بريطانيا تدير ظهرها لأوروبا متجهة إلى مستقبل مبهم

بريطانيا تدير ظهرها لأوروبا متجهة إلى مستقبل مبهم

كان الخروج من الاتحاد الأوروبي حلما بعيد المنال لمجموعة متنافرة من “المشككين في الوحدة الأوروبية” على هامش المسرح السياسي البريطاني، فعندما انضمت بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي في 1973 كانت تبدو في صورة “رجل أوروبا المريض” وقبل عقدين من الزمان فحسب كان قادة بريطانيا يتداولون فكرة الانضمام إلى اليورو عملة أوروبا الموحدة، لكن المشهد اليوم مختلف تماما عن السابق بعد تدشين المملكة المتحدة فصلا جديدا من تاريخها بانفصالها التام عن أوروبا في ظل أزمة عميقة ومستقبل غامض.

لندن – خرجت بريطانيا الخميس، من فلك الاتحاد الأوروبي وأدارت ظهرها لعلاقة عاصفة استمرت 48 عاما مع المشروع الأوروبي متجهة إلى مستقبل مبهم سيشكل مسار شعبها لأجيال قادمة، وسط تساؤلات عما سيكون بانتظار المملكة المتحدة بعد انفصالها النهائي عن أوروبا.

وعلى وقع ساعة بيغ بن عند الساعة الحادية عشرة ليلا بالتوقيت المحلي وتوقيت غرينتش، يصبح بريكست واقعا بمفعول كامل بعدما خرجت لندن رسميا من الاتحاد الأوروبي في 31 يناير الماضي، فيما اعتمدت مرحلة انتقالية لتخفيف تبعات هذا القرار.

وفي مدينة دوفر الساحلية الواقعة في جنوب شرق بريطانيا والتي سيكون ميناؤها في الصف الأمامي للتبادلات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، تختلط مشاعر السكان بين الأمل بحقبة جديدة من الازدهار والخوف من الاضطرابات مع تشكّل طوابير طويلة من الشاحنات في المنطقة.

وأكدت المتقاعدة مورين مارتن “الأمور ستكون أفضل، علينا أن ندير أمورنا بأنفسنا”.

واعتبر آرون كينير العاطل من العمل “أعتقد أن الأمر سيولّد ضغوطا للجميع”، مضيفا “لكنّي آمل أنه في نهاية المطاف سنبقى كلنا متّحدين وسنتدبر أمورنا”.

لكن كيرك هيوز الذي يعمل في قطاع المعلوماتية أبدى “بعض التوتر”، وتوقّع أن “تمتد المرحلة الانتقالية لأسابيع”.

وفي نظر الأنصار، يمثل البريكست هروبا من مشروع محكوم عليه بالفشل تهيمن عليه ألمانيا تخلف عن القوتين الرائدتين في العالم الولايات المتحدة والصين. أما معارضوه فيقولون إن البريكست حماقة ستضعف الغرب وتنسف ما تبقى من نفوذ عالمي لبريطانيا وتقوض اقتصادها وسيجعل منها في النهاية مجموعة من الجزر ذات دور عالمي أصغر.

وفي حين طغى إعطاء الضوء الأخضر للقاح جديد مضاد لكوفيد – 19 على إنجاز اتفاق التبادل التجاري الحر في الصحف البريطانية، أشارت صحيفة “ديلي ميل” إلى “قفزتين عملاقتين نحو الحرية”، فيما نوّهت صحيفة “ذي صن” بأن بريكست “تحقق أخيرا”، كما اعتبرت صحيفة “ذا تايمز” الأمر بمثابة “وداع لهذا الأمر برمته”.

تقلبات بريكست
مراقبون يتوقعون حصول بعض الفوضى وارتكاب أخطاء خلال الشهور الأولى التي تلي الخروج، قبل أن ينتظم القطار البريطاني على سكته الجديدة

على مدى خمسة أعوام هيمنت تقلبات أزمة بريكست المحمومة على الشؤون الأوروبية، وأرّقت أسواق الجنيه الإسترليني، وهزت سمعة بريطانيا كأحد الأعمدة الرئيسية التي يرتكز عليها الاستقرار الغربي اقتصاديا وسياسيا.

