الأميركية، وسجلت أسواق الأسهم تراجعات يومية تاريخية، وقفزت العوائد على سندات الشركات، وبلغ مؤشر التقلب “فيكس” والذي يعرف أيضاً بمؤشر الخوف مستويات لم يصل إليها منذ كارثة انفجار مفاعل تشرنوبل النووي في 1986.
ووفق نشرة “إنتربرايز”، كانت الأسواق الناشئة على موعد مع موجة بيعية كارثية، بعدما سحب المستثمرون نحو 83.3 مليار دولار في مارس، ليكون الشهر الأسوأ على الإطلاق، أما الولايات المتحدة وأوروبا، وهي البلدان الأكثر تضرراً من الموجة الأولى للجائحة، فقد شهدت انخفاضات هائلة في الإنتاج الاقتصادي ونشاط القطاع الخاص ومعدلات التوظيف.
شبح الإفلاس يهدد تونس بسبب المؤشرات الاقتصادية والمالية السلبية
وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ناشد صندوق النقد الدولي الذي توقع انكماشاً في الاقتصاد العالمي بواقع ثلاثة في المئة في أبريل (نيسان) ثم 4.9 في المئة في يونيو (حزيران)، ثم 4.4 في المئة في أكتوبر، الحكومات كي تفعل كل ما في وسعها لتخفيف واحتواء تداعيات “الإغلاق الكبير”.
وفي الوقت نفسه، خلقت اضطرابات أسواق النفط جانباً آخر من الأزمة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، حيث وجد مصدرو النفط في الخليج أنفسهم يواجهون ليس فقط الجائحة، ولكن أيضاً الانهيار التاريخي لأسعار النفط العالمية، والتي شكلت تهديداً جدياً لاقتصادات وموازنات الدول المعتمدة على البترول، ولسد تلك الفجوة، فرضت الحكومات إجراءات تقشفية ونفذت إصدارات غير مسبوقة للديون.
لكن من غير المتوقع أن يكون العام المقبل أفضل حالاً لمصدري النفط بالشرق الأوسط، إذ من المتوقع أن تتعرض مواردهم المالية العامة لمزيد من الضغط مع استمرار تراجع الطلب على النفط بفعل الجائحة، وبعد عام من إصدارات الديون الهائلة بدول الخليج، يتوقع “دويتشه بنك” المزيد في 2021 وذلك عبر إصدار ديون جديدة بنحو 107 إلى 110 مليارات دولار.
لماذا لم يتعرض النظام المالي العالمي لأزمة قلبية؟
ووفق التقرير، يرجع عدم تعرض النظام المالي لأزمة قلبية إلى البنوك المركزية العالمية، والتي استجابت بسرعة للحفاظ على التدفقات من السيولة ومنع الإفلاس الجماعي للشركات، وقامت البنوك الأربعة النظامية في العالم وهي الفيدرالي الأميركي، والبنك المركزي الأوروبي، وبنك إنجلترا المركزي، وبنك اليابان المركزي، بشراء سندات تخطت قيمتها ستة تريليونات دولار هذا العام وحده.
كما خفض الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة إلى صفر وأعاد تقديم برامج التحفيز الطارئة التي اشترى بموجبها أذون خزانة أميركية وأوراقاً تجارية وأصولاً من صناديق متداولة، وللمرة الأولى اشترى ديون شركات من الدرجة الاستثمارية وسندات صناديق المؤشرات المتداولة.
وكان عام 2020 هو العام الذي قررت فيه بعض البنوك المركزية بالأسواق الناشئة اتخاذ قرارات جريئة على مستوى الأزمة، ولجأت لشراء سندات حكومية، وقام نحو 18 بنكاً مركزياً على الأقل هذا العام بشراء أصول، سواء لأن أسعار الفائدة كانت متدنية تماماً، أو لتمويل الإنفاق الحكومي.
وحتى الآن، فإن تحذيرات الاقتصاديين بإمكانية خروج مستويات الديون والتضخم عن السيطرة لم تتحقق، واستطاعت الدول النامية الحفاظ على مستويات منخفضة لعوائد السندات من دون أن تضغط على عملاتها المحلية، لتثبت أن التيسير الكمي يمكن أن يكون أداة فعالة في يد البنوك المركزية في المستقبل.