وصور المؤيدون للبريكست على أنه فجر جديد للمملكة المتحدة وكأنها ستنال به استقلالها، لكنه أضعف الروابط التي تجمع إنجلترا وويلز وأسكتلندا وأيرلندا الشمالية في اقتصاد واحد حجمه ثلاثة تريليونات دولار.

وقال رئيس الوزراء بوريس جونسون للبرلمان قبل ساعات من اعتماد اتفاقه التجاري مع الاتحاد الأوروبي “البريكست ليس نهاية بل بداية”. وقال للصحافيين مازحا وهو يبتسم في ما بعد إنه قرأ الاتفاق الذي وقعه.

غير أن جونسون الذي كان عنوانا لحملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، لم يسهب في الحديث عن تفاصيل ما يريد بناءه من خلال الاستقلال الجديد أو كيف سيفعل ذلك في الوقت الذي يقترض فيه مبالغ قياسية لسداد كلفة أزمة كوفيد – 19.

وعلى رغم أن بريطانيا استعدت بعقد اتفاقيات مسبقة مع دول أخرى خارج الاتحاد، إلا أن الفترة الانتقالية ستتطلب أولا استيعاب المؤسسات والموظفين للتبعات التشريعية والتنظيمية للانفصال عن الاتحاد. ويتوقع مراقبون حصول بعض الفوضى وارتكاب أخطاء خلال الشهور الأولى التي تلي الخروج، قبل أن ينتظم القطار البريطاني على سكته الجديدة.

وستواجه الحكومة البريطانية وحيدة تحديات تبعات كورونا، التي أثرت بشكل كبير على الإنتاج، وسببت إفلاس عدد من الشركات وتسريح الآلاف من العمال. كما أن كورونا أثر على مدخرات الخزينة العمومية التي صرفت عشرات المليارات من الجنيهات الإسترلينية كتعويضات للشركات التي كانت على حافة الإفلاس، وللأشخاص الذين فقدوا أعمالهم، وللمدينين الذين عجزوا عن دفع ما عليهم من مستحقات للبنوك.

وعلى الرغم من اتفاقية التجارة الحرة التي وقعتها لندن وبروكسل، يخشى موردو الأغذية والأدوية في بريطانيا من أن تؤدي التغييرات التي تم إدخالها بسرعة إلى تعطيل الإمدادات وزيادة التكاليف، ما يقوض مزاعم الحكومة بشأن مكاسب ما بعد بريكست.

وفي حين وعد جونسون قبل عام بصفقة “جاهزة تماما”، اشتكى اتحاد المأكولات والمشروبات من أنّ جونسون “سلمنا (الاتفاق) قبل أربعة أيام عمل” من مغادرة بريطانيا السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي في نهاية عام 2020.

وقالت رئيسة الاتحاد الوطني للمزارعين مينيت باترس إن الأعضاء “يتوقعون استمرار تعطل التجارة على الحدود”، رغم الاتفاق الموقع الأربعاء.

ومع اندفاع العديد من الشركات لطلب المزيد من البضائع أو تلبية الطلبات التي تأخرت بسبب عمليات الإغلاق الناتجة من فايروس كورونا، كانت مرافئ القنال الإنجليزي، ولاسيما دوفر، مكتظة بالفعل قبل إعلان التوصل إلى اتفاق.

وساء الوضع عندما أغلقت دول أوروبية حدودها مع بريطانيا لمدة يومين قبل عيد الميلاد في محاولة للحدّ من انتشار سلالة جديدة أكثر عدوى من كوفيد – 19.

وعلقت الآلاف من الشاحنات المتجهة إلى الموانئ وسط اختناقات مرورية هائلة واستغرق الأمر عدة أيام مع مساعدة القوات المسلحة للتغلب على الوضع.

وقال الرئيس التنفيذي لاتحاد الأطعمة والمشروبات إيان رايت إنّ “الفوضى التي سادت الأسبوع الماضي في دوفر وطبيعة اللحظات الأخيرة لهذا الاتفاق تعني أنه سيكون هناك اضطراب كبير في الإمدادات وسترتفع بعض الأسعار”.

ورغم أن اتفاق التسوية بين لندن والاتحاد الأوروبي أزال خطر الحصص والرسوم الجمركية، فإن جميع الفحوص والنماذج الجديدة التي يجب ملؤها ستستغرق وقتا وتزيد من تكاليف شركات الأغذية والأدوية، كما تشكو الجمعيات التجارية.

ويصل حوالي 30 في المئة من الأغذية المستهلكة في المملكة المتحدة من بلدان الاتحاد الأوروبي، إذ تستورد بريطانيا ما يقرب من نصف الخضروات الطازجة ومعظم الفاكهة.

لكن جون آلان رئيس شركة تيسكو العملاقة الرائدة في السوق، سعى إلى طمأنة المستهلكين وقال لمحطة “بي.بي.سي” إن التكاليف الإدارية الجديدة “لن تكون ملموسة من حيث الأسعار التي يدفعها المستهلكون”. لكن شركات المواد الغذائية الصغيرة لا تتمتع بأهمية تيسكو السوقيّة.

مخاطر الرعاية الصحية

تؤثر التغييرات أيضا على استيراد وتصدير الأدوية في خضم جائحة عالمية أودت بعشرات الآلاف في بريطانيا نفسها.

وقال مارك دايان من “ناففيلد تراست”، وهو مركز أبحاث مستقل للرعاية الصحية، في بيان إن الاتفاق لا يبدد الصعوبات بشأن “تدفق الإمدادات الحيوية إلى المملكة المتحدة”.

وأشاد بالاتفاق لجهة “الاعتراف المتبادل بعمليات التفتيش لمصانع الأدوية وبعض التعاون في الجمارك”، لكنه حذر من أن “الروتين في إدخال المنتجات الحيوية داخل وخارج المملكة المتحدة لا يزال يتضاعف”.

وحذّر من أن هذا سيجعل الأمر أكثر صعوبة وكلفة “للحصول على الإمدادات لهيئة الخدمات الصحية الوطنية أو بيعها بشكل تنافسي في أوروبا”.

وأوضح أنّه لم يتضح أيضا ما إذا كان الاتفاق ينص على الاعتراف المتبادل بمعايير أجهزة التنفس الصناعي وأقنعة الوجه الضرورية لمكافحة كوفيد – 19.

وفي حالة الأدوية ذات الصلاحية القصيرة، طلبت وزارة الصحة البريطانية “من الشركات التأكد من أنها تستطيع نقل هذه الأدوية من الاتحاد الأوروبي في حال انقطاع الإمدادات”، وفقا للجمعية الصيدلانية الملكية.

كما قالت إن الحكومة قامت بتأمين مساحة تخزين إضافية والمزيد من السفن مع إعطاء الأولوية لشحنات الأدوية على العبارات من مرافئ معينة.

ومع ذلك، كتب دايان في المجلة الطبية البريطانية، أنه بالنظر إلى الحاجة إلى “تحول لوجستي وقانوني كبير بين ليلة وضحاها” وانطلاقا من أن بريطانيا عانت نقصا في الأدوية الرديفة في السنوات الأخيرة، فإن “الوعد بعدم حدوث أي نقص سيتطلب كثيرا من الشجاعة”.

واعترف جونسون في مقابلة أجرتها معه “بي.بي.سي” الأربعاء، بقوله “ستكون هناك تغييرات”، لكنه أصر على أن بريكست سيؤدي إلى ازدهار تجاري من خلال “اتفاقيات التجارة الحرة مع دول أخرى حول العالم”.

العرب