كيف دعمت خطط التحفيز إنقاذ الأسواق؟
التقرير أشار إلى أن موجات التحفيز النقدي والمالي خلال الأشهر الأولى من الجائحة ساعدت المستثمرين بأسواق المال العالمية في نسيان الوضع المزري للاقتصاد الحقيقي، وعاودت الأسهم بالأسواق العالمية الصعود إلى مستويات قياسية، وعادت رؤوس الأموال للتدفق في الأسواق الناشئة، وتراجع العائد على السندات الرديئة إلى أدنى مستوياته.
وأصبح 2020 عاماً غير مسبوق من حيث الاكتتابات العامة الأولية، وإصدارات الشركات من الأدوات المالية، وجرى ضخ المليارات في شركات الاستحواذ ذات الغرض الخاص، وفي غضون ذلك، قفزت مستويات الدين سواء للحكومات أو الشركات، ووفقاً لتقديرات معهد التمويل الدولي، فإن إجمالي تلك الديون سيصل إلى 277 تريليون دولار بنهاية العام الحالي.
ومن المتوقع أن توفر تدابير التحفيز المالي وبرامج الإنفاق من جانب الحكومات والمزيد من إصدار سندات الشركات، الرافعة المالية المطلوبة لمساندة الاقتصاد العالمي، وعندما يتمكن العالم في النهاية من السيطرة على الفيروس، سيبقى السؤال الأهم وهو كيفية استعادة الاستقرار المالي للدول، وإنعاش الشركات “شبه الميتة”، والتي ستتجاوز فوائد مديونياتها إيراداتها الفعلية.
وبإصدار ديون جديدة بقيمة 15 تريليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من 2020 فقط، فإن الدين العالمي قد بلغت نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي 365 في المئة، وتصل تلك النسبة إلى 432 في المئة في الاقتصادات المتقدمة، مقارنة بنحو 380 في المئة بنهاية 2019، فيما تصل في الأسواق الناشئة إلى 250 في المئة.
التعامل بجدية مع مخاطر التغيرات المناخية
وأشار التقرير إلى أن العام الحالي هو العام الذي بدأ فيه المستثمرون العالميون بالتعامل مع مخاطر التغيرات المناخية بجدية، وتدفقت على صناديق الاستثمار في الشركات الممتثلة لقواعد الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية تمويلات قياسية بلغت 7.1 مليار دولار خلال التسعة أشهر الأولى من 2020، أو ما يقرب من أربعة أضعاف تدفقات الفترة نفسها من 2019. وتجاوز حجم الأصول تحت الإدارة في تلك الصناديق تريليون دولار وذلك للمرة الأولى على الإطلاق.
لكن حتى الآن، فإن بعض المخاوف التي تتمثل في أنه على الرغم من أن تلك التمويلات تبدو ضخمة، فإن حجم صناديق الاستثمار في الشركات الممتثلة للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية لا يمثل سوى ثلاثة في المئة من إجمالي الأصول تحت الإدارة في صناديق الاستثمار العالمية بمختلف أنواعها.
أيضاً، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت تلك التدفقات القياسية تعكس تحولاً صادقاً من جانب المستثمرين، أم هي نتاج حمى الاستثمار في كل فئات الأصول بعد الأموال الضخمة التي ضختها البنوك المركزية في الأسواق.
الأسواق الناشئة والمبتدئة
وفي ما يتعلق بعام 2021 في الأسواق الناشئة والمبتدئة، فمن المتوقع أن تتوقف التوقعات الاستثمارية والمالية واتجاهات السياسة النقدية في الأسواق الناشئة على مسار الجائحة ونشر اللقاحات على شرائح واسعة من المواطنين، وفي الوقت الحالي لا أحد يعلم كيف ستجري الأمور.
وينقسم المحللون حول ما إذا كانت موجة صعود الأسواق في أواخر العام الحالي ستستمر طويلاً أم لا، ويتوقع البعض عاماً من التدفقات المالية الضخمة في تلك الأسواق، ولكن “سوسيتيه جنرال” و”أتش أس بي سي” يحذران من أن حالة الغموض بشأن برامج التطعيم الموسع ضد “كوفيد-19″، وكذلك الغموض بشأن موعد تعافي الاقتصاد الحقيقي، وتراكم الديون، قد تؤدي إلى تقلبات أخرى في العام الجديد.
ومن المحتمل أن تضطر البنوك المركزية التي كانت أكثر جرأة في قراراتها إلى التراجع عن برامج شراء السندات، إذا ما سارت عملية نشر اللقاحات بسرعة ويسر، ولكن بعد سلسلة من التخفيضات الائتمانية هذا العام، سيستمر تراكم الديون في خلق مشكلات قد تهدد بعض الدول بخطر التخلف عن سدادها.